رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الأديب الجزائرى الحبيب السايح: «اللايكات» لا تصنع روائيًا.. و«فيسبوك» سفينة للحمقى

الأديب الجزائرى الحبيب
الأديب الجزائرى الحبيب السايح

روايته «أنا وحاييم» وصلت إلى القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية
«دكاكين النشر» وراء فوضى الروايات فى العالم العربى الآن
تحالف سياسى دينى لقمع كل ما يعرى الفساد ولا أضع القارئ فى ذهنى

الروائى عنده لا يسجل إلا تاريخه، لذلك فهو لا يكتب سوى ألمه، يرى الرواية فعلَ سردٍ واعيًا وصارمًا، وأنه لا مشروع لكاتب إلا فى داخل اللغة.. إنه الروائى الجزائرى الحبيب السايح، الذى دخل بروايته الأخيرة «أنا وحاييم» القائمة الطويلة لجائزة «البوكر» العربية.

«السايح»، المولود عام ١٩٥٠، له الكثير من الروايات والمجموعات القصصية، فضلًا عن الترجمات، كما أن روايات كثيرة له ترجمت إلى اللغة الفرنسية. «الدستور» التقته فى حوار تحدث فيه باستفاضة عن تجربته، ورؤيته للعديد من الأمور المتعلقة بفن الرواية، وواقع الرواية الجزائرية.

■ بداية.. كيف رأيت وصول «أنا وحاييم» لجائزة «البوكر»؟
- من النزاهة ألا أخفى شعورى بغبطة، لاختيار «أنا وحاييم» ضمن القائمة الطويلة من بين ذلك العدد من الروايات، وهو شعور يقاسمنى إياه، بلا شك، جميع القراء الذين تسنت لهم فرصة الاطلاع على الرواية، وأراه دلالة على أن الرواية فى الجزائر، المكتوبة بالعربية، تأخذ لها مساحة ومكانة معتبرتين فى مشهد السرد العربى.
ويزداد هذا الشعور مع اعتبارى لنفسى واحدا من بين كتاب الرواية الجزائريين الآن، الذين يضيفون إلى مسار المؤسسين بعدًا جديدًا فى الرؤية والتجريب والأساليب، وأعتقد أن نص «أنا وحاييم» يمكن وضعه فى هذا الاتجاه.
■ هل يمكن للجوائز أن تعيد ترسيم خارطة الأدب فى العالم العربى؟
- الجائزة، أيًا كان نوعها وطبيعتها ووزنها، خاصة تلك التى تجلب اهتمام الكتاب أنفسهم والقراء وتحظى بتغطية إعلامية واسعة ومؤثرة، تحدد توجهًا للرأى العام الأدبى، لمدة معينة، نحو هذا البلد أو ذاك الذى يفوز كاتبه بهذه الجائزة أو تلك، وتوسع من دائرة انتشار الكاتب أفقيا، وترفع من نسبة القراء، وتعدل لديهم الذوق، بلا ريب.
لكن، حتى لو كان لأى جائزة كل هذا التأثير، سيبقى للرواية الأخرى، التى لا تدخل المنافسة أو دخلت ولم تتوج، أثرها فى ترسيم تلك الخارطة، فهى الآن، أى الرواية، أكثر ارتباطًا ببيئتها الجغرافية وتجربة بلدها التاريخية والسياسية وتحولاته الاجتماعية والثقافية.
ولعل هذا راجع إلى مسألة الهويات التى أضحت اليوم أحد محركات الكتابة الروائية فى العالم العربى، وعليه، يمكن القول إن تلك الخارطة، مهما يكن رسمها، ستظل متحولة المواقع، ليس بفعل ما تحدثه الجوائز، فحسب، ولكن أيضا بما تسهم به الكتابات الروائية الجديدة فى كل بلد من بلدان العالم العربى.
■ عانت روايتك الأولى من المنع والمصادرة.. كيف ترى تلك التجربة؟
- تجربتى الشخصية مع مصادرة روايتى الأولى «زمن النمرود» (١٩٨٥) على قدر قسوتها ومرارتها، خلال حكم الحزب الواحد فى الجزائر، شكلت لدى رؤية أخرى للكتابة، ولا أدرى إن كان جميع الكتاب الذين تعرضوا للمراقبة والحظر والمصادرة أحسوا أن هناك أساليب أخرى مختلفة للإفلات من شبكة الرقيب، الأخلاقى والسياسى والدينى.
