رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محمد الباز يكتب: صلاح السعدنى لم يمثل.. بل عاش

محمد الباز
محمد الباز

«الحكاية بقت بزرميط».. لم تكن هذه مجرد جملة وضعها أسامة أنور عكاشة على لسان شخصيته الأسطورية العمدة سليمان غانم، التى أداها بملحمية نادرة صلاح السعدنى فى رائعته ورائعتنا جميعًا «ليالى الحلمية».. أعتقد أكثر أنها كانت رؤية صلاح السعدنى نفسه فيما ستقودنا إليه الأيام فى مصر.. لا أدعى أنه من وضعها على لسان بطله المتجدد، لكنها فى النهاية مسّت فكرته عما كان يراه مبكرًا.

اعتصرنى الألم وأنا أستمع إلى ما قاله ابنه «أحمد»، الممثل المعجون بالموهبة، وهو يتحدث عن التكريم الذى حصل عليه والده فى واحد من المهرجانات الشعبية، بينما لا يقابل هذا النجم الكبير تكريمًا مماثلًا فى مصر، البلد الذى منحه كل حياته ولم يحصد منه إلا بعض ذكريات أكثرها مُر بطعم العلقم.

لا أعزى أحمد السعدنى فى الكلمة الموجعة التى قالها، بل أعزى نفسى، وأعزى كل الذين يعملون بإخلاص وتفانٍ تام من أجل نهضة هذا البلد صلب القلب، الذى يطحن فنانيه ومبدعيه ويكسر عظامهم، ولا يلتفت إليهم بنظرة عين ولو عابرة بعد أن يضعوا رحال رحلتهم الطويلة فى الحياة.
يقول أجدادنا العرب «إذا أردت أن تُكرَّم فمت».. عبارة نستنطقها كل يوم، نراها شاهدة على حالة من النكران والجحود اللامتناهى فى حياتنا، فلا نلتفت إلى من يستحقون التكريم والتقدير إلا بعد أن يرحلوا عنّا، وكأن رحيلهم جرس إنذار، نندم، نتبادل كلمات العتاب، نثنى على من رحل بحزنٍ شديد، لأننا لم نقل له إننا نحبه ونقدره وجهًا لوجه، وبعد أن تنتهى زفة الرحيل نعود إلى مقاعدنا مرة أخرى نستأنف رحلة النسيان والنكران لمن يعيشون بيننا.
أعتذر لأجدادنا العرب هذه المرة، فلدينا من يستحق التكريم، لن ننسى ولن نكون جاحدين، بل سنقولها له الآن، وهو لا يزال مشرقًا فى حياتنا، يمثل لنا ونسًا بما قدمه وأبدعه وجرى على يديه، عله يشعر أن سنوات حياته لم تتسرسب من بين يديه دون جدوى.. وليعلم أن ما هتف به صديقه الشاعر سيد حجاب، ولحنه رفيق مشواره عمار الشريعى، وشدت به حنجرة فنان مبدع هو محمد الحلو «ما تتسرسبيش يا سنيننا من بين إيدينا.. وما تنتهيش ده احنا يا دوب ابتدينا»، لم يكن قاعدة تسير على من لعبوا أدوار البطولة فى مسلسل كان ينعى أيامنا وسنوات عمرنا.
لم يكن صلاح السعدنى يقدم أدوارًا عابرة على خشبة المسرح أو عبر شاشات السينما والتليفزيون وأثير الإذاعة، بل كان ضميرًا يتحرك بيننا لسنوات طويلة.. فلم يكن هو الممثل الذى تختاره أدواره فيخضع لها ويستسلم، بل كان هو من يختار هذه الأدوار بوعى شديد، فهو ليس أداة يطوعها مبدعون آخرون، ليقولوا على لسانه ما يريدون، بل كان مثقفًا من طراز رفيع، صاحب رسالة تأتينا، ليس عبر حواره المنطوق فقط بل عبر حركات جسمه وتعبيرات وجهه، التى لم نخطئها أبدًا فى أى من أدواره.
عُد بذاكرتك إلى الوراء قليلًا وأمسك بين يديك بأى من أدوار صلاح السعدنى، حتى تلك التى كانت ثانوية، ستجده يقول لك: لا تستسلم للحياة وتجعل نفسك فى خدمتها، فأنت تستحق أن تكون ما تريد، لا ما يريده لك الآخرون.
هل رأيته وهو يقوم بدور وكيل النائب العام فى فيلم «الغول».. راجع فقط تعبيراته فقط وهو يراقب صديقه «عادل إمام» وهو يحاول أن يفرض العدل بالقوة، بعد أن عجز القانون الذى يملكه هو عن تقديم شىء ذى بال.
