رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

"هنا سيوة".. زيارة خاصة إلى أرض السحر

جريدة الدستور

تاريخهما يعود إلى 800 عام.. والأهالى يستخدمونهما فى إقامة «الحضرات»

إداريًا تتبع محافظة مطروح، لكن واقعيًا هى «لؤلؤة صحارى إفريقيا»، وملتقى حضارات الدنيا دون أى تنافر، فعلى رمالها الذهبية يحتضن معبد آمون زيارة الإسكندر الأكبر فيخبره كهنته بـ«سر الأسرار» الذى دفن معه، وتتجمع مومياوات الإغريق مع جثامين الفراعنة وتحتمى بمقابرهم فى «جبل الموتى»، الذى يحتمى نفسه بعشرات الآلاف من أشجار النخيل.

هنا تختلط الطبيعة مع الأسطورة، وتتردد حكايات عن جيش «قمبيز»، الذى اختفى فى الواحة، فلا تصدق ما تقرأ، حتى تشاهد مدينة «شالى» القديمة التى يعاد ترميمها فى الوقت الحالى، وكيف فكر من بناها منذ ما يقرب من ١٠٠٠ عام فى بناء مدينة تشبه «المتاهة» لحماية سكانها من المتطفلين.

أهلها من أطيب الناس، يحبون الغريب ويعشقون الواحة، ويتمتعون بتقاليد وعادات وخصوصية فريدة، تجعلهم أقرب لأبطال القصص الأسطورية. لذا يقولون عنها إنها «واحة السحر»، والبعض يحلو له تلقيبها بـ«واحة الغروب»، لكن الاسم الأقرب للواقع هو «النداهة»، فمن اقترب منها عرف، ومن عرف حرم على نفسه الابتعاد عنها، وسواء كنت أجنبيًا أو عربيًا، يزورها أيامًا، أو قرر الإقامة فيها بصفة دائمة، ستظل لا تعرف سرها الكبير، سر الجنة الأرضية المعروفة باسم «واحة سيوة».

مهندسون مسيحيون يرممون أقدم مسجدين بـ«الطين وجذوع النخيل»

أن تصل فى مكان يحتفظ بنفس تفاصيله القديمة منذ مئات السنين لهو أمر يجعلك تنتقل روحيا لتعيش فى أجواء مختلفة، وهو ما يمكن أن تحققه فى قلعة «شالى» بسيوة، حيث يمكنك الصلاة فى أحد مسجدين، يتجاوز عمر كل منهما ٨ قرون.
الأول هو «الجامع العتيق»، الذى بنته طريقة صوفية قبل ٨٠٠ عام، ورمم بالكامل فى السنوات القليلة الماضية، وبنيت مئذنته الخاصة وفق نفس نمطه القديم، وحسب الصور التى التقطها رحالة قدموا من أوروبا قبل عشرات السنين.
المسجد بطرازه الرفيع، الذى يقع أعلى جبل «إدرار»، دشنته الطريقة المدنية الشاذلية عام ٦٠٠ هجرية، على مساحة ١٠٠ متر، بعد بناء مدينة «شالى»، مستخدمة فى ذلك مادة «الكرشيف»، وغطى سقفه بجذوع النخل، وزود بمصلى ومئذنة مخروطية الشكل أشبه بالصوامع الشهيرة فى المعمار الأندلسى، وخلا منبره الحجرى من أى تفاصيل، وزودت درجاته الثلاث الموازية لجدار القبلة بطبقة من «الجص»، حتى يكون مطابقا لمنبر النبى فى مسجده بالمدينة.
المسجد الثانى هو «تطندى»، المعروف باسم «الشيخة حسينة»، الذى استمر ترميمه وبناء ما تهدم منه نحو عام ونصف العام حتى افتتح فى أكتوبر الماضى، بعدما أصبح صورة طبق الأصل من حالته فى الزمن القديم، كما يؤكد أهالى الواحة، وذلك من خلال تمويل مشترك بين المجلس الثقافى البريطانى وشركة «نوعية البيئة الدولية»، وهو مزود بمكان مخصص للنساء، وتستخدم ساحته فى إقامة الحضرة، التى يقيمها أهالى سيوة فى المناسبات الدينية.
والغريب فى مسجدى سيوة أن من تحمس لإعادة بنائهما وترميمهما، وحمل عبء إقامة المآذن التى انهارت، مهندسون مصريون مسيحيون، من بينهم «عماد» و«عزمى» و«مينا» و«يعقوب»، وآخرون شاركوا بصورة أكبر أو أقل، واستهدفوا إعادة المسجدين لسابق عهدهما، بنفس الصورة والمقاييس التى كانا عليها.
كما أن موثق مراحل الترميم أولا بأول هو المهندس مينا، بواسطة كاميرا صغيرة، التقط بها صور العمال، والذى يقول إنه وقع فى غرام المكان منذ رآه للمرة الأولى، معتبرًا أن أسعد لحظات حياته كانت عند افتتاح المسجدين بعد انتهاء ترميمهما.
ويتفق معه المهندس عماد فريد، المشرف على الترميم، قائلًا إنهم بذلوا جهودا كبيرة لإقناع الأهالى بالترميم، إذ «كيف يتقبلون مهندسا من القاهرة يرغب فى إعادة ترميم مسجد عمره ٨ قرون بالطين والطوب القديم دون أن يبنيه وفق العمارة الحديثة؟، وكيف تخبر الأهالى أنك ستستخدم فى ذلك أخشابا من أشجار الزيتون والنخيل وتستعين بعمالة متخصصة فى هذا النمط من البناء رغم أنها لم تعد موجودة؟»، مضيفًا أن «مشايخ القبائل والعواقل كان لهم دور كبير فى إقناع الأهالى، وعندما بدأنا العمل كان الجميع يساعد بقدر ما يستطيع».


