رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الزعيم والمتهور.. جناية يوسف إدريس فى حق السادات

يوسف إدريس
يوسف إدريس

غريبة ومدهشة ودرامية تلك العلاقة التى ربطت بين الرئيس أنور السادات والمبدع يوسف إدريس، بدأت بصداقة حقيقية وصلت إلى أن يتولى إدريس صياغة عدد من كتب السادات، وانتهت بخصومة عنيفة وصلت إلى إطلاق صاحب «بيت من لحم» سبعة مقالات نارية اغتال بها صاحب قرار الحرب والسلام.. فما قصة تلك العلاقة التى بدأت حميمة.. وانتهت دامية؟. نشير أولًا إلى أن روح الفنان التى سكنت السادات كانت هى مفتاح شخصيته، ومنها يمكن أن تفسر الكثير من قراراته ومواقفه، وهى التى قادته إلى شبكة علاقات متشعبة وممتدة مع الوسطين الثقافى والفنى، فارتبط بصداقات حقيقية مع الكثير من رموزهما، ويمكنك أن تعود إلى مذكرات زكريا الحجاوى ومحمود السعدنى وأنور المعداوى، لتقرأ سيلًا من الحكايات عن صديقهم الضابط الأسمر الذى كان يشاركهم قعدات المقاهى ويقاسمهم الكتب الجديدة وينافسهم فى كتابة المقالات.. ولم تفارقه روح الفنان حتى بعد أن أصبح رئيسًا للجمهورية، فلم يتردد فى تلبية دعوة الحجاوى لحضور السرادقات الرمضانية التى كان يقيمها الحجاوى فى حى السيدة زينب، ويقدم فيها الفن الشعبى المصرى «البلدى» بحناجر خضرة محمد خضر وجمالات شيحة.. وأبودراع. لكن علاقة السادات بيوسف إدريس كانت غريبة ومدهشة ودرامية، كما وصفناها، وتحتاج إلى جهد فى توثيقها وفهمها واستيعاب تطوراتها وتقلباتها.. فنحن أمام صداقة ربطت بين رجلين استثنائيين، كاتب متمرد وزعيم متفرد.


الكاتب صاغ للرئيس «يا ولدى هذا عمك جمال» و«معنى الاتحاد القومى»
كان الطبيب الشاب والأديب الصاعد يوسف إدريس، يعمل مفتشًا للصحة فى الدرب الأحمر عندما جرى اعتقاله بتهمة الانتماء لتنظيم «حدتو» الشيوعى فى أغسطس ١٩٥٤، وكان التنظيم معارضًا لبعض بنود معاهدة الجلاء التى أبرمها عبدالناصر مع الإنجليز، ولما خرج من المعتقل فى سبتمبر ١٩٥٥ ذهب ليعمل مع أنور السادات فى منظمة المؤتمر الإسلامى، وكان قد انتخب أمينًا عامًا لها فى العام نفسه، والثابت أن علاقة السادات وإدريس كانت سطحية قبل ثورة يوليو، جمعتهما لقاءات عابرة فى مقاهى المثقفين ومكاتب جريدة «المصرى»، أوسع الصحف المصرية انتشارًا وتأثيرًا حينها، وكان يوسف إدريس ينشر فيها قصصه، وعلى صفحاتها لمع اسمه، وكان مكتب صاحبها ورئيس تحريرها أحمد أبوالفتح ملتقى للسياسيين والمبدعين.
توطدت صلة إدريس والسادات بعد ثورة يوليو، وبشهادة إدريس نفسه وبنص كلماته: «وأستطيع أنا شخصيًا أن أضيف باعتبارى من أوائل الكتّاب المصريين الذين عرفوا السادات وعرفهم السادات فى أوائل الثورة عن قرب، بالنسبة لى بالتحديد التقيت به فى جريدة الجمهورية أيام كان رئيس مجلس إدارتها، وأعجب بى ككاتب إلى درجة أن عهد إلىّ بكتابة عموده اليومى الذى كان يشكّل افتتاحية الجمهورية موقعًا باسمه ومكتوبًا بكليشيه بخط يده».
ويكشف إدريس عن أنه أثناء عمله إلى جوار السادات فى المؤتمر الإسلامى، صاغ بقلمه كتابين من كتب السادات: «يا ولدى هذا عمك جمال، ومعنى الاتحاد القومى».. والكتاب الأول كان مقررًا على طلبة المدارس لسنوات طويلة، وفيه يحكى السادات لولده الصغير جمال الذى سماه على اسم جمال عبدالناصر وولد أثناء العدوان الثلاثى، ما فعله عمه جمال من أجل الوطن، وجاءت له فكرة الكتاب فى شهر يناير ١٩٥٧، أى بعد شهرين فقط من ميلاد جمال الابن فى عز العدوان، وكان السادات قد تلقى خبر ميلاد ابنه وهو فى غرفة عبدالناصر بمجلس قيادة الثورة ولم تمكنه ظروف المعركة من أن يكون إلى جوار زوجته فى المستشفى فى تلك اللحظات العصيبة.