فلا كاتب فى العالم العربى بمنأى عن سلطة الرقابة، حتى ولو كانت رقابة بعدية، كما هى الحال فى الجزائر، فإلى وقت قريب كان سيف الرقابة فى العالم العربى ترفعه السلطة السياسية على رقبة الكاتب، واليوم يبدو أن هناك تحالفًا بين السياسى والدينى لقمع كل ما من شأنه أن يثير المسكوت عنه أو يعرى القبح ويفضح الفساد ويدين التضييق على الحريات الفردية والجماعية.
وأمام مثل هذه الحال يجد الكاتب نفسه، فى غالب الأحيان، مضطرا إلى ممارسة رقابة ذاتية مؤلمة، كثيرا ما تحْسِر رؤاه وتضر بجماليات نصه، يضاف إليه أن دور النشر لا تغامر، اليوم، مع كتابات هى تعرف مسبقا أنها تتعرض لمنع تسويقها أو مشاركتها فى المعارض فى هذا البلد أو ذاك. إنها، فى اعتقادى، حرب باردة دائمة لن تتوقف بين الكاتب والرقيب.
■ البعض من الروائيين له أداء صارم فى الكتابة.. فمنهم من يكتب يوميا لمدة يحددها مسبقا، ومنهم من يكتب رواية كل عامين أو ثلاثة بميقات لا يخالفه.. هل لدى الحبيب السايح أى شروط وضعها على نفسه فى الكتابة؟
- لا أظن أن الكاتب فى العالم العربى يستطيع أن يفرض على نفسه شروطًا للكتابة، كتلك التى يقننها لنفسه غيره من الكتاب فى العالم المتقدم، إذ هو لا يعيش ولا يستطيع أن يعيش من مصادر كتابته، وشخصيا، لا أعرف كاتبا عربيا لا يعمل ضمن وظيفة أصلية، هى التى تضمن له حدًا من الكرامة، غير أن طبيعة وظيفة هذا الكاتب أو ذاك هى التى تتدخل، بشكل حاسم، فى المدة والميقات المخصصين للكتابة.
فالتدريس، فى الجامعة، مثلا، يمنح الكاتب هامشًا مهمًا وكبيرًا لتوزيع وقته بين مهمة التدريس والكتابة، ولا يأتى إلى ذهنى أن الكاتب الذى يشتغل فى الصحافة محظوظ. فهو، فى اعتقادى «أشقى كاتب»، لأن مهنة الصحافة لا ترهق فحسب ولكنها تدمر الرغبة فى الكتابة، لذا، التفرغ النسبى أو الكلى للكتابة هو وحده ما يتيح للكاتب فى العالم العربى أن يكون له ذلك الأداء الصارم؛ لأنه سيد على نفسه حائز على حريته.
شخصيًا، تفرغت من كل وظيفة فى العام ٢٠٠٠ فصارت الكتابة هى «وظيفتى» الجديدة ألتزم لها بـ٨ ساعات يوميا (من غير عطل إلا الأعياد)، وهذا فى الحالات العادية. فقد يرتفع عدد الساعات حين يكون النص بلغ درجة تتطلب أن لا ينحرف أو يتوقف.
■ الكثير من الروائيين يكتب ونصب عينيه نشأته وتجربته. هل ترى أن نشأة الروائى وتجربته الذاتية من المفاصل الحقيقية فى كتابة الرواية؟
- هذا صحيح تماما، فالروائى لا يكتب إلا تاريخه، ولا يسرد غالبا إلا سيرته، مما تختزنه ذاكرته من طفولته خاصة التى هى منصة كل تجاربه اللاحقة فى الكتابة. إننا لا نكتب إلا حياتنا مسقطة على ما نخيّله، ولا نسرد سوى تجاربنا، تلك التى تترك لها آثارا ورضوضا فى نفوسنا، وأحيانا كثيرة، نحن نعوّض بالكتابة ما يضيع منا، مثل خساراتنا، وما أجهض فينا، وأحلامنا.