الأهالى لا يعرفون الطلاق.. واللحوم هدية الضيوف فى الأعياد

قبل ٢٥ عامًا، بدأت أمانى غالى رفقة زوجها، زيارتها الأولى لواحة سيوة، لتتملكها الطبيعة الساحرة لدرجة لا تقاوم، وتجذبها طيبة أهالى الواحة، والتى تقول عنها: «كانت أكثر نقاءً من الطبيعة الخلابة، والزيارة كانت مبهرة عدت منها بمعارف وصداقات، خاصة بعد أن دخلت بيوت الواحة وتعرفت إلى نسائها، وعرفت منهن معنى الرضا، وكيف تكون المرأة هى عمود البيت».
«أمانى» لا تنقطع عن زيارة الواحة، وتسافر إليها على الأقل ٤ مرات خلال العام الواحد بصحبة زوجها وابنها الذى يدرس فى أوروبا، ورغم ذلك دائما ما يضع ضمن أولوياته زيارة الواحة خلال تواجده فى مصر، ويأتى برفقة أصدقائه من فرنسا وإيطاليا ودول أوروبا، للاستمتاع بطبيعة سيوة وجمالها.
تقول: «البلدة جميلة بأهلها، الناس هنا فى حالها ولا يتدخلون فيما لا يعنيهم، لكنهم يشاركونك فى كل شىء، وفى إحدى المرات عرف أصدقاء زوجى يوم ميلادى، وأصروا على أن نخرج ليلتها، إلا أنى اعتذرت لشعورى بالتعب، وبعد إلحاح منهم ذهبت أنا وزوجى وابنى، لنجدهم قد صنعوا لنا تورتة عيد الميلاد بالبلح، كان القمر مكتملا فى الصحراء، ليصبح أعظم يوم فى حياتى».
وتضيف أن «نساء الواحة عظيمات، ولسن مقهورات أو شيئا من هذا القبيل، فالست هنا لها كلمتها، والرجل يحترم زوجته، ويأخذ رأيها، ويأتمر بأمر والدته ولا يمكن أن يخالفه، كما أن الزوجة لا تشكو حماتها أبدا، وأنا عرفت الكثيرات ودخلت معظم بيوت الواحة طوال ٢٥ عاما، لم أشهد ذلك على الإطلاق».
وتروى أنها سألت ذات مرة سيدة من الواحة «لماذا لا تخرج الزوجة؟» و«لماذا ترتدى الفتاة ملابس تخفى كل شىء إذا تزوجت؟»، فقالت لها «زوجى هو فارس أحلامى وهو كل شىء بالنسبة لى، لا أريد أن يرانى غيره». وتشير إلى أن تعدد الزوجات ليس بالأمر المنتشر فى الواحة، ولا يعرف أهلها الطلاق، لكن إذا حدث ينتهى الأمر بهدوء شديد ودون مشاكل، إذ لا يسمح كبار ومشايخ الواحة أبدا بحدوث المشاكل، فلهم كلمتهم التى لا يمكن لأحد ردها، وفى حالة الطلاق تعود المرأة وترتدى ملابس الفتاة العادية حتى تتزوج من جديد. وتتذكر «أمانى» العام الماضى، عندما قررت العودة إلى القاهرة وسافرت يوم ٦ يناير، ولم يكن لديها أى وقت لتجهيز احتفالات العيد، لكنها وجدت الأصدقاء من أهل سيوة يضعون فى سيارتها لحوما وطيورا احتفالا بالعيد وانتهاء الصوم، وقالوا: «طالما مش هتلحقوا تعيدوا معانا، فده الأكل اللى كان هيتعمل لكم، خدوه لأنكم مش هتلحقوا تشتروا أى شىء».

