رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فهمي عمر: بيان 23 يوليو أعظم حدث في رحلتي الإذاعية.. ووالدي صاحب التأثير الأكبر على مسيرتي

جريدة الدستور


شاهد على العصر، وأحد أساطين الإذاعة المصرية طيلة تاريخها الطويل، بدأ مسيرته الإذاعية صانعا للبهجة من خلال برنامجه الأشهر «ساعة لقلبك»، وختمها بتأسيس إذاعة الشباب والرياضة، تلك المحطة التي شكلت وعي أجيال بأكملها، في تجربة كانت فريدة في وقتها.

وما بين هذا وذاك تاريخ طويل من العمل والكفاح، في مسيرة امتدت لمدة 40 عامًا قضاها أمام الميكروفون محاورًا لكبار الشخصيات ورموز المجتمع، وكاشفًا للعديد من النجوم الذين أثروا الساحة الفنية والرياضية لاحقًا.

هكذا كانت سيرة شيخ الإذاعيين فهمي عمر، والذي سرد لـ«الدستور» في حوار خاص، تفاصيل تلك الرحلة الثرية والمثيرة في حوار كشف فيه الكثير من الأسرار والحكايات.

.. ودار شريط الذكريات:

◘ بداية.. كيف بدأت حكاية ورحلة فهمي عمر مع أثير الإذاعة؟

- بدأت الرحلة مطلع الخمسينات من القرن الماضي، في وقت لم يكن يخطر ببالي ولو مجرد لحظة عابرة العمل في الإذاعة، فحينها كنت متخرجًا حديثا في كلية الحقوق جامعة الإسكندرية، وكنت أعد نفسي لمنصب وكيل النائب العام، والذي كان حلمًا تقف وراءه الأسرة وتدفعني إليه دفعًا، لكن رغبات القدر كان لها رأي آخر غير ما توافقت عليه رغبات الأهل، فأثناء جلوسي مع أحد الأشخاص وجدته يحدثني قائلًا: "الإذاعة عاملة اختبارات.. روح قدم أوراقك وامتحن فيها"، لكنني تعاملت مع طلبه في بداية الأمر بنوع من الاستغراب والاستنكار، قبل أن أتراجع لاحقًا عن موقفي، مقررًا خوض تلك المغامرة.

◘ وكيف مضت فصول تلك المغامرة فيما بعد؟

- ذهبت بالفعل إلى مبني الإذاعة المصرية الموجود وقتها بشارع الشريفين بوسط القاهرة، وتقدمت بأوراقي هناك بصحبة ما يزيد عن 300 فرد، جاءوا من كل حدب وصوب وهم حالمين بمداعبة الميكروفون الإذاعي، وجرت الاختبارات ولم أكن أتوقع حينها القبول أو النجاح، لكن فصول تلك المغامرة بلغت ذروتها، عندما وجدت اسمي ضمن كشوف المقبولين، وكان عددنا 8 أشخاص.

◘ وما موقف الأسرة في ذلك الانقلاب الذي خضته على غير رغباتهم؟

- عائلتي فوجئت بالأمر، وحدث غليان داخل الأسرة لدرجة دفعت والدي لمقاطعتي فترة طويلة، قبل أن تعود الأمور للاستقامة بعد الإشادات التي سمعها بحقي لاحقًا.

◘ وقت التحاقك بالعمل الإذاعي.. كيف كانت الأجواء الثقافية والإنسانية داخل ذلك الصرح الكبير؟

- نحن من الجيل الثاني الذي التحق بالعمل في ذلك الكيان الكبير، وقتها استقبلنا جيل الرواد من الأساتذة الكبار أمثال حافظ عبد الوهاب وعبد الحميد الحديدي خير استقبال، فهم بجانب امتلاكهم لثقافة شديدة الرقي والثراء، كانوا على درجة كبيرة من الإنسانية.

وكانت أولي نصائحهم لنا هو ضرورة إذاعة كل ما هو جديد للمستمع، باعتبار أن سياسة الإذاعة

وقانونها الحاكم يتلخص في تقديم " تثقيفًا مُرفها" و"ترفيها مُثقفًا"، إضافة لذلك فالتمسك بالحيدة، والاهتمام بالوقت، وجعله نبراسًا للحياة أمور كانوا يعدونها مسائل ضرورية في حياة المذيع الباحث عن النجاح.

