رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أنا أحبك يا سليمة

جريدة الدستور

فوجئ كلوت بى وأنا أغمس كسرات الخبز بحرفية فى صحن الملوخية، ثم ألفّها فى الهواء بحركات دائرية ضيقة قبل أن أضعها فى فمه، شرع كلوت فى تذوقها على مهلٍ ثم نظر إلىَّ وابتسم، ابتسمت أنا أيضًا وأطعمته باقى الصحن، لقيمات محمصة متوالية فى فمه، جعلته يستمتع كوليد بين ذراعى والدته، شعرت بأنى قد اقتربت منه كثيرًا، داخل كل رجل طفل يتوق لأنامل أنثى تحنو عليه فى لحظة فريدة كأم له، لم أكن أطعمه بيدى بقدر ما كنت أكتشفه!! بعض النقوش على جدران النفس لا تضاء إلا بيد مستكشفين من الخارج!!
عقب تناول العشاء دعانى كلوت إلى جواره على المصطبة الخشبية لاحتساء القرفة جوار المشربية، نسمات الليل أضفت على المكان أجواءً ساحرة للبوح والفضفضة، لذا لم يبذل أى مجهود لفتح أقفال حكاياتى، انتظرت فقط أن يسألنى ثم بحت له بكل أحمالى، الأنثى دائمًا فى حاجة إلى رجل آمن تلقى فى خزائن صدره بكل عار الماضى كى تستريح!!
- ما كل هذا الذى كنتِ تهذين به وأنتِ محمومة يا سليمة؟! فى تلك الليلة البعيدة فى شندى، اشتد الطرق فجأة على باب الدار الذى كاد ينخلع من قسوة الطارق الذى صاح بكلمتين عربيتين وبلكنة تركية:
- افتح باب، افتح باب.
انتفضت أمى من مكانها ونادت على أبى حسن لتوقظه بدا من طبيعة الطرقات أن البلاء المنتظر قد وقع، وأن شندى قد تدفع الليلة ما سبق أن دفعته كورتى من قبلها، استيقظ أبى مفزوعًا مترنحًا مما يجرى محاولًا ارتداء جلبابه قبل الاتجاه نحو الباب، مرددًا:
- يا ألطاف الله!! يا ألطاف الله!!
لكنات الجلبة بالخارج أكدت أنهم عسكر الباشا، لذا صرخت أمى نحو أبى قبل أن يفتح لهم: - الصبر يا حسن.
وقف أبى مرتبكًا غير مدرك ما يتوجب عليه فعله بتلك اللحظة، فما كان من أمى إلا أن أسندت للجدار سلمًا خشبيًا قصيرًا يوصلنى لسطح الدار، وفى لمح البصر ألقت لى بشالها بعدما لفت به بعض الثمار ثم صرخت بكل ما امتلكت من غريزة الأم:
- اهربى يا سليمة، لا تعودى إلا والدار أمان.
شهق أبى وانعقد لسانه غير قادر على جدالها، وهو يرانى أصعد آخر درجتين فى السلم، لا أقسى على الأب من نظرة مفاجئة إلى ابنته يشعر فيها بأنها الأخيرة!!
انخلع الباب فى تلك اللحظة تحت وطأة مؤخرات البنادق، انفلت العسكر إلى الداخل كالكلاب المسعورة، أمسكوا بأبى المكوم على الأرض عقب ركله بالأقدام، أمى لم تأبه بكل ما يجرى، فقط اهتمت بتثبيت السلم وأنا أفر نحو السطح، اندفع نحوها أحد العسكر وصفعها على وجهها محاولًا إسقاط السلم كى لا أفر، وبالفعل سقط السلم لكنى تشبثت ونجحت بالصعود، ومن الأعلى رمقت عينيها بنظرة أخيرة فصرخت بكل ما فيها من حياة:
- اهربى يا سليمة.
من فوق سطح الدار، نظرت حولى بالظلام فوجئت بالعسكر يعيثون فسادًا بكل طرقات شندى، وقبل أن أستوعب المشهد شعرت بأحدهم يحاول الصعود خلفى عبر السلم الخشبى، دون تفكير أطلقت ساقى للريح تحت ستر السواد فوق أسطح البيوت المتراصة، ثم واصلت الجرى والهرب وسط الغيطان الحالكة سعيًا وراء ملاذ آمن، قادنى تفكيرى إلى الضخرة المطلة على النهر، وبالفعل وصلت إليها وركضت ذاهلة بعينى ولاهثة بأنفاسى، لم أكن قادرة على استيعاب كل ما مر بى فجأة خلال الساعة الأخيرة!! ترى أين أبى الآن وماذا حدث لأمى؟ ومن فرط الإجهاد قرب الفجر غلبنى النعاس داخل تجويف الصخرة، ومن جديد حلمت بزينب، وهى تفتح ساقى وتربطهما بأعمدة السرير النحاسى!!