«معبد الوحى».. هل دُفن الإسكندر الأكبر هنا؟

اختلفت الروايات حول مكان دفن الإسكندر الأكبر، لكنها اتفقت على القصة نفسها: خوض الحرب، والاجتماع مع كبير الكهنة لطلب البركة، والحديث عن سر لم يخبر به أحدًا، ثم الموت المفاجئ، ومن ثم تحنيط الجثمان على طريقة الفراعنة، ثم وضعه فى تابوت من الذهب الخالص، ونقله بعربة خاصة إلى مكان مجهول.
وبحسب الباحثة اليونانية ليانا سوفالتزى، التى ترأست بعثة حفريات فى واحة سيوة، فإن «الإسكندر الأكبر زار الواحة للحصول على بركة كهنة معبد آمون، وسؤالهم عن أبيه وعن مستقبله»، وهى الرواية التى دعمتها بصور ووثائق ورسومات. وعلى بعد ٤ كيلومترات من مركز واحة سيوة، يقف أحد المعابد شامخًا، يطلق عليه الأهالى أكثر من اسم من بينها «معبد آمون» و«معبد الوحى» أو «التنبؤات»، وأخيرًا «معبد الإسكندر».
وعن قصة المعبد، يقول أحد المرشدين السياحيين هناك: «سيوة كانت ملتقى الطرق التجارية فى العالم القديم، لربطها بين طرق إفريقيًا شرقًا وشمالًا وغربًا، ما جعل إقامة معبد لنشر ديانة آمون أمرًا ضروريًا، وهو ما تم بالفعل، وعقب دخول الإسكندر إلى مصر عام ٣٣١ ق.م، زاره وجلس مع الكهنة منفردًا، وتم تتويجه».
ويضيف «يقال إنه خرج يحكى عما دار فى الجلسة، عدا شيئًا واحدًا، قال إنه سيحكيه بعد أن يخبر به والدته، ولم يمهله القدر مزيدًا من الوقت ومات دون ذلك، وهنا تظهر روايات مختلفة عن مكان الدفن إحداها تتحدث عن أنه تم دفنه داخل المعبد».
المعبد يتكون من ٣ أجزاء، المعبد الرئيسى، وقصر الحاكم، والجناح المخصص للحراس، وبه بعض الملحقات منها «البئر المقدسة» التى يتم فيها الاغتسال والتطهر من قبل القادمين لاستشارة الوحى، كما يضم مسجدًا ومئذنة تم إنشاؤهما مع دخول الإسلام إلى مصر، حتى إن النظرة الأولى إلى المعبد، تؤكد أنه يجمع بين طابع فرعونى خالص، والثانى بطلمى أضيف إليه الطابع الإسلامى. وفى الطابق الثانى من المعبد يمكن مشاهدة جميع منازل سيوة وبحيراتها المالحة، ومزارع النخيل الأخضر التى تحيطها، وكذلك المعالم الأثرية الأخرى والجبال التى تحد الواحة.
ولا يزال المعبد محتفظًا بظاهرة فلكية، هى تعامد قرص الشمس عليه مرتين كل عام، خلال الاعتدال الربيعى، والاعتدال الخريفى، وترصد الظاهرة اليوم الوحيد فى العام الذى يتساوى فيه الليل والنهار بعد ٩٠ يومًا من أقصر نهار فى العام، ويقع أطول نهار فى العام بعده بـ٩٠ يومًا.

