رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أتحبـُّنى؟


مجموعة من الطالبات الجامعيات بإحدى كليات جامعة القاهرة كن فى وقت من أوقات الراحة يقضين وقتهن فى كليتهن فى تسلية بريئة، عن طريق أن كل طالبة تذهب وتفتش الحقيبة الدراسية لزميلاتها للبحث عن الكنز المخفى بها!!، وإذا بإحداهن تأخذ حقيبتها الدراسية وتنصرف بعيدًا عنهن!!، لاحظت إحدى زميلاتها تصرف صديقتها هذه، فذهبت إليها وسألتها عن سبب ابتعادها عنهن؟، ولكنها أصرت على ألا تفتح حقيبتها الدراسية!!، ولكن بدالّة المحبة التى بينهن وافقت أخيرًا أن تسمح لها بفتح الشنطة لترى ما بداخلها!!. وجدت الصديقة شيئا مذهلا، وجدت الحقيبة مليئة ببقايا طعام قامت الطالبة بتجميعه من مائدة الطعام الموجودة بكافتيريا الكلية!!.
سألتها: لماذا فعلتِ هذا؟، أجابتها: نحن عائلة فقيرة وفى منزلنا لا يوجد طعام من أجل إخوتى، فاعتدت أن أعود إلى المنزل بهذا الطعام ليأكل منه إخوتى!!، أخذت الصديقة تبكى على حال صديقتها وعانقتها بحب، وقررت أن تتعاون معها فى إعداد طعام مناسب لها ولإخوتها. ومن تلك الواقعة تأسست فى القاهرة مؤسسة خيرية تحمل اسم «أتحبنى؟»، وبدأ أصحاب القلوب الرحيمة يتعاونون مع تلك المؤسسة ويقدمون لها المساعدات المناسبة من كل شىء، وأخذت المؤسسة تنمو رويدًا رويدًا حتى استطاعت أن تلبى احتياجات عدد كبير من الأسر المحتاجة.
وفى الإسكندرية يقوم بعض الشباب والشابات بعمل مماثل ويذهبون إلى أطفال الشوارع المشردين لتقديم الطعام والكساء لهم ورعايتهم صحيًا ويقدمون لهم كل المساعدات الممكنة. وأخبرونى بأنه فى إحدى المرات تأخر أحد هؤلاء الشباب عن الحضور مع زملائه لتقديم تلك المساعدات، فما كان منه إلا أن استأجر سيارة «ميكروباص» ووضع بها ١٠٠ وجبة من الطعام وقام بتوزيع الطعام على هؤلاء الأطفال من غرب الإسكندرية حتى منطقة المنتزه فى الشرق، وقام الأخ السائق بمساعدته فى التوزيع. وبعد أن انتهيا من هذا العمل الرائع طلب هذا الشاب من السائق معرفة أجرة تأجير «الميكروباص» طوال هذه الفترة، فرفض السائق بإصرار- وكان من إخوتنا المسلمين الأعزاء- وقال للشاب: «أنت عندما كنت تقوم بتوزيع وجبات الطعام لم تسأل الطفل عن ديانته، فكيف تستكثر علىّ أنا أن لا آخذ ثوابًا فى هذا العمل الإنسانى مثلك!!». الإنسانية لا تتجزأ، والعمل الإنسانى لا يكون بالكلام والعظات وأمام عدسات الإعلام، ولكن بالقول والفعل، بلا رياء ولا مظهرية كاذبة وخادعة.
ما أروع أن يكون لدينا قلب يُشفق على المحتاجين ولن نتمتع بالرصيد الذى لدينا إن كنا نبخل على الفقير والمحتاج واليتيم. وأتذكر قديمًا قرأت مقالًا لشاب مستنير له قلب ممتلئ بالرحمة يُسمى «نظير جيد» سجل مقالًا فى فترة الخمسينيات بعنوان «شيطان الرصيد» عدد فيه مساوئ الأرصدة التى نكتنزها دون الشفقة على الفقراء والمساكين. هذا الشاب صار بعد ذلك البابا شنودة الثالث «١٩٢٣- ٢٠١٢». وكان البابا شنودة يتمتع بفضيلة العطاء الفائقة دون حساب، وفى يوم من الأيام قال له بعض المحيطين به «إنه فى وسط هؤلاء المحتاجين يتسلل بعض المحتالين»، فقال لهم قوله البليغ والموزون والحكيم: «نعطى للمحتالين من أجل المحتاجين». يا لسعادة الرحماء على المساكين.
وللأمانة والتاريخ سأذكر تلك القصة الواقعية التى حدثت أمامى وكنت قريبًا من أحداثها. فى أبريل ١٩٩٧ حضر البابا شنودة إلى الكنيسة المرقسية بالإسكندرية، ما إن وصل حتى وجدت طفلًا حافى القدمين تسلل من أسفل كراسى الكنيسة حتى تمكن من الوصول إلى البابا فى غيبة من سيطرة المنظمين فى الكنيسة. ما إن رآه البابا شنودة حتى أشار إليه للاقتراب منه ووضع يده اليسرى على كتفه اليسرى وبدأ الطفل يهمس فى أذن البابا. فى تلك الأثناء سمح السادة المنظمون للأطفال الصغار الأغنياء بأن يقتربوا من البابا لالتقاط الصور التذكارية، رحب بهم البابا وباركهم، لكن يده اليسرى ما زالت على كتف الطفل الفقير حتى لا يُبعده أحد، وتم التقاط مجموعة من الصور «وما زلت محتفظًا بتلك الصور التى أحضرها لى مصور البابا». بدأت الصلوات التى استغرقت حوالى الساعتين وبعد أن انتهت وجدت البابا يشير إلى الطفل المسكين للاقتراب منه- وقد كنت قريبًا من تلك الواقعة- إذ وجدت البابا شنودة وضع يده اليمنى فى الجيب الأيسر الأعلى من ملابسه وأخرج مبلغًا من المال وسلمه فى الخفاء للطفل الصغير والفقير. ففرح الطفل بما أعطاه له البابا، وخرج فرحًا لأنه سيتمكن من قضاء العيد بملابس جديدة. مازلت أتذكر هذه الواقعة بكل تفاصيلها حتى بعد أن انقضى عليها نحو ٢٢ عامًا، لكن أعمال الأبوة الفائقة لا تُنسى، سواء على الأرض أو فى السماء.