رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

"طبعًا أحباب 1".. حكايات إبراهيم داود عن نجوم الأدب والغناء

جريدة الدستور

إن كان لتجربة الثمانينيات فى الشعر المصرى أسطوات ومعلمون رسموا لها خطوطها الجديدة، فإن الشاعر «إبراهيم داود» واحد من أبرز هؤلاء الذين ورثوا قصيدة ثقيلة اللغة بعد تفجيرها وتشريحها على مائدة تجارب جيل السبعينيات، فنفضوا عنها الكثير من غموضها وأعادوها إلى الحياة اليومية وهمس الشوارع. ومنذ ديوانه الأول «تفاصيل»، الذى صدر عام ١٩٨٩ وحتى آخر أعماله «أنت فى القاهرة» عام ٢٠١٥، وهو يحفر تجربته الخاصة فى قصيدة النثر، ويضيف إليها لونًا جديدًا من خلال فن السرد الذى أصدر فيه ثلاث تجارب: «خارج الكتابة، الجو العام، والقرآن فى مصر»، وها هو يستعد لنشر تجربته الرابعة «طبعًا أحباب»، التى أهداها إلى أرواح «محمد كامل القليوبى، وكمال القلش، وأحمد سيف الإسلام»، والتى خصّ «الدستور» بنشر مقاطع منها.

◄ إبراهيم أصلان.. اشترى الكرسى الهزاز ولم يجلس عليه
عطر إبراهيم أصلان فى المكان، رغم مرور أربع سنوات على رحيله، صوته القريب وابتسامته وشعره وشاربه وملابسه الكاجوال وأناقته الروحية، حولته إلى أيقونة معلقة فى مكان خاص فى قلوب محبيه، لم يكن بالنسبة لى الكاتب الكبير ولا الأستاذ فقط، ولكنه الصديق الذى يرتج جسده كله عندما يضحك، الضحكة القديمة، التى تدفعه لهزك قبل أن يضغط على يديك بكل قوته، الرجل الذى عالج اللغة من الأورام، لكى تتربع البداهة المصرية على عرش الحكايات، كان صاحب «مالك الحزين» يعتبر الكتابة هواية، والحياة مصدر المعرفة الأول، والسياسة عمل أدنى من عمل المبدع، كان يكتب بما يعرفه، لا ما يعرفه، وينتمى إلى القنوات الأرضية التى يشاهدها أناس غير مهتمين بالقضايا الكبرى، قصصه رفضت مقولة «إنسان الطبقة الوسطى يمثل البشرية»، اقترب من المهمشين، من المياه الجوفية فى الوجدان المصرى دون أن يرفع لافتة الرسالة الاجتماعية، كان له حضور مدهش وسط الشباب، لأنه يستأنف حوارًا ما وهو يتعرف على أحدهم، ترجمت أعماله إلى معظم اللغات، ويأتيك بكتاب له بالهولندية ويقول: ما جدوى أن يعرفك الهولنديون ولا أحد يعرفك فى بولاق الدكرور؟.. هو موزع التلغرافات فى هيئة البريد وهو شاب وأستاذ صياغتها، صائد الأسماك المشغول بكرة القدم والملاكمة وآخر تطورات التكنولوجيا، صاحب بحيرة المساء، ووردية ليل، ويوسف والرداء، وغرفتان وصالة، وخلوة الغلبان، وحارس حكايات شارع فضل الله عثمان، الذى عاش يبحث عن الأُلفة الهاربة.

صديقى الكبير الذى التقيته وأنا فى أول العمر وسافرت كثيرًا معه، واقتربت من الشعر الذى يجلس خلف حكاياته، هو رجل الوقائع الصغيرة الذى اشترى منذ سنوات بعيدة كرسيًا هزازًا، كان كبيرًا على شقة إمبابة، ولم يُستغل فى شقة المقطم الأولى، وعندما استأجر شقته الأخيرة «الإيجار الجديد» الواسعة، وجد مكانًا له، وبمجرد جلوسه عليه.. توكل على الله.

◄ خيرى شلبى.. أيام الصعلوك الأعظم على مقهى الغول
يلجأ الكتاب عادة إلى الأرشيف أو إلى جوجل، عند الكتابة عن شخص كبير المقام فى الحياة العامة، رحل فجأة، غالبًا ما يجد الكاتب مداخل عدة تعينه على كتابة مقال يعدد مآثر ومنجزات هذا الشخص، توحى للآخرين بأن ما كتب يكفى لتعليق الراحل فى برواز فى مكان ما فى ذاكرة القارئ، ودائمًا يكون الهدف نبيلًا وضروريًا وصادقًا «ومهنيًا»، خصوصًا إذا كان الرجل معروفًا ويملك رصيدًا عند الذين قرأوا له قصصًا أو روايات أو مقالات، وكان ممن يظهرون فى التليفزيون، لكن عندما يتعلق الأمر بخيرى شلبى، فالوضع بالنسبة لكاتب هذه السطور مختلف، ليس بسبب المعرفة القديمة بالشخص ومنجزه، لكن لاعتقادى بأنه سيقرأ حتمًا ما كتبت، ولا أعرف هل سيعجبه أم لا؟ إذا أعجبه سيهاتفنى مثنيًا على ما كتبت ونتفق على موعد، وإذا حدث العكس هاتف إبراهيم أصلان أو محمود الوردانى أو لطفى لبيب لإعلان استيائه.