انتشار واسع لـ«الأنيميا المنجرية».. والرعاية الصحية ضعيفة

الرعاية الصحية هى أكبر مشكلة تواجه أهالى سيوة، إذ لا تتوقف شكواهم من عدم توافر أطباء أكفاء فى الواحة، واعتمادهم على القوافل الطبية، سواء التى تسيرها جامعة الإسكندرية، أو التى توفدها هيئات دولية من وقت لآخر.
ويعانى أهالى الواحة من «المنجرية»، أحد أنواع الأنيميا، التى تحتاج أجهزة تحاليل خاصة وتعاملا طبيا مختلفا، فضلا عن حاجة المرضى لتغيير الدم بشكل مستمر، لذلك يسافر المصابون بها إلى مطروح، لتلقى العلاج، وهو أمر بالغ الصعوبة على كثيرين منهم.
ويلخص الشيخ عمر راجح، أحد مشايخ سيوة، الأزمة الصحية فى الواحة، بقوله: «لا نريد أكثر من توفير أطباء يواظبون على الحضور ويتواجدون فى مكان عملهم»، متسائلًا: «هل هذا كثير؟»، ويضيف: «رغم رواج حركة السياحة فى الواحة، وقدوم الوافدين من أنحاء العالم إليها، لا يزال بعض المسئولين يعتبرونها منطقة نائية، وهو أمر غريب جدا، فسيوة بلد سياحى ذو شهرة عالمية، ومن الضرورى توفير رعاية صحية للأهالى والزوار».
ويكشف أنه تم توفير معمل تحاليل متكامل، بتبرعات ومشاركات من شخصيات وجهات محترمة، وجار التنسيق وإنهاء الأوراق والتصاريح، ليبدأ فى خدمة الأهالى، مشيرا إلى أن مشايخ الواحة يسعون إلى عقد بروتوكولات تعاون مع المحبين من كبار الأطباء فى جامعة الإسكندرية، قائلًا: «هم أشخاص أفاضل يحبون الواحة ويزورونها باستمرار ويريدون المساعدة بأى شىء».
ويضيف الشيخ عمر: «لا نريد أن نثقل على كاهل الدولة بمطالبات فى هذه الظروف، لذا نسعى بكل قوة لتوفير أى شىء تحتاجه الواحة بالجهود الذاتية وبالتبرعات، وبعلاقاتنا مع من يزور الواحة ويريد أن يساعد فى أى شىء، فمشايخ القبائل هم سند ودعم للدولة المصرية»، داعيًا إلى إنشاء حساب فى أحد البنوك المصرية، لتمويل ودعم المنظومة الصحية فى الواحة، التى تعانى من نقص الكوادر الطبية المؤهلة لخدمة الأهالى البالغ عددهم ٣٥ ألف نسمة تقريبًا. وقالت إيناس المدرس، المشرفة على مركز الطفولة والأمومة، إن شيوخ القبائل اقترحوا دعم المركز بمعمل التحاليل الموجود بالفعل، ويتبع إحدى الجمعيات الأهلية بالواحة، بدلا من شراء معدات جديدة، خاصة أن سيوة لا تفتقر للتجهيزات الحديثة لكن للكوادر التى تديرها. وأضافت: «المركز يستهدف علاج حالات الأنيميا المنجرية، المنتشرة بالواحة نتيجة زواج الأقارب، وتوفير خدمة صحية للسيدات، خاصة أنهن يعانين من عدم وجود وحدات متخصصة لطب النساء، ما يضطرهن للسفر لأكثر من ٤ ساعات لمدينة مرسى مطروح، لتلقى العلاج، وفى بعض الأوقات تتوفى الحالة قبل وصولها للمستشفى نتيجة بعد المسافة».

فندق «أدرير إميلال»: بدون خرسانة.. أسقف من سعف النخيل.. ومنع التليفزيون والموبايلات «إجبارى» على النزلاء

