رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ماكينة حلاقة

جريدة الدستور

أنا بعون الله ورسوله وبركة أولياء الله الصالحين؛ مثقف عضوى، ينخرط فى الحياة اليومية لمواطنيه، ولا ينعزل فى صومعته العاجية، بل يعيش معهم فى الأفراح والأتراح، فى الجرن وعلى المصطبة، لكى يقودهم إلى الحداثة، حتى لا تفوتهم أنوار التقدم.
يشعر عوض بأن قبيلة من النمل ترعى فى منبت الشعر أسفل قفاه عندما يستمع إلى مرسى عبدالحفيظ يتكلم، فيهرش المكان بشدة، وقد لا يعدم قملة مختبأة هناك فيقتلها بأظافر إصبعيه الكبيرين وهو يحاول أن يربط بين عضو مرسى عبدالحفيظ (والحداقة) وأنوار الكهرباء التى لم تدخل القرية بعد، لكنه يظل يحمل انبهارًا واحترامًا غير محدودين للمتعلم الوحيد فى القرية، الذى حصل على دبلوم الزراعة بعد أن أمضى فى السنة الثالثة وحدها ثلاث سنوات حتى لا يفوته أى علم بالمدرسة، يعمل فى الجمعية الزراعية بالمركز، ويذهب إلى عمله بالبنطلون الجينز الضيق والتيشيرت الملون برسومات غير مفهومة، على دراجة متهالكة، يقودها لمدة ساعة فى الذهاب وساعتين فى الإياب، حيث يعود مشيًا للحفاظ على العمر (الانفرادى) للدراجة.
لا بد أن يكف الناس عن ارتداء القفاطين والعباءات. الجينز والتيشيرت والقميص المشمر الأكمام الملطخ بألوان لوحات سورياليزمية هو لباس الحداثة، لكن هذه الأشياء يا عوض ليست الجوهر، والمثقف العضوى لا بد أن ينظر فى البؤرة العميقة للمشكلة، لكى يصل من خلال التحليل المتأنى إلى الحل الجوهرى الجامع المانع.
يهز عوض رأسه فى جميع الاتجاهات، وهو يتخيل البئر العميقة بجوار الجامع، وكيف سقط فيها عضو مرسى عبدالحفيظ، ويحاول أن يصل معه إلى حل لهذه المشكلة.
أعترف بأننى نفسى تنقصنى بعض أدوات الحداثة المهمة، فدراجتى من عصر ما قبل الحداثة، وأنا الآن أدخل بمعظم مرتبى فى جمعيات لكى أدخر مقدم «فيسبا» أقتحم بها الحداثة بسرعة الصاروخ، لكننى مهموم بقريتى كمثقف.
«عضوى»
«الله ينور عليك، بدأت تفهم»
«لا! أنا أقصد أن عضوى يحتاج إلى التفريغ يا أستاذ مرسى!»
تبخرت الراحة التى كان يشعر بها عوض بعد عودته من خلف النخلة وهو يشد دكة لباسه ويترك قفطانه ينساب مغطيًا ساقيه، إذ وضع مرسى يديه على كتفى عوض، وحدق فى عينيه بشكل مخيف، وقال له بصوت عميق:
«أنت سن رمح القرية الذى سيخترق ظلمات الحاضر داخلًا بها بقوة فى عمق الحداثة يا عوض».
كلمة «أنت» أرعشت عوض من الداخل، شعر بالخوف، لكن الزهو كان أكبر، فها هو يأتى ذكره فى جملة طويلة للأستاذ، فكر أن يسأله هل لهذا علاقة بتفريغه لعضوه بما يجعله هو الآخر (مصقف) عضوى، لكنه خشى أن يكون السؤال فى غير محله فيضيع جمال ورهبة اللحظة.
أخرج مرسى من الجيب الخلفى للبنطلون الجينز ورقة، فردها، وأشار لعوض أن ينظر لما فيها، كان بها ثلاث صور تبدو أنها للشىء نفسه من زوايا مختلفة، قبل أن يسأل عوض: ما هذا؟.. كان مرسى يشرح له: هذه هى «الموزا». أحدث ماكينة حلاقة ألمانية فى العالم.
أسرع ذهن عوض إلى دكان الحلاقة الذى ورثه عن أبيه منذ عدة أشهر، به الموسى الطويل والجلدة التى يسنه عليها، وماكينة الشعر اليدوية، والمقص، والمشط البلاستيك المكسرة بعض أسنانه، والكرسى الخشب ذو المسند العالى، والمرآة الصدأة التى يرى الزبائن أنفسهم فيها خيالات، لم يتخيل أن يكون الموز من أدوات الحلاقة، ولم يفهم ما علاقة هذه الصور بالموز أصلًا.