كان عمرى نصف عمره بالضبط عندما تعرفت إليه فى منتصف الثمانينيات، كان يجلس فى مقهى إبراهيم الغول أو «الجنيه» المواجه لمسجد السلطان قايتباى الفاتن «المرسوم على الجنيه»، يكتب ويقرأ ويلتقى أصدقاءه ويشيع البهجة والمرح والمعرفة، وآخر الليل يركب سيارته الفولكس التى تبحث عن المطبات فى الشوارع، التى يركنها فى أى مكان فى القاهرة ويعتبرها رجال المرور لا تحتمل مخالفة، ستجده فى أماكن عدة داخل قاهرته التى يعرف دهاليزها فى الغورية عند أحمد فؤاد نجم، فى حدائق القبة مع حسن الموجى ومحمد جاد الرب وحامد الحناوى، فى مقهى ريش والأوديون، فى مسرح الطليعة والمسرح القومى، فى الباطنية وشارع المعز، فى مقاهٍ لا تعرف كيف اكتشفها، مقاهٍ منسية وسط تجاعيد القاهرة، لكن لها سحرًا خاصًا، الذين يعرفونه سيلتقونه لا محالة فى أى وقت، لا تعرف متى ينام ومتى أنجز رواياته وكيف حفظ كل هذا الشعر ومتى كتب للإذاعة كل هذه المسلسلات؟.

فى كل أماكنه يجلس فى الصدارة وحوله من ينصتون إليه، لا تقدر أن تقول إنه كان قصيرًا أو طويلًا، لكنك ستعرف أنه ممتلئ امتلاء لا إسراف فيه، ملامحه ريفية طيبة، بشرته بيضاء مشربة بالحمرة والخبرة والانتظار، نظّارته السميكة تكمل صورته، نظّارة يخلعها عندما يشرع فى الكتابة أو القراءة، صوته فيه من شخصية آلة الأرغول، قديم ودافئ وودود، عندما يتحدث تشعر بأنه سليل حكايات ألف لية وليلة أو الزير سالم وذات الهمة والظاهر بيبرس وكتب الكرامات والحيل الطفولية العظيمة، تشعر بأنه سليل التراث العربى الإبداعى الذى يحث على الحياة والتأمل، سليل البداهة المصرية والقدرة الفذة على التواصل مع البشر، سليل الحزن الشفاف الذى ترك ندوبًا كثيرة على روحه.