فى عام ١٩٩٤، كان الوضع مختلفًا فى سيوة، فبحسب المهندس المعمارى رامز عزمى، المسئول عن تصميم وتطوير عدة مشروعات فى الواحة، اقتصرت الاتصالات حينها على بعض الخطوط الأرضية القليلة، وكانت المحال والمطاعم بأعداد محدودة للغاية، فى مقابل مشاهد ساحرة تجذب كل من يريد العودة إلى «الطبيعة البكر».
ووسط هذه الأجواء، جاءت فكرة فندق «أدرير إميلال» أو «الجبل الأبيض»، الأغرب فى العالم، الذى لا يعرف التلوث ويتجدد فيه نشاط البشر، ويحظى باهتمام رؤساء وحكام ووزراء وسفراء وأثرياء العالم، من أجل الإقامة بداخله لعدة أيام، بحسب مصممه المهندس رامز.
ورغم أن الفندق يتيح لعملائه إمكانية الحجز عبر الإنترنت وشركات السياحة، إلا أنه يختلف عن غيره لاعتماده شرطا رئيسيا هو أن توافق الإدارة على النزيل، الذى لا يشترط فيه أن يكون ثريًا وقادرًا على دفع سعره المرتفع، الذى يبدأ من ١٨ ألف جنيه فى الليلة الواحدة، بل المهم هو أن يحافظ على راحه النزلاء ولا يكون معروفا بإثارته الضجيج.
الفندق الذى تبلغ مساحته ٧٤ فدانا لا يضم سوى ٤٢ غرفة فقط، وهو ما يفسره «عزمى» بقوله: «وزارة السياحة والمسئولون وقتها تعجبوا جدا من عدم احتوائه على عدد ضخم من الغرف، خاصة أن مساحته تلك كافية لأن يضم نحو ٤ آلاف غرفة على الأقل، لكن جاء هذا التصميم من أجل دفع فكرة العودة للطبيعة، وذلك باختيار موقعه ليكون مطلا على بحيرة (فنطاس)، التى يشهد الزوار عندها غروب الشمس»، مضيفًا: «يقع الفندق فى حضن (جبل جعفر)، الذى سمى على اسم أحد أولياء الله الصالحين، ولا يزال مقامه موجودا، واحتفاله يقام سنويا، وربما يكون الحدث الوحيد الذى يشهد ازدحاما فى الواحة».
ويشير إلى أن الفندق تم إنشاؤه كاملًا بدون خرسانة، وألحقت به مزرعة ونبع ماء، وتحيطه أشجار الزيتون والنخيل، ويطل على بيوت سيوة القديمة، مع الاعتماد على الطبيعة فى كل شىء حتى الإضاءة والصرف الصحى، موضحًا أن ذلك نبع من محاولتهم «العودة إلى الطبيعة فى كل شىء عند إقامة الفندق».
ويتابع: «كان أكبر تحد لنا هو الصرف الصحى، حتى ظهرت فكرة إقامة بركة متدرجة، مزودة بفلاتر من الرمال والزلط مختلف الحجم، على أن تنمو بها أنواع من البكتيريا اللاهوائية، لتخرج منها فى النهاية مياه نقية يمكن أن تستخدم فى رى التربة»، وهروبا من استخدام الخرسانة والأسمنت، استخدم مصممو الفندق مادة «الكيرشيف» الطينية الطبيعية، كمادة بناء أساسية، وكونوا الأسقف من سعف النخيل وجذوعه.
ويواصل حديثه: «من يأتون هنا يستمتعون بالإقامة فى مبنى بلا كهرباء، وينامون على أضواء الشموع، ويتخلون عن التليفزيون والهواتف المحمولة وكل ما هو عصرى»، ولعل ذلك هو ما جذب ضيوف من طراز خاص، مثل ملكة بلجيكا السابقة، ورؤساء أكبر الشركات الاقتصادية فى العالم، وعدد من السفراء والأمراء ورؤساء الحكومات.
فى الفندق جناح خاص يحمل اسم «الأمير تشارلز»، وهو الاسم الذى أطلقه عليه رواد المكان، بعدما أقام ولى عهد إنجلترا به بصحبة زوجته «كاميلا» بعد زواجهما، من أجل الراحة والخصوصية، لذا حافظت إدارة الفندق على اسم الجناح، نظرا لما تسبب به من شهرة عالمية للمكان. ولإكمال المشهد البيئى، كما يروى المهندس رامز عزمى، قرر الفندق تقديم أطعمة صحية تخضع لاختبارات تذوق قاسية، عبر فريق من المتخصصين الذين يدرسون طرق إعداد الطعام ويطورونها حتى تكون ملائمة للمكان وطبيعته.