◘ في بداياتك الأولي داخل الإذاعة المصرية.. كيف كانت تتعامل الجماهير مع المواد الإذاعية التي تقدمها عبر الميكروفون؟

- في فترة البدايات كانت الحركة الثقافية شديدة التوهج، فمصر وقتها كانت تمتلك قامات كبري في كافة المجالات في الفن والأدب والصحافة، وكان لذلك أثره على الجماهير فلم تكن ذائقتها تقبل غير الأعمال الراقية والبديعة.
◘ قدمت العديد من البرامج الإذاعية.. فأي منها حمل معه شهادة الميلاد الحقيقي لاسم "فهمي عمر" لدي جمهور المستمعين؟

- للمذيع القدير "بابا شارو" مقولة شهيرة ومعروفة لدي العاملين داخل حقل الإذاعة نصها يقول: الإذاعي الجيد هو الذي يدخل مطبخ الإذاعة عبر تقديم البرامج، لذا بعد أربع سنوات اخترت أن أطرق باب الاحتراف وذلك من خلال برنامج " مجلة الهواء".

وهو عبارة عن مجلة أسبوعية تُسمع ولا تُقرأ، وكانت مدته 30 دقيقة وحقق صدي وانتشارًا كبيرا، لكن شهرتي الحقيقية ذاعت عندما بدأت في تقديم برنامج التعليق على مباريات كرة القدم، باعتبار أنها لعبة تمتلك جماهيرية وشعبية عريضة.

◘ قبل تقديمك البرامج الرياضية.. قدمت برنامج "ساعة لقلبك"، أحد أيقونات الإذاعة المصرية عبر تاريخها، فهل لم يحقق لاسمك الانتشار والشهرة التي كنت ترجوها؟

- كل البرامج الجماهيرية التي قدمتها الإذاعة المصرية عبر تاريخها مثل " ساعة لقلبك" و" على الناصية" و" جرب حظك"، خرجت فكرتها من عند الإذاعي القدير والفذ أحمد طاهر أحد الأساتذة المنتسبين لجيل الرواد، حيث أسسها بعد مغادرته العمل في إذاعة الـ "BBC".

وبعد فترة من تقديمه لهم جميعًا تركهم، وتم توزيعها على مجموعة من المذيعين فكان من نصيبي "ساعة لقلبك"، وكان برنامجًا ذائع الصيت والشهرة وله مكانة خاصة لدي المستمعين، لكنني فخور بنجاحي في استغلال تلك النافذة في اكتشاف العديد من النجوم الذين أصبحوا فيما بعد علامات فنية أمثال فؤاد المهندس وخيرية أحمد وعبد المنعم إبراهيم وغيرهم.

◘ لكن بعد التوهج الذي حققته إبان تقديمك البرامج الرياضية.. قررت فجأة التوقف عن تقديمها.. فما السبب؟

- أن تتوقف وأنت في قمة التوهج ويسأل الجميع عن ذلك، خير لك من أن يطلبوك بالاعتزال، وعندما اتخذت قراري هذا كان التليفزيون قد أخذ في الانتشار في ربوع المحروسة وبدأ في سحب البساط من الراديو، بجانب أن الأمور صارت أيسر وأسهل في الحصول على المعلومة.

◘ يقولون أن من يلامس صوته الميكروفون يصعب عليه فراقه.. فلماذا اخترت التوقف عن تقديم كافة البرامج؟

- الحياة مراحل، وعندما اخترت التوقف عن تقديم البرامج الإذاعية، كنت حينها بدأت محطة جديدة في حياتي ممثلة في دخول معترك العمل الإداري برئاسة الإذاعة المصرية، وإلي الآن يشهد الجميع بأنها كانت فترة مليئة بالعمل والنشاط، حيث نجحت خلال ولايتي في أن أقدم كل ما هو جديدًا لذلك الصرح العملاق، من خلال الاستعانة بأفكار وخبرات الأساتذة الأقدمين لكن بطريقة تناسب روح العصر الذي كنت أعمل فيه.

◘ خلال مسيرتك الإذاعية التي امتدت لما يقرب من نصف قرن، أي الأحداث التي عاصرتها تراها الأهم والأبرز في أرشيفك؟

- أعتز دومًا بأنني الإذاعي الوحيد الذي شهد فجر ثورة 1952، فأنا الشخص الذي فتح ميكروفون الإذاعة أمام الرئيس السادات لتلاوة بيان الثورة، وكنا عندما نلتقي في أي مناسبة دائما ما كان يردد ويقول: " ده الواد المذيع الصعيدي اللي فتحللي الميكروفون يوم الثورة"، وقد أكد على تلك المعلومة خلال لقائه مع الإذاعية القديرة همت مصطفي أثناء لقائه الشهير معه.
◘ الآن البعض يهاجم ثورة يوليو 1952 ويحملها أوزار بعض الخطايا التي مرت بها مصر.. فهل يتفق فهمي عمر أم يختلف مع تلك الأقاويل؟

- ثورة يوليو قلبت الموازين في مصر، وغيرت حياة الناس من النقيض إلي النقيض، فالزعيم الخالد جمال عبد الناصر ساهم في تغيير الحياة الاجتماعية للشعب المصري تغييرًا جذريًا، وقد لامست ذلك في قريتي الصعيدية.

