رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الهمج

جريدة الدستور

طيلة عمرى وأنا أسمع أصوات عراك قبيحة كثيفة كأنها غطاء يحجب سماء مدينتا ويطمر بيوتنا الفقيرة، لست مريضًا نفسيًا مع ذلك، فتلك الأصوات القبيحة يسمعها كل الناس على مدار الساعة، تتواتر علينا ليل نهار، إنها أصوات عراك الهمج خلف الجدار الكبير، عراك لا ينتهى أبدًا فيما بينهم، مصحوبًا بصرخات ونحيب وبكاء وتمزيق ونهش وسباب مهين بالغ القذارة وطلقات رصاص وانفجارات قنابل وقصف ورعد.. ولولا الجدار العظيم لكان هؤلاء الهمج تسللوا إلينا ومزقونا وأعملوا فينا القتل حتى أبادونا إبادة، إنه جدار آخر العالم، هكذا نسميه، أقامه الأجداد ليوقفوا زحف الهمج علينا، لنعيش خلفه فى أمان إلى الأبد.
كنت أستغرب أصوات البكاء والنحيب وصرخات الاستغاثة وطلب العون والمساعدة التى يرسلها الهمج إلينا نحن المسالمين المتحضرين من وراء الجدار، دون أن يحاولوا إنهاء العراك أو حتى أخذ هدنة لأيام قليلة يجمعون فيها أشلاءهم، كأنما لا يوجد بينهم حكماء عاقلون، وكأنهم ليسوا بشرًا وإنما حيوانات وجدت للحرب والسلب والنهب وحب الألم فحسب؟!
ونحن بدورنا لسنا ملائكة للأسف، وكل حين ينشب بيننا العراك لأسباب تافهة وواهية وغير معقولة بل يقتل بعضنا البعض دون حتى الشعور بالخزى، لكن أصوات الكبار منا تتدخل فى الوقت المناسب أو غير المناسب وتنهى الضغينة، وتذكرنا بالانتباه للهمج بالجوار خلف السور، وتحذرنا من تسلل شيطان منهم ينغص حياتنا ويسمم ماءنا، فتتوقف الحرب ويتصالح المتخاصمون منّا ويعم السلام مرة أخرى ونجد فرصة للحياة بهدوء وسلام ولو قليلا.
إن من أكبر الكبائر لدينا فتح ثقب بالجدار، ومن المذمومات لدينا الانشغال بصرخات المتعاركين خلفه، ذلك أن الهمج ذوى طبيعة حيوانية بدائية وأغبياء بالفطرة، هم قوم حرب وطعان ينازلون بعضهم دومًا، وحب القتل يجرى مجرى الدم فى عروقهم، والجثث تتدلى على المشانق هناك فوق الجبال وتطفوا على ماء المستنقعات الراكد الآسن المسمم.. وأن هذا حالهم منذ الأذل وسيظل إلى الأبد.. فلا تهتموا ولا تأبهوا وعيشوا بسلام وحب كما تعيشون ولا يشغلنكم من أمرهم شيئا.
فكرت لماذا لا نمنع تسرب أصواتهم إلينا بأن نُبطن الجدار بمادة عازلة للصوت، صحيح أننا نطلق أصوات المسجلات والميكروفونات طيلة النهار بالأغانى المرحة فلا نسمع أصوات أنينهم وشكواهم، لكن فى الليل وهدوئه وسكونه وسكوته وعتمته بعد أن نغلق المسجلات ونطفأ الميكروفونات راغبين بنوم لذيذ هادئ تتناهى إلينا أنّاتهم وتترى على مسامعنا صرخاتهم واصطكاك السيوف بالسيوف وخبطات الخناجر بالخناجر وانفجارات القنابل وزخات الرصاص تضج مضاجعنا حتى نحسبهم سيهدمون الجدار وينفذون إلينا فيمزقوننا تمزيقا أثناء نومنا.