اكتشاف 70% من قلعة المتاهة «شالى».. ومشروع لإعادة بنائها

قبل نحو ١٠٠٠ عام، فكر ٤٠ رجلًا فى بناء مدينة محصنة تحميهم من الغزاة الذين يتوافدون بين الحين والآخر على واحة سيوة، طمعًا فى الحياة الرغدة فيها وعيون المياه الدافئة والباردة، وأشجار الزيتون والنخيل والنباتات التى تمنح الصحارى لونًا أخضر يسر الناظرين على مرمى البصر، فكانت مدينة «شالى».
ما تبقى من «شالى» يشير إلى عقلية عسكرية وهندسية جبارة، وصل إليها أشخاص يفترض فيهم أنهم لم يحصلوا على أى قدر من الدراسة، فهى قلعة بمعنى الكلمة، مبنية فوق تبة عالية، وتحيطها وتعلوها أسوار تمنع الغريب من الاقتراب، وحتى لو فكر فى الاقتراب منها سيفشل فى الاقتحام.
الشوارع الداخلية والتقسيمة وفرت نوعًا من الأمن للأهالى أثناء نومهم، فالشوارع ضيقة، تتفرع يمينًا ويسارا فى شكل أشبه بـ«المتاهة» التى يعرفها إلا من يسكن فيها، لذا فإن أى غريب ينجح فى الدخول إليها لن يعرف كيف يتحرك يمينا أم يسارا، أماما أم خلفا، لأعلى أم لأسفل، حتى يجد نفسه وقد سحب من أحد الأبواب بواسطة الأهالى الذين يكتشفونه وتنتهى حياته، ولهذا السبب أطلق عليها اسم «مدينة المتاهة». المهندس عماد فريد، استشارى مشروع إعادة إحياء مدينة «شالى» التراثية الأثرية.
ويقول: «انهارت معظم المبانى، وغالبية البيوت اختفت ملامحها وتاهت الشوارع فى الردم، لذا استعنا بالأرشيف القديم فى مؤسسة الأهرام، وفى مؤسسات دولية فى الخارج، ومعارض فى أوروبا تعرض صورًا نادرة لمصورين رحالة كانوا يهتمون بمثل هذه المناطق، ووجدنا بالفعل صورا رائعة، وبدأنا المشروع».
بعد ذلك بدأت مرحلة الترميم وإعادة البناء فى الفترة من يناير ٢٠١٧ حتى يونيو ٢٠١٨، بداية من مسجد «مقبل»، تحت إشراف وزارة الآثار، يقول «فريد»: «أولى المهام كانت العثور على العمال المهرة الذين كانوا يبنون مثل هذه البيوت، ويستخدمون سعف النخيل فى البناء، وآخرين يجيدون ترويض التربة ليخرجوا منها مواد البناء التى تشبه ما كان يستخدم قبل مئات السنين».
ويضيف: «استهدف المشروع تدريب ١٠ من أبناء سيوة، نصفهم تحت سن الـ٣٠ عامًا، ليشاركوا فى ترميم المسجد، الذى انهار جزئيا أثناء وقوع زلزال فى تسعينيات القرن الماضى، والحيلولة دون انقراض فن البناء التقليدى باستخدام (الكرشيف)، وهى المادة البيئية التى تبنى بها العمارة التقليدية فى الواحة، بجانب إيجاد جيل جديد من الحرفيين يستطيع ترميم المبانى الأخرى المبنية بالكرشيف، والمحيطة بـ(شالى)».
وتضمن مشروع إعادة ترميم «شالى» أيضًا، وفق المهندس رامز عزمى، المشرف على تنفيذه، إعادة اكتشاف طرقها وبناء السور الخارجى، الذى كان ارتفاعة أكثر من ٢٢ مترا، أى ما يعادل ٨ طوابق»، مشيرًا إلى أن المشروع بدأ فى فبراير ٢٠١٨ ويستمر حتى منتصف ٢٠٢٠.
وبحسب «عزمى» و«فريد»، جرى بالفعل اكتشاف العديد من الشوارع والحارات المغلقة فى المدينة الأثرية نتيجة انهيارات الكتل المبنية، ما أتاح التعرف على الشكل الحقيقى للمدينة بنسبة ٧٠٪، فضلًا عن إنشاء وتجهيز مركز صحى لرعاية الأمومة والطفولة، هو عبارة عن عدة منازل، كانت أول سكن لأهالى المدينة خارجها على حافة الجبل، ويضم وحدة لرعاية الأطفال، وأخرى لرعاية الأمهات، ومعملًا، ومن المقرر إنهاؤه على الطراز السيوى خلال عام.
ارتفاع

