رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الجغرافيا تعانق التاريخ.. كيف جمع "ديجول" بين الجورنالجي والجغرافي الفذ؟

جمال حمدان
جمال حمدان

كان اللقاء مشوقا؛ فالجغرافيا على موعد مع التاريخ؛ كلاهما يري في الآخر أيقونة عصره في مجاله؛ حتي وإن تباينت بينهما مسافات التفكير وطريقة اللعب مع الحياة؛ فكلاهما تشابهت النشأة بينهما، فهما ابنان نبتا داخل أعماق الريف المصري.

الأول هو عالم الجغرافيا الذي سطر بقلمه ملحمة "شخصية مصر.. عبقرية الزمان والمكان"، لكنه ودون سابق ميعاد اختار العزلة والرهبنة، قبل أن يأخذ نصيبه من الحياة الدنيا؛ فسرها الثاني في لقائه الأول معه بأنه رجل تعرض لصدمة شديدة فأخذ يعاقب نفسه عليه.

بدأت العلاقة بينهما بعد صيف 1967، وإن لم يلتقيا إلا بعدها بسنوات طوال؛ ففي طريقه للقاء زعيم الثورة الفرنسية شارل ديجول، بعد الهزيمة النكراء التي وصفها بالنكسة؛ حاملا رسالة له من الرئيس المصري جمال عبد الناصر.

كان الرجل قد أعد لنفسه لحوار طويل، لكنه بمجرد لقائه بـ «ديجول» سأله عما ماذا يريد؟؛ فأربك حساباته التي أعدها لحواره معه، هو فقط كان يريد أن يتعرف على رؤيته لهزيمة " 5 يونيو".

بثقة شديد أجاب الزعيم الفرنسي بعد أن طلب من مساعديه إمداده بخرائط لمنطقة الشرق الأوسط قائلًا: « هذه مساحة الشرق الأوسط، وتلك مساحة إسرائيل؛ وبالنظر إلي الهزيمة التي لحقت بكم، تجدها مؤقتة بحكم التاريخ والجغرافيا والحقائق السكانية».

في تلك اللحظة تبدت أمامه أهمية الجغرافيا، فالصحفي لن يكون قادرًا على قراءة المشهد ما لم تكن الخرائط أمامه».؛ وعندها بدأ ارتباطه بالجغرافيا ينمو ويزداد لدرجة جعلت ذلك العلم جدارا هاما في مشروعه الصحفي والفكري لاحقا.

لم يكن أمامه حينها غير النهل من مشارب ذلك العلم الجغرافي الرفيع، فهو الرجل الذي طالما حلم بلقائه منذ أن قرأ له مبكرا؛ لكنه ظل ذلك الرجل القادم من المجهول، فهو شخص يرفع شعار " ممنوع الاقتراب أو التصوير" لحياته، غير مسموح لأحد باختراق عزلته سوي بعض الاستثناءات القليلة.

دون سابق ترتيب، كان الجورنالجي على موعد مع أحد أصدقائه، والذي كان يعمل حينها رئيسا لتحرير مجلة «الهلال»، وبحكم الصداقة التي تربطه بذلك الصحفي النابغة والجغرافي الفذ، قرر أن يجمع بينهما في حوار طال انتظاره.

بعد فترة قليلة ذهب الكاتب السياسي الأهم في العالم حسب وصف عالم الجغرافيا للقاء، ومثلما جرت العادة قام رئيس تحرير مجلة "الهلال" بالطرق على الباب بالطريقة المعتادة، لكنه لم يلق استجابة، وبعد عدة محاولات قررا الانصراف.

في رحلة العودة وبعد أن فقد الصحفي الكبير الأمل في لقاء تلك الظاهرة العلمية الفريدة، جرت في عقله فكرة إلقاء حجر على شرفة ذلك الرجل المنعزل لعله يكون قد أخذته سنة من النوم، فيوقظه ذلك الحجر، وبالفعل أثار ت تلك اللافتة فضول عالم الجغرافيا، ونبهته إلي لقاء كان قد نسيه.

دقائق معدودات؛ وكان الجورنالجي محمد حسنين هيكل يجلس في حضرة الجغرافي جمال حمدان في منزله، في مقابلة طال انتظارها كثيرا.

يصف الكاتب الصحفي عبد الله السناوي تفاصيل اللقاء بينهما في كتابه " أحاديث برقاش.. هيكل بلا حواجز" قائلًا: سألت الأستاذ كيف كان اللقاء الأول؟؛ « من خلف باب موارب رأيته مرتديا روب أحمر فوق ملابس البيت»؛ وكان منظر البيت يوحي بالفوضوية الشديدة، في مشهد لا يليق برجل أثرت كتاباته في مجري التفكير العام.

ويضيف «هيكل» سألته: ليه كل ده؟ لماذا هذه العزلة وإسهاماتك مراجع كبري لكبار الباحثين، لماذا تفعل هذا وأنت مؤثر في التفكير العام لحدود لا تتصورها؟، ثم طلبت منه أن ننتقل لمكان يصلح للحوار، وكان هدفي أن يري الحياة الطبيعية لعله تغريه بالعودة.

كان اللقاء الأول بينهما عبارة عن "هيكل" يسأل و" حمدان" يجيب، وكان محور الحديث يدور عن حركة التاريخ، وإلي أين ستذهب بصاحبة المكان العبقري " مصر"، ونجح الجغرافي حسب وصف الجورنالجي في تشخيص الوضع المصري بامتياز.

تبادلًا الطرفان اللقاء، وفي المقابلة الثانية انقلبت الآية فـ «حمدان» يسأل و" هيكل" يجيب؛ وكان الأسئلة تدور عن رؤية "عبد الناصر" للصراع في المنطقة؛ وعندها أهدي الجغرافي الأعظم الجورنالجي كتابه " شخصية مصر" ممهورا بتوقيعه وعليه إهداء " إلي أهم كاتب سياسي في العالم وأعظم مفكر سياسي أنجبته مصر".

فأجابه هيكل: " دي مبالغة يا جمال".