أما الكتاب الثانى «معنى الاتحاد القومى»، فكان موضوعه عن التنظيم السياسى الأول الذى أنشأته ثورة يوليو بعد قرارها بحل الأحزاب السياسية، واختير السادات كأول أمين عام للاتحاد عن تأسيسه عام ١٩٥٧، وسرعان ما تطور وتحول إلى «الاتحاد الاشتراكى» أشهر تنظيم سياسى اقترن بثورة يوليو.
ووجد يوسف إدريس نفسه مكلفًا من السادات ليتفاوض مع رفاقه القدامى فى حركة «حدتو»، على رأسهم محمود أمين العالم، لإقناعهم بحل التنظيمات الشيوعية والدخول طواعية فى الاتحاد القومى بشكل فردى، ونجحت وساطة يوسف إدريس فى إقناع محمود أمين العالم بالذهاب إلى بيت السادات فى الجيزة للتفاوض مباشرة على الصفقة، لكن بعد ساعات طويلة ومرهقة من المفاوضات رفض العالم طلبات السادات، وكان عليه أن يعود سيرًا على الأقدام إلى بيته فى تلك الساعة المتأخرة من الليل، فلم يجد «تاكسى» ولم يهتم السادات بتوصيله.. وفى ليلة رأس السنة الجديدة ١٩٥٩ جرى القبض على الرفاق الشيوعيين الرافضين دخول تنظيم الثورة الجديد.
وحدث أن أجرى يوسف إدريس حوارًا مع السادات عن الاتحاد القومى نشره فى جريدة «الأهرام» وكان يعمل فيها بالقطعة دون تعاقد، وتسبب الحوار فى ثورة غضب للرئيس عبدالناصر عندما قرأه، حيث فهم منه أن السادات يريد منح عضوية التنظيم الجديد للمنتمين للأحزاب والتنظيمات التى أفسدت الحياة السياسية قبل الثورة، وكذلك فتح أبوابه أمام التنظيمات اليسارية.
وغضب السادات بدوره من يوسف إدريس واتهمه بأنه أضاف رأيه الشخصى إلى الحوار وورطه فى أزمة مع عبدالناصر، وكان عقاب السادات حادًا وعنيفًا، فعندما ذهب يوسف إدريس إلى «الأهرام» ليسلم مقاله الجديد وجد نفسه مطرودًا.. فذهب إلى مكتبه فى منظمة المؤتمر الإسلامى فأبلغوه بأنهم استغنوا عن خدماته، وأدرك أن السادات وراء فصله، فلما دخل عليه بطلب لقطع انتدابه وإعادته لعمله الأصلى فى وزارة الصحة، أخبره السادات بأنهم فصلوه كذلك.. بل من وزارة الثقافة.. وكان عليه أن يجلس سبعة أشهر فى بيته بلا عمل حتى توسط له صديقه «السندباد المصرى» حسين فوزى، فعفا عنه السادات وذهب ليعمل فى جريدة «الجمهورية» قبل أن ينقله هيكل إلى «الأهرام».
وعادت العلاقة للتوتر فى بدايات حكم السادات، ففى يوليو ١٩٧١ قرر يوسف إدريس أن يخرج مع مثقفى «ريش» بمظاهرة احتجاجًا على أحكام الإعدام التى نفذها الرئيس السودانى جعفر نميرى بحق قادة الحزب الشيوعى السودانى، وعلى رأسهم زعيم الحزب عبدالخالق محجوب بتهمة المشاركة فى الانقلاب الذى قام به هاشم العطا، وحكم على العطا وقادة الحزب الشيوعى رميًا بالرصاص.. وغضب السادات مما اعتبره تصرفات صبيانية من صديقه القديم.
واستمرت العلاقة بين شد وجذب طوال سنوات حكم السادات، توقع يوسف إدريس أن تشمله حملة الاعتقالات فى سبتمبر ١٩٨١، فقد كان صوت إدريس عاليًا بالاحتجاج على «الانفتاح» و«المبادرة»، وبخبرة سنوات تجربته فى التنظيمات الشيوعية قرر يوسف إدريس الاختفاء حتى تمر العاصفة التى وصل فيها غضب السادات منتهاه، فاعتقل رموزًا بحجم هيكل وفؤاد سراج الدين ووضعهم فى السجن.