ليبية هربت من جحيم أردوغان إلى صناعة الصابون

«من زار.. عرف»، لذا كل من يضع قدميه فى أرض سيوة يقع فى غرامها، وهناك تجد عربًا وأجانب وسكانًا من الوادى والدلتا جاءوا استجابة لـ«نداهة» الواحة، حتى صاروا منها وصارت منهم، ومن بينهم زينب بنت عثمان، المولودة لعائلة ثرية ليبية فى عهد العقيد الراحل معمر القذافى. «زينب» تجولت فى بلاد العالم مع والدها ثم مع زوجها، وأنجبت ابنتها الوحيدة التى تدرس حاليا فى كندا، وبعد وفاة زوجها وتدهور أوضاع ليبيا وجدت نفسها وحيدة تبحث عن أهل ووطن، فسافرت إلى تركيا، لكنها فشلت فى تعلم لغتها وفى التعامل مع الأتراك، كما فشل عملها فى التجارة. وداخل السوق المصرية أو «شارع المصريين» فى إسطنبول، تعلمت طريقة جديدة لتصنيع الصابون من المواد الطبيعية مثل زيت الزيتون، فأعجبتها كثيرا وقررت أن تدخل عليها بعض التعديلات، عبر تجربة أشياء غير مألوفة فى تصنيعها، مثل الشاى الأخضر والليمون، وغيرهما، وبسبب عدم تأقلمها مع الحياة فى تركيا، قررت المجىء إلى مصر، انتظارا لهدوء الأوضاع فى ليبيا.
فى مصر، استقر بها الحال مؤقتا بمحافظة الفيوم، إلا أن تعرضها لمشكلة مع مالكة المنزل انتهت برحيلها عن المحافظة وبحثها عن مقر جديد للإقامة، ثم تلقت اتصالا من ابنتها المقيمة فى كندا تخبرها فيه بمجيئها لزيارة واحة سيوة على سبيل السياحة، ورغبتها فى لقائها هناك، وما أن خطت قدماها الواحة شعرت بالأمان لأول مرة منذ سنوات، وأصبحت تذهب يوميا إلى المزارع للحصول على البذور والأوراق التى تمكنها من صناعة الصابون من المواد الطبيعية. الإقامة فى الواحة، كما تقول «زينب»، جعلتها تطور منتجاتها، وتستعين بأفكار جديدة فى صناعة الصابون اليدوى، خاصة أن المال ليس هدفها من الصناعة، التى يمكنها أن تستعين فيها بآلات تخرج الآلاف من قطع الصابون يوميا، بل إن هدفها الرئيسى هو متعة العمل اليدوى. مع الوقت تعددت منتجات «زينب» وأخرجت أنواعا أخرى من الصابون، التى تستخدم لمنع تساقط الشعر أو تنعيمه أو تنقية البشرة أو غير ذلك، وفقا لما يتوافر لها من مواد طبيعية لا توجد إلا فى سيوة، ما صنع لها اسمها وزبائن من بين زوار الواحة.

دفن سيارة السفير الأمريكى تحت الرمال على بعد 10 كم من ليبيا

فى واحة سيوة هناك نحو ٤٠ سائقا يقودون سيارات الدفع الرباعى على الرمال، ويعملون بالمهنة، وأكثر منهم من الأهالى الذين يهوون المغامرة، وبينهم الشيخ عبدالله باغى، الذى كان شابًا يقود السيارات صباحًا وفى الظهيرة والليالى القمرية وحالكة السواد، حين تكون النجوم هى وسيلة أساسية لمعرفة الطريق.
يروى «باغى» عن فترات سابقة قبل ثورة ٢٥ يناير، فيقول: «كانت سفارى سيوة لا تتوقف على الإطلاق طوال الـ٢٤ ساعة وفى مجموعات كثيرة، حتى إن أضواء السيارات كانت تحول ليل الصحراء إلى نهار.. ما حدث بعد ٢٥ يناير فى مصر حدث فى الواحة، ولم يعد السياح يأتون بنفس الأعداد الغفيرة».
لا ينسى «باغى» ما حدث مع سفير أمريكا فى القاهرة، الذى كانت له واقعة شهيرة فى صحراء سيوة «وقتها كانت الأزمة مشتعلة فى الشرق الأوسط، فالتخلص من صدام وإزاحته عن الحكم كان مسألة وقت لا أكثر.. الأجواء كانت ملتهبة جدًّا، لذا لم يتوقع أحد أن يحضر سفير أمريكا إلى الواحة ليريح أعصابه، ثم يطلب أن يخرج فى رحلة سفارى».
كان «باغى» موجودًا وقتها، تحرك بسيارته ليصاحب السفير وحراسته. قبل الدخول إلى منطقة الكثبان الرملية، حيث مكان السفارى، توقف ليطلب من السفير الانتقال من سيارته إلى سيارة أخرى تناسب المكان، وكانت سيارة السفير تشبه سفينة عملاقة ذات دفع رباعى، صحيح أنها ذات دفع رباعى، لكنها ضخمة جدًّا وثقيلة جدًّا، حاول «باغى» أن ينبه السفير فوجد السائق يسخر من كلامه ويشير إلى السيارة وكأنه يقول إنها مصنوعة خصيصًا لمواجهة كل الظروف.
رفض «باغى» الدخول فى مهاترات مع السائق وركب سيارته وانطلق أمامهم. دقائق وكانت سيارة السفير تغطى الرمال نصفها الأمامى، فانزعج الجميع وهرولوا لإنقاذه. كان الوضع خطيرًا جدًا.. هم على بعد ١٠ كيلومترات فقط من ليبيا، يمكن أن يحدث أى شىء، فتم إخراج السفير ووضعوه فى سيارة أخرى وعادوا به للفندق، بينما حاول «باغى» إخراج السيارة ووضع لها معدات السحب التى معه وفشلت، ثم أرسل فى طلب مزيد منها من الواحة وتم إخراج السيارة بصعوبة وسط خجل شديد من سائقها.