فقبل الثورة كنا عددنا في المدرسة لا يتجاوز 20 تلميذا، 90% منهم كانوا حُفاة وعرايا، وكانوا من يرتدي منا حذاء كان يصنف باعتباره من الأعيان، لكن بعد يوليو تبدل الحال تمامًا، ولم أعد أري ما كنت أشاهده قبلها من مآسي ينفطر لها القلب.

◘ خلال رحلتك الثرية مع الراديو.. أي الحوارات الإذاعية الأقرب إلي قلبك؟

- أعتز بأنني من القلائل الذين حاورا كل نجوم عصرهم في مجالات الثقافة والأدب والفن والرياضة، فعلي مائدتي الحوارية جلس العظام عباس العقاد ومحمد عبد الوهاب ويوسف وهبي وفاتن حمامة، وقد حققت كل أمنياتي في محاورة كل هؤلاء القامات.

◘ خلال حقبة الأربعينات والخمسينات كانت المدن المصرية مُصنفة باعتبارها أجمل مدن العالم.. فهل كان لذلك أثره على المستمع؟

- الجمال والرقي دائما ما يكون له أثره على الذائقة العامة للشعوب، ومثلما ذكرت لك سابقا فتلك الفترة كانت شديدة النشاط الثقافي والأدبي، وتلك نتيجة طبيعية، فالقاهرة آنذاك كانت شوارعها يتم شديدة النظافة، والمحلات في منتهي الشياكة، ولا يكاد يخلو شارعًا من السينما والمسرح وحتي المتحف.

والحال نفسه ينطبق على مدينة الإسكندرية، فخلال حقبة الأربعينات كانت أجمل مدينة على ساحل البحر الأبيض المتوسط، وكان تضم العديد من الجاليات الأجنبية، وهو ما أحدث نوعًا من التبادل الثقافي بينهم وبين المصريين.

◘ كنت واحدًا من القلائل الذين اقتربوا من الأجيال الشابة عبر تأسيسك بوابة الشباب والرياضة.. فالآن كيف تري الشباب المصري؟

- للأسف الغالبية العظمي من الشباب المصري الآن يحكمها التسرع، فتجدهم يسعون لتحقيق أحلامهم بين يوم وليلة، بالرغم من كون الآمال لا تتحقق إلا بالصبر والكفاح والعرق والصمود، فجيلنا بالتمهل نجح في تحقيق أمنياته، ولابد أن تؤمن الأجيال الجديدة بذلك.

◘ في بداية الحوار ذكرت بان والدك دخل في مقاطعة معك بعد التحاقك بالعمل الإذاعي.. فهل أثرت تلك الخطوة على العلاقة بينكما فيما بعد؟

- لا؛ فوالدي من بعدها تحول إلي واحدًا من اكبر الداعمين لي، وبشكل عام يبقي دائما صاحب تأثير كبير على شخصيتي، فهو كانت لديه عزيمة لا تلين وقوة لا تشيخ، وكان مصممًا على أن استكمل تعليمي، وكان لا يغفر لي تقصيري أثناء الدراسة، وما عدا ذلك فالعلاقة بيننا كانت أشبه بالصداقة.
◘ بعد تلك السنوات الطوال.. هل مازال فهمي عمر على تواصل مع قريته التي شهدت ميلاده أم أنها صارت من ذكريات الماضي الجميل؟

- لا؛ علاقتي بقريتي لم تنقطع أبدًا؛ فهناك ذكرياتي وأهلي ومازالت إلي الآن أزورها بانتظام، وعادة ما أمكث فيها قرابة الشهرين، وعندما قررت خلال أحد فترات حياتي خوض انتخابات مجلس الشعب، كان هدفي خدمة أهالي القرية، وبالرغم من أنها مرحلة لم تكن جيدة على المستوي السياسي، غير أنني نجحت في إدخال وتنفيذ خدمات كثيرة كانت تفتقده القرية.