إننا لا نكتب سوى ألمنا، حتى فى تلك المشاهد الأكثر إظهارا للسعادة، ولا نصور سوى أصناف فشلنا فى أجمل لحظات الشعور بالانتصار، وهذا الذى يجعلنا نختلف، وهذا الذى بقدر ما يسرق منا أوقات غبطتنا يردها على قرائنا، فلا نحس أننا نكتب إلا من خلال القراء، فمنهم تأتينا لحظات فرح عابرة، فرح أطفال لا يدوم.
وبنظرة إلى الخلف، إلى ما سبق أن كتبناه، مقارنة بالذى أنهينا كتابته اللحظة، ندرك إن كنا قمنا بنقد ذاتى لتجربتنا فى الكتابة، أن تجربتنا فى الحياة هى التى دفعت بنا إلى هذا المستوى من النضج، لأننا كنا على قدر من الوعى بها.
■ تهتم بالمفردات وتكوين الجملة كثيرا.. هل اللغة عند السايح ثابتة أم متحولة.. بمعنى أنها مرنة لكى تناسب النصوص كأنها جزء من الفكرة.. أم هى وعاء ثابت واحد وتمثل مشروعا فى حد ذاتها؟
- منذ رواية «تلك المحبة» تبلور مشروعى الذى أسسته، أصلا، على اللغة، فالروائى، مثله مثل الشاعر، يشتغل على اللغة، التى هى المادة الأولية فى ورشة صناعته. إن الرواية صناعة، وأن تملك حدسًا، ولا أقول ناصية، تجاه اللغة، هذا يجعلك أقدر على تصور المشهد السردى والتحكم فى تفاصيله، لأنك تملك القاموس المناسب والكفاءة التركيبية، وهما عاملان حاسمان فى مواجهة مشكلة تسمية أشياء المشهد والربط بين تفاصيله والتعبير عن ذلك بما يجلى الدلالة، أى بقدر المبنى بقدر المعنى، كما تقول البلاغة العربية، وهذا ما يجعلنى أشد صرامة مع قاموسى وتراكيبى، لوعيى بأن للغة الكتابة الروائية اقتصادها. إنه لا شىء يحدث ضررا فى النسيج الروائى مثل تورّمات اللغة وما أسميه نفايات السرد. فالرواية ليست شعرا، وهى لا تخلو منه لكن ليس بقصد إليه ولا هى بوح ولا هى خواطر ولا هى هلوسات أيضًا. الرواية فعلُ سردٍ واعٍ وصارم.
ومهما يكن من أمر رأيى فإن اللغة، إضافة إلى ذلك، وسيلة كتابة متحولة غير ثابتة، إلا فى صرامتها ونزاهتها. لا بد أن يكون القارئ لأعمالى عايَن أن اللغة التى أشتغل بها وعليها تختلف من نص إلى آخر وهى تحمل بصمتها التى حاولت أن أطبعها بها، وذلك لما يفرضه موضوع النص وبناؤه وطبيعة سرده. فالمسافة اللغوية، مثلا، بين «تلك المحبة» وبين «أنا وحاييم» معتبرة من حيث التحول الحاصل فى بناء الجملة وفى القاموس. وعليه، لا مشروع، لكاتب، إلا فى داخل اللغة.
■ عبدالحميد بن هدوقة والطاهر وطار مؤسسا الرواية الجزائرية.. كيف ينظر إليهما السايح؟.. ولماذا تفوق عربيًا «بن هدوقة»؟
- أولا، هما بالنسبة إلىّ معلمان، تدربت على كتابتيهما، وأعتز بكونى أطور من مشروعهما التأسيسى، فأنا من الجيل الذى يعترف بجهدهما التأسيسى، ومن حظى أنى عايشتهما وأنا كاتب شاب، وكنت مبهورًا بما يكتبانه وقتها، لذا لا تجد كاتبا من جيلى لا تخلو أعماله الأولى من تأثيرهما.