هذا هو صلاح نفسه الذى ظل لسنوات طويلة من عمره المديد، يعرف ما الذى يجب علينا فعله، ينصح ويوجه ويرشد، لكنه يعرف النتيجة، وأعتقد أنه فى عزلته الآن ينظر بأسى شديد لما صارت إليه أحوالنا.. ولا أستبعد أنه يقول صامتًا: ألم أقل لكم.
لقد طغى العمدة سليمان غانم على تاريخ صلاح السعدنى كله.. ربما لأنه قدم خلاله مزيجًا من شخصيته الحقيقية وشخصية شقيقه كاتبنا الكبير محمود السعدنى، الذى كان يعتبره مرشده الروحى، وكفيله فى الحياة وسط مصاعبها وخطوبها وأزماتها.. لكن صلاح السعدنى بالنسبة لى أكثر هو «حسن أرابيسك».
مواطن مصرى بسيط جدًا، فنان ومبدع، يحمل تاريخ جده على كتفيه، يرى أن بضاعته مهمة لكنها بارت تمامًا، لا يحمل هموم بيته وأسرته وحارته ويمضى بها محاولًا إنقاذ ما يمكن إنقاذه، لكنه يحمل هموم الدنيا كلها، مبديًا لنا هذا القلق الوجودى الذى نعانى منه جميعًا، فهو لا يستقر على حال، ولا يستقر له حال.
لقد حشد صلاح السعدنى فى «حسن أرابيسك» كل خبراته فى الحياة، كل أفكاره وهمومه وأوجاعه وتمرده الذى بدأه مبكرًا.. فالفنان الذى يسكنه كان يجب أن يتوجه به إلى معهد الفنون المسرحية أو معهد السينما، لكنه اختار أن يدرس فى كلية الزراعة.
سأستسلم لمن يعتبرون ما فعله صلاح فى بداية حياته تمردًا على سطوة حضور شخصية شقيقه الأكبر محمود، لكن هناك سرًا آخر، فقد ذهب صلاح ليدرس الزراعة ربما لأنه كان يريد أن يعرف سر الحياة، وأعتقد أنه وضع يديه عليه، ولذلك فهو الآن يسخر مما يجرى أمامه.
أعرف أن فنانًا كبيرًا مثل صلاح السعدنى لا يحتاج لشهادتنا ولا يحتاج لتكريمنا، ربما نكون نحن من نكون فى حاجة لأن نكرِّم أنفسنا بتذكره والإشارة إليه وتقديم الشكر له على كل ما قدمه لنا- وهو كثير- وأمتعنا به، والأهم من ذلك أنه أوجعنا، لأنه كثيرًا ما وضعنا أمام أنفسنا فى المرآة.. ثم عبر من أمامنا حتى لا يجرح مشاعرنا أو يجعلنا نتقزم بأكثر مما نحن عليه أو صرنا إليه.
لسنوات طويلة كانت تكفينا طلة صلاح السعدنى على الشاشة لنعرف أننا أمام عمل كبير ومحترم، يمنح عقولنا قدرها، ويمنح أرواحنا بعضًا من عبقريته المطلقة، ويعبر بنا أراضى زلقة ضبابية، وإذا أردت أن تتأكد مما أقوله، فليس عليك إلا أن تسأل نفسك: كم مرة رأيت نفسك فيما يقدمه صلاح، كم مرة صرخت وقلت أنا هو الذى يتحدث بلسانه هذا النجم الكبير؟
لقد نجح صلاح السعدنى فى أن يكون كلًا منّا، أن يسكننا جميعًا، وذلك لأنه لم يكن يمثل بل كان يعيش.
هل يمكن أن نعتبر هذا سر عبقريته الأعظم؟
أعتقد أنه هو ذلك بالتحديد.. قرر هذا النجم الكبير أن يعيش، يدرس ما يريد، يختار أصدقاءه كما يشاء، يتعلم بالطريقة التى يريدها، يقرأ ما يراه مهمًا، لا يستسلم لما تفرضه الحياة عليه، يتوقف عندما يرى هذا ضروريًا، ويُكمل الطريق عندما يرى ما يفعله لازمًا، ينتقى أدواره كما ينتقى كلماته التى يحرص على نطقها بلغة عربية صحيحة.. فى إشارة إلى ثقافته وثراء روحه، ولذلك فأمثال صلاح فى حياتنا نادرون جدًا بقدر ندرة القيم النبيلة.
سيعيش صلاح السعدنى أكثر من زمنه، لأنه منحنا أكثر من أزماننا التى نعيش فيها، ولأننا لا نملك سوى كلمات، فإننا نضعها بين يديه لعله يكون أكثر رضا عما فعل وقدم.. فالتاريخ يشهد أن لدينا فنانًا عظيمًا.. وهو ما نشهد به ونقره.
ويا فناننا العظيم دمت مبدعًا وعبقريًا وإنسانًا كما أنت.