◘ لماذا لم نرٍ أحد من أبنائك يستلم راية العمل في الإعلام كنوع من الامتداد لمسيرتك؟

- العمل في الإعلام يحتاج موهبة ورغبة، وأنا عادة لا أتدخل في خيارات الأبناء بغير النصيحة والإرشاد، وأترك لهم حرية الاختيار في نهاية الأمر، وهم لم تجذبهم نداهة العمل الإعلامي، ومع ذلك هناك بعض أفراد العائلة التحقوا بالعمل الإذاعي رغبة منهم في السير على دربي.

◘ أنت واحدًا من المذيعين القلائل الذين اقتربوا من كوكب الشرق "أم كلثوم".. فكيف كانت العلاقة بينكم؟
- خلال الفترة من عام 1954 حتي العام 1955 قدمت ثلاث حفلات للسيدة "أم كلثوم"، وأثناء تعرفي عليها، داعبتني بقولها "صعيدة يا فهمي"، بعد معرفتها بأصولي الصعيدية، لكن بشكل عام لم تكن بينا صداقة وطيدة، ولا أدعي غير ذلك.

◘ لكنك كنت وثيق الصلة بالعندليب عبد الحليم حافظ.. فما كواليس تلك العلاقة الخاصة؟

- الإذاعة المصرية هي التي صنعت "عبد الحليم"، ففي بداياته كان يعمل عازفًا في الأوركسترا الإذاعي، وكان يتميز بجسده الضئيل خلافا لأفراد الفرقة، وكان دائما ما يردد بأنه صاحب صوت جيد، وبحكم كونه شقيقا للمطرب لإسماعيل شبانة، تدخلنا لدي الإذاعي القدير عبد الوهاب حافظ لسماعه، وبالفعل أعجب بموهبته ومنحه اسمه.
◘ وكيف جمعت بينه وبين رفيق دربه وأقرب أصدقائه مجدي العمروسي؟

- «العمروسي» كان زميل دراسة بكلية الحقوق بجامعة الإسكندرية، وقد جذبته نداهة الفن، فكان حريصًا على حضور حفلات السيدة "أم كلثوم"، وفي أحد حفلاتها التقيته هناك، وكان قد مضي على تخرجنا 4 سنوات، وبعد أن تبادلنا أطراف الحديث سويًا، أدخلته القاعة، وصارت تلك حالة متكررة.

وجرت العادة أن يأتي «مجدي» من الإسكندرية يوم الأربعاء ويبقي مقيما في القاهرة حتي الجمعة، وخلال أحد المرات التقي هو بـ «عبد الحليم» وتوطدت العلاقة إلي صداقة متينة.

وخلال السنوات التالية كنت أداعب «العمروسي» قائلًا: " ياريتني وقعت معاك عقد بـالحصول على 20% أرباح باعتباري السبب في تعارفك بالعندليب»، وبعد وافته بفترة منحني هدية عبارة عن جنيهين دهب، وحدثني ضاحكًا: « الـ 20% أرباحك القديمة من مشروعاتي أنا وعبد الحليم حافظ».

◘ في أحاديث سابقة لك طالبت بعض الأشخاص بإيقاف بعض الادعاءات التي يرددونها حول علاقتهم بعبد الحليم حافظ.. فهل كفت ألسنتهم عن ذلك؟

- أنا أطُلق على ذكري ميلاد ووفاة العندليب اسم " مولد عبد الحليم"، فخلال هذين اليومين ينسج بعض الأفراد حكاوي من وحي خيالهم عن علاقتهم به، كان آخرها ما ردده أحدهم بأنه كان يأتي لزيارته مرة شهريًا، لأجل تناول طبق كشري من يد زوجته.

وعندما تقابلت معه أخبرته بأنه لو تناول منه حبة واحدة لكان حينها من المهلكين فرد قائلًا: « لو مش مصدقني روح البساتين أساله»، ومن يومها قررت عدم الدخول في مجادلات أو مهاترات مع من يردد تلك المزاعم.

◘ أخيرًا.. لماذا نراك بعيدًا عن العمل الإداري داخل الهيئات الإعلامية الموجودة حاليًا؟

- أنا لست بعيدًا، فأنا حاليا رئيسًا للجنة ضبط أداء الإعلام الرياضي، وأعتقد أن اللجنة خلال الفترة الماضية نجحت في الحد من الفوضى الإعلامية التي شهدها ذلك الوسط خلال السنوات الماضية، والفترة المقبلة ستشهد عودة الأمور لمسارها ونصابها الصحيح أكثر وأكثر.