لكن العيون رصدت يوسف إدريس ووجد نفسه مقبوضًا عليه، وتوقع أن يجد نفسه بعد دقائق وسط المعتقلين فى الزنازين، لكن السيناريو الأخير الذى لم يتوقعه ولم يصل إليه خياله أن يجد نفسه فى بيت السادات، الذى استقبله بابتسامة داهية: «لما تعوز تهرب يا يوسف تجينى وأنا أخبيك».. ثم سمح له بالعودة لمنزله آمنًا.

صاحب «بيت من لحم» انقلب على صديقه بعد «كامب ديفيد».. وكتب ضده ٧ مقالات نارية
كان السادات يقدر فى يوسف إدريس موهبته وعبقريته وجنونه ونزقه، وربما كان يقدر كذلك «العِرق السودانى» الذى يجمعهما، والذى يحمله السادات من جينات والدته ذات الأصول السودانية، ويحمله إدريس من جينات والده.. وبسبب هذا «العِرق» وبحكم الصلات القوية التى كانت تربط إدريس بالشيوعيين السودانيين أخرجه الصاغ صلاح سالم، عضو مجلس قيادة الثورة والمسئول عن ملف السودان، من السجن فى سبتمبر ١٩٥٥ لإرساله فى مهمة إلى السودان ضمن المفاوضات التى كانت جارية فى مسألة الانفصال.. وبعد أسبوع استقال صلاح سالم، ونسى إرسال يوسف إلى السودان أو إعادته للسجن. كان يوسف إدريس يعترف فى لحظات الصفاء بانبهاره بشخصية السادات منذ أن كان يتابع وهو صبى محاكمته فى اغتيال الوزير أمين عثمان وتضحياته فى سبيل مواقفه الوطنية.
هذا «الانبهار» تحول فجأة إلى «دمار»، لكن يوسف إدريس لم يمتلك الشجاعة الكاملة، وهو المشهور باندفاعه وتهوره، لأن يواجه السادات وهو حى يرزق ويجلس على عرش مصر، وارتضى فى لحظة «سقوط درامى» أن يطلق عليه الرصاص وهو ميت.
فى شتاء عام ١٩٨٣ كان يوسف إدريس قد انتهى من كتابة سبعة مقالات نارية عن السادات دفع بها للنشر على صفحات جريدة «القبس» الكويتية إدراكًا منه أنه يستحيل نشرها فى مصر.. ويعترف إدريس بأنه كان واقعًا تحت شحنة غضب هائلة وهو يكتب «البحث عن السادات»، فلم تتحمل أعصابه مشاهد الاجتياح الإسرائيلى للبنان ودخول قوات شارون إلى بيروت، ولم تتحمل كذلك ما أورده محمد إبراهيم كامل، وزير خارجية السادات المستقيل احتجاجًا على «كامب ديفيد»، الاتفاقية التى رأى يوسف إدريس أنها سبب هذا السقوط العربى.
أخرج يوسف إدريس كل براكين غضبه فى «كامب ديفيد» وصاحبها، وطارت مقالاته إلى مقر الجريدة الكويتية، لكنه فوجئ بعدم نشرها، وتوقع أن تكون قد تعرضت لضغوط سياسية، لكنه فوجئ: أن التأخير لأسباب «تجارية»، فقد كانت صحيفة «الوطن» الكويتية المنافسة قد حصلت على حقوق نشر حلقات كتاب «خريف الغضب» الذى يتعرض هو الآخر لسيرة السادات، وقررت نشرها فى أبريل ١٩٨٣، ولدواعى المنافسة وجد يوسف إدريس نفسه فى مواجهة هيكل على «جثة» السادات.
وقت النشر سافر يوسف إدريس إلى اليونان بدعوة من لجنة التضامن «الأفرو آسيوية» للمشاركة فى مؤتمر لمناصرة القضية الفلسطينية.. ولما عاد وجد الدنيا مقلوبة عليه، وأنه متهم بالمشاركة فى موسم الهجوم على السادات، وكان أكثر ما آلمه أن تشارك «الأهرام» فى الحملة عليه والتحريض ضده، وهى الجريدة التى يعمل بها وينتمى إليها، ووصل الألم منتهاه عندما رفضت الجريدة أن تنشر الرد الذى أرسله إليها يوضح فيه موقفه أو يبرره.. وكاد يجن عندما صدر بيان عن المجلس الأعلى للصحافة يحمل اتهامات قاسية ضده تكاد تصل إلى حد الخيانة.