القمامة سماد عضوى.. والأكياس قماش

«أهم ما يميز واحة سيوة أنها تحافظ على البيئة».. حقيقة يقرها عبدالله الأتربى، الخبير الدولى فى إدارة المخلفات الصلبة، وأحد المهتمين بالواحة، بحكم عمله على فترات هناك، وحرصه على الاستمتاع بما تتميز به الواحة ويهتم به كل معنى بالبيئة فى العالم. ويكشف عن أن أهل سيوة لا يخرجون أى مخلفات، كما هو الحال فى جميع أنحاء الجمهورية، موضحًا أن «المرأة السيوية لديها شباك فى مطبخ منزلها مرتفع- حتى لا يكشف البيت- تلقى من خلاله المخلفات إلى حوش المنزل فتتجمع فى أكوام، ثم تتحلل إلى مواد عضوية وسماد، ومع موسم التسميد تؤخذ ويسمد بها الزيتون وغيره من الزراعات، كسماد طبيعى لا يحوى أى مواد كيميائية».
أما المخلفات الأخرى التى لا تتحلل مثل الزجاج والبلاستيك والعلب فيعاد استخدامها بعد تنظيفها، بوضع البلح والزيتون بها وبيعها، وفق «الأتربى»، الذى أضاف: «المشكلة كانت فى الورق والأكياس البلاستيكية التى انتشرت، وهو ما عملنا عليه بإدخال فكرة الحقائب والأكياس المصنوعة من القماش، بأشكال تناسب البيئة فى الواحة، ولم نكتف بذلك، بل علمنا طريقة صناعتها للسيدات هنا». ويخلص إلى أن «مخلفات سيوة تتنوع ما بين زجاجات مياه بسبب الزيارات والسياحة، ويتم إعادة استخدامها، وأكياس بلاستيكية جارٍ التعامل معها، بجانب مخلفات معدنية ستجمع من خلال تجار الخردة فى ورش، أما مخلفات البيوت والجناين فيتم تكميرها لمدة ٦ أشهر وإعادة استخدامها سمادًا عضويًا».


«جبل الموتى».. الحرب تكشف كنوز الفراعنة والإغريق

الصدفة وحدها كانت السبب فى واحد من أهم الكشوف الأثرية فى منطقة الصحراء الغربية، فأجواء الحرب العالمية الثانية كانت تشير إلى أن سيوة ستشهد معركة كبرى، فقرر عدد من الأهالى الفرار، ولم يكن أمامهم سوى منطقة جبلية مفعمة بالأساطير، وما أن قاربوا منها حتى تأكدوا أنهم أمام موقع أثرى متكامل، لم تمتد إليه أيدى اللصوص، وكل شىء موجود على حالته: المقابر والمومياوات وغرف الدفن، التى تعود للأسرة الـ٢٦ وتمتد حتى عصور البطالمة والرومان. هذه المنطقة هى «جبل الموتى» الذى يتميز بشكله المخروطى، ويبلغ ارتفاعه نحو ٥٠ مترًا، ومنحت تربته الجيرية خصوصية للمقابر التى تمتد من الأسفل للأعلى، ونحتت فى صفوف منتظمة بحرفية شديدة فى بطن الجبل، كأنها خلية متقنة الصنع، تشهد على تكامل الفن المصرى القديم، والفن اليونانى، فى نموذج تاريخى لتلاقى الحضارات، لكن مع اندلاع ثورة ٢٥ يناير اختفى العديد من المومياوات والقطع الأثرية التى ضمها الجبل لعصور طويلة.
عند مقبرة «سى آمون»، قال أحد أهالى سيوة، إنها ترجع لثرى إغريقى، عاش فى الواحة ودفن فيها، وبنى مقبرته على الطرازين الفرعونى واليونانى، مقررًا أن يقرن اسمه باسم الإله آمون، تعبيرًا عن حبه له.