كان قبل أن يكتب فاتنته «الوتد»، قد كتب عددًا من الروايات المهمة مثل «اللعب خارج الحلبة والشطار والسنيورة ورحلات الطرشجى الحلوجى»، ولم يهتم بها النقاد، لأن الكاتب كما كان يقول- لم يكن يساريًا، لكن «الوتد» أجبرت الجميع على الانتباه إلى رافد جديد مضى يشق طريقًا جديدًا فى فن الرواية العربية بمصر، فى وقت كانت الحفاوة فيه على أشدها بأدب أمريكا اللاتينية المبهر وبالواقعية السحرية التى أحاطت به، اكتشف عشاق هذا الفن، وعلى رأسهم الراحل إبراهيم منصور، أهمية خيرى شلبى، الذى كان وقتها فى الخمسين، وكان سعيدًا بالحفاوة المفاجئة، وشعر بأنه نجح فى فرض إيقاعه، وبدأ انطلاقته الكبرى الواثقة بعد ذلك، من خلال: «ثلاثية الأمالى، أولنا ولد، ثانينا الكومى، ثالثنا الورق»..، ووكالة عطية، موال البيات والنوم، صالح هيصة، صهاريج اللؤلؤ «عن عبده داغر»، صحراء المماليك، زهرة الخشخاش، نسف الأدمغة، أسباب للكى بالنار، بغلة العرش، موت عباءة، لحس العتب، منامات عم أحمد السماك، والأخيرة مجموعة أحلام للعم أحمد حماد السماك، والذى اعتبره العم خيرى ملهمًا وصديقًا له.
انحازت أعماله للأشواق المكبوتة عند المصريين، كتبها بلغة حريفة مثل شخصياتها، أعمال أرخت للعذابات الصغيرة التى إذا وضعتها جنب بعضها البعض ستتعرف على مصر التى لا تظهر فى التليفزيون أو الصحف، لقد سعدت بقراءة أعمال كثيرة وهى ساخنة، وكنت أنتظر اليوم التالى لأتابع ما أنجزه فيها. كان خطه جميلًا رغم أنه لا علاقة له بالخطوط المتعارف عليها، هو أقرب إلى خطوط لغة قديمة مقدسة، حروف أقرب إلى الرسم، لكنه خط مبين وواضح، كنت أشفق على مصير شخصياته، ورغم الحنو والرقة التى يرسم بها هذه الشخصيات، نجح فى جعل الحكى سلوكًا وليس صنعة، وكسر الحدود بين الخيال والواقع، بين الشفاهة والتدوين، بين التاريخ الشخصى والعام، مرات تشعر أنك أمام شاعر ربابة يحكى لك سيرة، ومرات أمام جواهرجى ماهر يحول الخامة المتربة إلى عقد مبهر، ومرات أمام حكيم مصرى قديم يشير ولا يفصح تجربته الصعبة فى الحياة حوّلها إلى أسطورة حقيقية، واستغل معاناته أفضل استغلال، فقدم للأدب العربى مائدة عامرة بكل صنوف الحكى المصرى، تجلت خبراته وثقافته أيضًا فى فن البورتريه، الذى ارتقى به إلى منزلة الأدب، دون اللجوء إلى الأرشيف، هو يكتب الناس بخبرته فى الناس، هو يرى نفسه فيهم، يختلف معهم ويغضب منهم، وسرعان ما يرق، هو من أقاربك الذين إذا اختلفت معهم يكون الخلاف حادًا، وعندما يختفى غبار الخلاف تظهر ابتسامته العريضة التلقائية الآسرة لتعيد كل شىء إلى مكانه، له أيضًا كتابات من الصعب تصنيفها مثل كتاب بطن البقرة، الذى يحكى سيرة أربعة أحياء قاهرية، احتشد لها بالمعرفة وبتجربته الشخصية فيها وبمعرفة عمارتها، فجاء الكتاب درسًا فى الكتابة وفى المعرفة فى الوقت نفسه.

ناهيك عن كتاباته فى المسرح والتاريخ ومقالاته، أكثر من سبعين كتابًا تشير إلى كاتب كبير مختلف.. أما عمى خيرى شلبى الذى أسعدنى زمانى بالمشى والسهر والغناء معه كل هذه السنوات، فمن الصعب أن أصدق بسهولة أنه رحل.

◄ أنسى الحاج.. إخلاص المتصوفة يكفى
أنسى عاش مقتنعًا بأنه «شعوب من العشاق»، وأننا جميعًا جرحى الوجود، يتقدم الشاعر الآخرين أحيانًا، لأنه يتميز عن سائر الجرحى بتطلع نحو عالم أكثر رحمة، هذا التطلع هو الشعر، لا يختلف شعر عن شعر إلا بهذا التطلع، وبزرقة الطفولة الصامدة وراء جهاد هذا التطلع، أنسى اللبنانى هو رائد قصيدة النثر، حتى لو كان أدونيس منظّرها، ومحمد الماغوط له أحقية السبق والموهبة، فديوان أنسى «لن» «١٩٦٠» هو الإعلان الرسمى لها، وهذه القصيدة هى انتفاضة ضد الصرامة والقيد، ولأن النظم ليس هو الفرق الحقيقى بين النثر والشعر، الشكل الذى كان يحلم به بودلير «مرن يتوافق مع تحركات النفس الغنائية»، وهذه القصيدة تختلف عن الشعر المنثور والنثر الشعرى، كان طموحه هو حرية الانطلاق بالشعر العربى إلى فضاءات دلالية ولغوية جديدة، ومنذ «الوليمة»، مرورًا بالرأس المقطوع وماضى الأيام الآتية، وماذا صنعت بالذهب ماذا صنعت بالوردة؟ حفر الحاج مجرى عظيمًا فى ذائقة عشاق الشعر، وأثّر فى الأجيال الجديدة أكثر من الآخرين، لأنه أخلص لفن الشعر، وأثّر أيضًا فى مهنة الصحافة التى بذل عمره فى بلاطها، نثر أنسى المولود سنة ١٩٣٧ هو فتح فى السرد، ومقالاته التى صدرت فى ثلاثة مجلدات هى مصدر إلهام، وللأسف الشديد لم يُقرأ جيدًا فى مصر، ربما بسبب الخيال التقليدى الذى يدير الثقافة الرسمية، ولكن منزلته عالية عند الشباب الحالم بالتغيير، أنسى شاعر عربى عظيم أنجز مهمته بإخلاص المتصوفة.