يحكى يوسف إدريس بنفسه: «حاولت أن أنشر تكذيبًا لما ذكرته الأهرام فى الأهرام فرفض مدير التحرير نشره.. وحاولت نشر التكذيب فى كل الصحف القومية الأخرى فرفضت جميعها.. وحاولت الدفاع عن نفسى وإدانة قرار المجلس الأعلى للصحافة، باعتباره قرارًا باطلًا بنى على كلام باطل، ودون أن يسمع لى رأى أو يقرأ أحد ما كتبته، وأيضًا رفضت كل الصحف المصرية الحكومية أن تنشر لى حرفًا.. وبناء على تزوير مدير الأهرام وإدانة مجلس الصحافة بدأت حملة ضارية من المقالات والاتهامات، تتهمنى بنبش قبور الموتى، وأننى نافقت السادات حيًا وهاجمته ميتًا، وأن السادات عالجنى على نفقته، بل أضاف رئيس تحرير (مايو) اتهامًا آخر من عنده، بأننى كتبت هذه المقالات بأمر من القذافى.. بل وصلت الحملة الإرهابية إلى حد أن كاتبًا من كتّاب الأعمدة فى جريدة الأخبار، زعم أن مقالاتى وكتاب هيكل لم ينشرا صدفة، وإنما هما جزء من خطة دولية بتوجيه من موسكو لإفشال المفاوضات اللبنانية - الإسرائيلية، وإشاعة جو من الفوضى فى المنطقة.. والحقيقة أن المفاجأة الكبرى كانت أول مايو، ففى صباح ذلك اليوم نشرت جريدة الأخبار موضوعها الرئيسى عنى وكيف أننى اغتلت نفسى بنفسى، وكيف أننى انتهيت، وأن الأسى يقطع قلب كاتب المقال (ثبت أنه موسى صبرى) على ما وصلت إليه.. ولم أكن أتصور أن كذبة يمكن أن تتضخم ككرة الثلج وتتحول إلى حقيقة تديننى من أجلها كل الصحف الحكومية، بل تفبرك خطابات من قراء تستهجن ما فعلته وتطالب برأسى».
المفاجأة الأصعب أن يوسف إدريس وجد نفسه موضوعًا فى خطاب الرئيس مبارك فى عيد العمال، صحيح أنه لم يذكر اسمه صراحة، ولكن مصر كلها عرفت أنه هو الكاتب الذى طعنه الرئيس فى وطنيته وأشار إلى تقاضيه خمسة آلاف دولار من القذافى ثمنًا للهجوم على السادات.. ولم يملك إدريس سوى أن يكتب خطابًا إلى مبارك عنوانه «إنى أتظلم منك إليك»، يقول فيه: «إن طعنى فى شرفى وعلى الملأ هكذا مسألة أهون منها عندى حكم الإعدام.. إذ إن طعن الكاتب فى شرفه من رئيس الدولة، حكم بالإعدام، وإعدام غير مشرف». «وإذا كان بعض الناس وبعض الأجهزة قد وضعت أمامكم معلومات هى التى دفعتكم لهذا القول، فإننى لا أطالب فقط برد اعتبارى وإنما أطلب وألح أن يُحاسب هؤلاء».

جمع المقالات فى كتاب «البحث عن السادات» ونشره خارج مصر لكنه سقط أمام «خريف العمر»
كان يوسف إدريس عنيدًا بما يكفى لأن يواصل «نزقه» إلى النهاية، فلم يتراجع عن غلطته التراجيدية فى حق السادات، بل زاد فى العناد وقرر أن يطبع مقالاته فى كتاب بنفس عنوانها «البحث عن السادات» ولم يجد من يطبعه له فى مصر، فنشره خارجها، ورغم تعدد طبعاته، فإنه لم يحظ بما حظى به كتاب «خريف الغضب» لهيكل من شهرة وذيوع.. فقد كان «خريف الغضب» أكثر عمقًا وتحليلًا وسردًا لسيرة السادات حتى ولو كان الغرض غير نبيل.
يظل «البحث عن السادات» مجرد «نزوة» و«لحظة طيش» فى مسيرة كاتب مبدع عاش حياته يمارس الشغب والتمرد والجنون المدهش، ويرى أن كل الحرية الموجودة فى العالم العربى لا تكفيه وحده.
فى حكمه على السادات كان جانحًا وغير منصف، ولا يعول على حكم كتبه صاحبه تحت سيطرة الغضب.
فى تلك المقالات كتب بنفسه: «وثلاثة أرباع أحكامى على الآخرين أصدرها من أول دقائق تعرفى بهم ولم أخطئ فى حكمى مرة واحدة، ولا أقول هذا تفاخرًا أرعن بالذات وإنما لأذكّر المتشكك من القراء أن المعرفة «الفراسية» أو بالإدراك الحدسى هى حقيقة علمية معترف بها وأحيانًا يعتبرونها طريقة أكثر مباشرة وأكثر دقة وصحة من المعرفة المبنية على التحليل أو التجميع أو الإدراك العقلى المحض غير المختلط بالإحساس الجوانى الذاتى المرهف».. فهل نعتبر «البحث عن السادات» هى المرة الأولى التى يخطئ فيها يوسف إدريس التقدير؟.. ربما.