ذات صباح وأنا أتمشى بجوار الجدار أقرأ فى كتاب شعر رومانسى قديم من كتبى الجامعية مستمتعًا بالهواء غير النقى تمامًا وبمناظر الخضرة البسيطة، فأرضنا رغم فقرها جنة، بالنسبة لأرض الهمج المليئة بالجبال والمستنقعات والحيوانات المفترسة كما نسمع ونقرأ عنها.. وقد وضعت سدادات على أذنىّ تمنع عنى أصوات الحرب الهمجية وراء السور العظيم، لمحت بين العشب والزبالة تحت شجرة عجوز حفرة بالجدار لها باب بالغ القدم صدأ، كأنه باب قبر، لما اقتربت أكثر بكل حذر وجدت الباب مواربًا كدت أصعق صعقًا من الخوف والرعب وتخيلت كل ما يحدث للداخلين والخارجين من هذا الباب إذا وجِدوا، دون أن أصدق عينىّ: فلا بد أن الهمج الأشرار الملاعين يتسللون إلينا فى غفلة منّا، أو أن واحدًا مناّ جاسوس لهم علينا يتسلل إليهم ويسرب لهم أسرارنا، ولا بد أنه الآن هناك وقد ترك الباب مفتوحًا ليعود بسرعة، أو ربما كان الباب قديمًا جدًا من ذلك العصر، الذى كنا نحن وهم شعبًا واحدًا قبل بناء الجدار ولم ينتبه لسده أحد منّا.
بعدما نفذت من الباب الثقيل الصدأ زاحفًا بصعوبة كجرو إلى الجهة الأخرى من الجدار دون أن أدرى لماذا، بل وكيف فعلت هذا دون تفكير، ربما لأتبع ذلك الجاسوس الخائن، متوقعًا أن أرى المذبحة وترتطم عينى بمناظر الدم فى كل مكان وأشم رائحة الجثث المتعفنة، بل قد تخترقنى فجأة رصاصة أو تنفجر قنبلة خبيئة فى تراب طريقهم القديم الخرب تحت قدمىّ.. لكننى لم أجد شيئًا من هذا كله، كان ما رأيته مدينة أجمل من مدينتنا نظافة ونظامًا، هادئة مسالمة، البشر فيها يذهبون ويجيئون ويركبون العربات بنظام أو بغيره ذاهبون إلى مصالحهم، والسماء فوقهم صباحية رائقة والأشجار صفوفًا بجوار الجدار العظيم اللانهائى.. لكن ثمة غطاء من أصوات قبيحة تأتى من الجهة التى كنت فيها، كانت أصوات حرب وبكاء ونحيب وطلقات رصاص وانفجارات قنابل.. استغربت بشدة وأنا أقترب من باب مقهى أنيق دخلته وجلست فوق المقعد، دون أن يهتم بى أحد من الرواد الذين يملأون المقهى، يتابعون التليفزيون أو يتحدثون أو يقرأون الجرائد، حتى جاءنى الجارسون باسمًا وقال بلغة رائقة: صباح الخير، ماذا أحضر لك؟.
نظرت إليه وأنا فى حالة من الذهول التام، ثم أشرت إلى الأصوات التى تتدفق من وراء السور الذى جئت من تحته منذ لحظات، وقد شعرت كأننى لم أنفذ إلى الجهة الأخرى، وإنما رجعت إلى مكانى الأول، لكننى تبينت أن كتابى الجامعى ليس معى لأننى نسيته خلف السور، سقط منى، لا بد أثناء زحفى من الباب الصدأ الثقيل العتيق القبرى، قال الجارسون باسما بأسى:
- آه.. الأصوات.. إنهم الهمج خلف السور.. قوم لا يكفون عن قتال بعضهم.. لا تهتم لا بد أنك غريب من أين جئت.
قلت له فورًا مشيرًا إلى الجهة الأخرى من السور:
- من هناك من عند من تصفهم بالهمج.
تبسم الرجل المهذب الطيب وقال:
- تريد أن تخيفنى.. تحسبنى غرًا.. سأحضر لك عصير المانجو، إنه أحسن ما عندنا.
انصرف وهو يلتفت لى بشىء من اللوم اللطيف ويقول:
- مزحة ظريفة، صباحك بهجة.