إننا جيل بأكمله انبهرنا بـ«ريح الجنوب» و«الجازية والدراويش» لعبدالحميد بن هدوقة، و«اللاز» و«الزلزال» للطاهر وطار، لأنها شكلت علامات فاصلة فى تجربتيهما المختلفتين، اللتين ستعطى «الطاهر» انتشارا أوسع لجرأته فى تناول موضوعات حساسة وقتها، ولعلاقته مع اليسار الجزائرى والعربى فى أوج صعودهما، وتخص «بن هدوقة» بانتشار لا يقل أهمية، ولكن ليس بالجرأة نفسها، لأنه ظل خلال مساره «جنتلمان الرواية الجزائرية»، فلم يدخل فى «جدالات» وسجالات كما كان يفعل «الطاهر»، لأسباب ليس هذا مكان إثارتها.
واستمر «بن هدوقة» محافظًا على أناقته فى الكتابة وفى المظهر، ومن هنا كانت له هذه المكانة المحترمة جدًا فى نفوس الجزائريين، وهو اليوم يحظى كتكريم لمساره وتجربته بملتقى وطنى للرواية ينظم باسمه فى منشئه بمدينته «برج بوعريرج».
■ تعارض بشدة مسألة وضع القارئ فى ذهن الكاتب أثناء الكتابة.. كيف يمكن أن يؤثر ذلك على المتن الكتابى؟
- وضع القارئ فى الذهن خلال التفكير فى مشروع الكتابة ولحظات إنشاء النص هو من أكبر المخاطر التى تهدد الرواية بالرقابة، فأن تعتبر للقارئ وجودًا فى حسابك يعنى ترسيم رقيب عليك. شخصيا، لا أنظر إلى وجود القارئ فى ذهنى إلا كطرف يمكن التحاور معه لاحقا على أساس من الندية.
ثم إنه ما الجدوى أصلا إذا كنت أنت تكتب له ما ينتظره هو؟، الكتابة فعل عزلة مطلق، وأى دخيل عليها خلال إنشائها يفسد سحرها. القارئ عندى مؤجل إلى حين صدور العمل، حينها أنسحب تاركا له النص ليقول نصه هو عليه، وحينها سيكون الفرق بيننا هو الفعل والتلقى.
■ هناك انتشار كبير للروايات ربما بسبب كثرة دور النشر الخاصة ونشرها الأعمال بلا رقيب قادر على الانتقاء.. كيف يؤثر هذا فى وضعية الأدب؟
- تلك حقيقة تلفت الانتباه. إنه تدفق عارم من النصوص الروائية لم يسبق له مثيل فى العالم العربى، وهو بلا شك يغمر الأعمال الجيدة نفسها، بل أصبح مظهرا من مظاهر التساوى بين النصوص الجيدة الأصيلة والنصوص الرديئة وحتى المسروقة جزئيا من الأفلام والروايات العالمية من لغات بعيدة عن اللغات الشائعة فى العالم العربى، فما سهل ذلك هو «دكاكين النشر».
ومن هذه «الدكاكين»، النشر الإلكترونى، ووسائل التواصل الاجتماعى، التى تكاد تحل محل الصحافة الثقافية والنقد نفسه، وفى تلك الحالات كلها لا حدود ولا ضوابط ولا معايير، فأنت يمكن لك أن تركّب غلافًا ما بعنوان ما وتكتب عليه «رواية» وتنشره على صفحتك فى «فيسبوك» لتتهاطل عليك «اللايكات» فتصبح من لحظتها «روائيا» هذا إن لم تلقب بألقاب كبيرة لا يحظى بها الروائيون أنفسهم. إنها «سفينة الحمقى» التى تستقلها حشود العالم الافتراضى. لكن رغم ذلك هناك مبدعون ومتابعون ونقاد ودارسون حقيقيون يقومون بعمل جبار وسط هذه الفوضى، من أجل غربلة ما هو حقيقى وأصيل للدفع به إلى واجهة القراءة، لأن ذلك أحد شروط النهضة الأدبية العربية المعاصرة.
■ هلى الإنسان هو البطل الرئيسى لأعمالك؟
- صحيح، وذلك همى فى الكتابة، وأمنيتى فى تحققها، فنحن لا نكتب إلا الإنسان فى مختلف حالاته، تلك الحالات التى تجد لها امتدادات فى العواطف والمشاعر عند كل إنسان بغض النظر عن عرقه أو دينه أو بلده.