لكن مرسى لم يتركه فى متاهته، أخذ يشرح له أن العالم الذى عبر الظلام إلى الحداثة يستخدم الآن ماكينات حلاقة بالكهرباء لحلاقة الشعر بشكل أجمل وأسرع، وأن الواجب الوطنى، وحب القرية وأهلها، يوجبان على عوض أن يشترى ماكينة مثل هذه ليكون أول حلاق فى المركز والقرى التابعة له يدخل إلى الحداثة، وربما إلى ما بعد الحداثة إذا اشترى كرسى متحركًا للزبائن.
عقبة أن القرية ليس بها كهرباء لشحن الماكينة كانت محلولة بالنسبة لمرسى، فسوف يأخذ الماكينة معه ويشحنها فى مكتبه بالجمعية الزراعية، وليس على عوض سوى تدبير ما يحتاجونه من مال سيتجاوز الألف جنيه، ثمن الماكينة، وقضاء أسبوع فى الإسكندرية لشرائها، وتعلم كيفية استخدامها، والسكن فى لوكاندة، ودخول السينما، والسهر ليلة أو اثنتين فى كازينو على الكورنيش، فالحداثة هى كلٌ متكامل لا بد أن ينخرط فيه عوض حتى أطراف شعره ليخرج من بحرها وقد أصبح حداثيًا قلبًا وقالبًا، وتكون ليده القدرة على استخدام الماكينة دون الإحساس بغرابة بين يد ما قبل حداثية وماكينة حداثية.
لم تكن مصيبة عوض فى البقرة التى باعها وصرف كل ثمنها على الماكينة ومتطلباتها، وتجديد المحل بالسيراميك، وحوض ماء بحنفية نحاس على شكل فم أسد ينزل إليها الماء من ماسورة موصلة ببرميل فوق سطح المحل، ومرآة بيضاوية كبيرة بدلًا من القديمة المكسورة، وكرسى يدور حول نفسه دورة كاملة.. كانت المصيبة فى حرمانه من استخدام الماكينة.
الشيخ شعبان أفتى فى خطبة الجمعة بأنها بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة فى النار، وأنها جاءت من بلاد الكفار لتلهينا عن عراقتنا وأصالتنا، وكل من يستعملها فى شعره فهو آثم، ومن يحب عوض عليه ألا يعينه على اقتراف هذا الذنب الكبير. واكتشف عوض أن كل أهل القرية يحبونه، وماكينته يمكن أن يأكلها الصدأ دون أن يستخدمها.
لكن الأدهى كان استدعاء ضابط النقطة له، أخبره بأن هذه الماكينة يجب أن تحصل على ترخيص، وشرح له شروط الحصول على الترخيص، فاكتشف عوض أن (دخول الجنة أسهل)، وحذره من أن هو استخدمها دون ترخيص ستتم مصادرتها.
كان مرسى يشرح لعوض أن ما حدث متوقع جدًا، فالمجتمعات دائمًا تواجه كل جديد بالرفض، لكن الجديد يفرض نفسه فى النهاية، المهم أن يكون هناك من يؤمن إيمانًا أكيدًا بضرورة الدفاع عن مبادئ التحديث حتى وإن كلفه ذلك كل غالٍ ونفيس، لا بد من روادٍ يضحون مهما تكن العواقف، وسيكون مرسى فى طليعة هؤلاء الرواد.
على ضوء لمبة جاز نمرة (١٠) سلم مرسى رأسه لعوض الذى أخذ يجول ويصول بالماكينة فى شعر مرسى، كان عوض يشعر بأنه يطير فى السماء فرحًا، وكان مرسى يتخيل أكاليل الغار على جبينه، لكن نظرة إلى المرآة بعد انتهاء الحلاقة ذكَّرت مرسى بالمطبات والحفر والمرتفعات التى تعوقه فى طريق الدراجة، كظم غيظه، وأكد لعوض أن أول مرة لا بد أن تحدث فيها أخطاء، وأنه لن ييأس حتى ينهض بقريته الحبيبة.
لعدة أسابيع كان مرسى يقود الدراجة بالبنطلون الجينز والتيشيرت الملون، ورأسه ملفوف بعمامة بيضاء، وكان يشعر بنشوة وهو يشرح كيف أنه يجسد فكرة الأصالة والمعاصرة، الحداثة والانتماء، ثم جرب مع عوض مرة أخرى فكانت النتائج مبهرة.
تشجع بعض الشباب المغامر، كانوا يذهبون إلى دكان عوض فى جوف الليل، ويغلقون الدكان عليهم، ثم ينتشون بملمس (الموزا) على رءوسهم، وصوتها فى آذانهم، وكان عوض يحصل على سعر مضاعف للحلاقة، فهى حلاقة مع الخطر، لكن إحساسه بالخطر بدأ يزول تدريجيًا، إذ ظلت (الموزا) محرمة دينيًا وأمنيًا، لكنه كان يستخدمها سرًا فى كل بيوت القرية، منها بيت العمدة وضابط النقطة والشيخ شعبان، وكان مرسى يعتبر قريته دخلت إلى الحداثة بفضله وإن لم تعلن ذلك بعد.