◄ محمد الماغوط.. الهارب من الحشرات الزراعية إلى «البشرية»
«وأنا هائم فى الطرقات، أصافح هذا وأودع ذاك، أنظر خلسة إلى الشرفات العالية، إلى الأماكن التى ستبلغها أظافرى وأسنانى فى الثورات المقبلة، فأنا لم أجع صدفة ولم أتشرد ترفًا أو اعتباطًا، ما من سنبلة فى التاريخ، إلا وعليها قطرة من لعابى»، يلح علىّ هذا المقطع من قصيدة الغجرى المعلب لمحمد الماغوط، وأنا أنظر بأسى إلى ما آلت إليه الأمور، وأحاول وأنا أتفادى الحفر المبدورة فى الطريق، وأجدنى أكمل معه: «ما من قوة فى العالم ترغمنى على محبة ما لا أحب وكراهية ما لا أكره، ما دام هناك تبغ وثقاب وشوارع»، الماغوط الذى انتصرت قصيدته بعد موته وبعد الثورات التى بدأت نقية مثل شعره ووصل بها الحال إلى اختطاف ما هو شعرى فيها، مرة باسم المصلحة الوطنية ومرة باسم الدين، هو لا يشبه الذين يظهرون فى الفضائيات بعد أن نصّبوا أنفسهم متحدثين رسميين باسم الشعب والوطنية، لم يتغير كما تغير المناضلون القوميون على الشاشات وفى غرف المؤامرات المقفولة، لم تكن له أموال فى البورصة مثل الشيوعيين القدامى، ولم يبحث عن المجد مثل شعراء جيله، الذين يقفون فى طابور أمام صحراء اللغو فى انتظار الرضا، كان يقول عن نفسه «فى الأوقات العادية أكون عاديًا جدًا وفى الأزمات أكون محمد الماغوط»، كان طريد السلطة الغبية والفقر وضيق الأفق، كان طريدًا مثل أحلامنا، غادر قريته وعمره ١٤ عامًا، وقال: «كنت سأدرس الهندسة الزراعية، كنت متفوقًا، وفجأة أحسست بأن اختصاصى ليس الحشرات الزراعية، بل الحشرات البشرية»، دخل هذه المدرسة لأنها تقدم الطعام والشراب مجانًا، وهرب منها، ومشى على قدميه يومها ١٥ كيلومترًا، ومنذ ذلك الحين، كما قال، بدأ فى كتابة الشعر، كان يقول «لن أجوع أكثر مما جعت، ولن أتشرد أكثر مما تشردت، ولن أهان أكثر مما أهنت، ولن أُسحق أكثر مما سحقت، وسأظل حفرة فى كل طريق، وخريفًا فى كل غابة، وظلامًا فى كل شارع، وأنينًا فى كل عرس، وضحكة فى كل مأتم، حتى تستقيم الأمور لأجيال جديدة وأفكار جديدة»، عندما تقرأ ما كتبه عن مدينته سلمية قبل عقود، تشعر بأنه كتبها عن القاهرة هذه الأيام: «يحدها من الشمال الرعب ومن الجنوب الحزن ومن الشرق الغبار ومن الغرب الأطلال والغربان، فصولها متقابلة أبدًا فى قطار كعيون حزينة»، لم يكن له أصدقاء، وكان يقول إنه يحب عزلته ويحاول الحفاظ عليها، وأنه يحب الجماهير وهى بعيدة عنه، ويؤكد: «لم تخذلنى الجماهير مع أننى كنت قاسيًا، ولكنها قساوة أب مع أطفاله».. كان يتمنى أن يكون حصاة ملونة على الرصيف، أو أغنية طويلة فى الزقاق.. كان مثل الذين ثاروا فى كل مكان، يضربه شيخ الحارة فى طفولته ليحفظ ويتذكر، وفيما بعد يضربه الشرطى لكى ينسى، ومع هذا يقول: «لكننى لن أموت دون أن أغرق العالم بدموعى وأقذف السفن بقدمى كالحصى»، محمد الماغوط لم يكن شاعرًا سوريًا، كان أكبر من ذلك، لأنه سليل القهر الذى جرف الإنسانية إلى ما آلت إليه «كل حقول العالم ضد شفتين صغيرتين، كل شوارع التاريخ ضد قدمين حافيتين»، كلما اقتربت من الماغوط، أشعر أننى أتعرف عليه للمرة الأولى، وأتمنى أن أفعل مثله: «أحشو مسدسى بالدموع وأملأ وطنى بالصراخ»، لأننى بعد الثورة العظيمة الدافئة التى تم اختطافها: «لا أملك حتى طفولتى.. لا أملك سوى أخطائى».