رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فى جذور الخلافات بين الكنيستين القبطية والإثيوبية


تعود جذور الخلافات بين الكنيستين القبطية والإثيوبية إلى عام ١٩٢٩، إذ كان من المتبع أن ‏مطران‏ ‏إثيوبيا‏ ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏يقيمه‏ ‏سوى‏ ‏البطريرك‏ ‏القبطى‏ ‏فى‏ ‏مصر‏ ‏منذ‏ ‏قرون‏، ‏بل‏ ‏كان‏ ‏يتم‏ ‏اختياره‏ ‏من‏ ‏بين‏ ‏الرهبان‏ ‏المصريين‏ ‏وليس‏ ‏من‏ ‏بين‏ ‏الرهبان‏ ‏الإثيوبيين‏، وهذا أدى‏ ‏إلى‏ ‏ظهور‏ ‏نزاعات مبكرة‏ ‏بين‏ ‏الكنيستين.
كان للدبلوماسى المصرى د. فرج موسى من‏ ‏سنة‏ ١٩٤٢- ‏حتى‏ ‏وفاته‏ ‏المبكرة- دور إيجابى فى حل العديد من الخلافات، فقد أسهم ‏فى‏ ‏مناسبات‏ ‏عدة‏ ‏فى ‏المفاوضات‏ ‏التى ‏جرت‏ ‏بين‏ ‏الكنيستين‏ ‏‏المصرية‏ ‏والإثيوبية‏. ‏وتصرف‏ ‏بصفته‏ ‏وسيطا‏ ‏لحماية‏ ‏المصالح‏ ‏المصرية‏ ‏والحفاظ‏ ‏على‏ ‏علاقات‏ ‏جيدة‏ ‏بين‏ ‏مصر‏ ‏وإثيوبيا‏. عُين‏ ‏دبلوماسيًا‏ ‏مصريًا‏ ‏شابًا‏ قنصلًا ‏في‏ ‏أديس‏ ‏أبابا‏ ‏بعدما‏ ‏عمل‏ ‏فى‏ ‏واشنطن‏ ‏وبرلين‏ ‏(١٩٢٤ -‏ ١٩٢٨)، وكانت‏ ‏هذه‏ ‏أول‏ ‏بعثة‏ ‏دبلوماسية‏ ‏أو‏ ‏قنصلية‏ ‏مصرية‏ ‏فى‏ إثيوبيا‏. ‏‏وفى ‏ذلك‏ ‏الوقت‏، ‏أى‏ ‏فى‏ ‏سنة‏ ١٩٢٩، ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏لمصر‏ أى ‏سفارة‏ ‏فى‏ ‏الخارج‏، ‏ما‏ ‏خلا‏ ‏بعض‏ ‏المفوضيات‏ ‏والقنصليات‏ ‏النادرة‏. ‏
وكانت‏ إثيوبيا‏ دولةً‏ ‏لا‏ ‏يكاد‏ ‏يعرفها‏ ‏أحد، كما كانت‏ ‏‏فى‏ ‏ذلك‏ ‏الوقت‏ ‏الدولة‏ ‏المستقلة‏ ‏الوحيدة‏ ‏فى‏ إفريقيا‏ (‏باستثناء‏ ‏مصر‏)، ‏بل‏ ‏كانت‏ ‏الدولة‏ ‏الإفريقية‏ ‏الوحيدة‏ ‏التى‏ ‏لم‏ ‏تستعمر‏ ‏قط‏. أقام‏ ‏فرج‏ ‏موسى‏ ‏فى‏ ‏الحبشة‏ ‏طوال‏ ‏خمس‏ ‏سنوات‏، ‏وكان‏ ‏هو‏ ‏وزوجته‏ ‏من‏ ‏بين‏ ‏الأصدقاء‏ ‏المقربين‏ ‏للإمبراطور‏ ‏وقرينته. وعندما‏ ‏وصل‏ ‏فرج موسى‏ ‏إلى العاصمة الإثيوبية‏ ‏أديس‏ ‏أبابا‏ ‏في‏ ‏فبراير‏ ١٩٢٩ ‏كان‏ ‏هيلاسيلاسى‏ ‏يدير‏ ‏البلد‏ ‏بصفته‏ ‏ملكًا‏ ‏إلى‏ ‏أن‏ ‏تم‏ ‏تتويجه‏ ‏إمبراطورًا. ‏وقد‏ ‏شارك‏ ‏القنصل‏ ‏فرج‏ ‏موسى، ‏الذى‏ ‏كان‏ ‏مسموع‏ ‏الكلمة‏ ‏عند‏ ‏الإمبراطور‏ ‏فى‏ ‏العديد‏ ‏من‏ ‏مشروعاته‏. وعندما‏ ‏وصل‏ ‏فرج‏ ‏موسى‏ ‏إلى‏ ‏أديس‏ ‏أبابا‏، ‏كان‏ ‏المطران‏ ‏المصرى‏ ‏فى ‏إثيوبيا‏ ‏قد‏ ‏توفى‏ ‏منذ‏ ‏ثلاث‏ ‏سنوات‏ ‏دون‏ ‏أن‏ ‏يحل‏ ‏محله‏ ‏أحد‏. ‏وبينما‏ ‏كان‏ فرج موسى‏ ‏يقضى‏ ‏الأشهر‏ ‏الأولى‏ ‏في‏ ‏أديس‏ ‏أبابا‏، ‏كانت‏ ‏تجرى ‏مفاوضات‏ ‏فى‏ ‏القاهرة‏ ‏فى‏ ‏نفس‏ ‏الوقت‏، فى عام‏ ١٩٢٩، ‏بين‏ ‏ممثلين‏ ‏عن‏ ‏الحكومتين‏ ‏والكنيستين‏، ‏وتوصلت‏ ‏هذه‏ ‏المفاوضات‏ ‏فى‏ ‏النهاية‏ ‏إلى‏ ‏حل‏ ‏وسط‏ ‏تمثل‏ ‏فى‏ ‏تعيين‏ ‏مطران‏ ‏مصرى‏ جديد‏ ‏لإثيوبيا‏، ‏فأقيم الراهب سيداروس الأنطونى مطرانًا على إثيوبيا باسم‏ ‏الأنبا‏ ‏كيرلس عام ١٩٣٠ ‏وتعيين‏ ‏أساقفة‏ إثيوبيين‏ ‏لأول‏ ‏مرة‏ ‏فى ‏التاريخ‏. ‏وقام‏ ‏الأنبا‏ ‏كيرلس‏ ‏بتتويج‏ ‏الإمبراطور‏ ‏هيلاسيلاسى‏ ‏فى‏ ٣‏ ‏نوفمبر‏ ١٩٣٠‏.‏
ونجح‏ فرج موسى‏ ‏بلباقة‏ ‏فى‏ ‏الحفاظ‏ ‏على‏ ‏الروابط‏ ‏القائمة‏ ‏بين‏ ‏مصر‏ ‏وإثيوبيا‏، ‏وفى ‏تطويرها‏ ‏بمهارة‏ ‏كبيرة‏. ‏وغادر‏ فرج موسى‏ ‏إثيوبيا‏ ‏فى‏ ‏صيف‏ ١٩٣٤ ‏مُحّملًا‏ ‏بالأوسمة‏. ‏وعُين‏ ‏فى‏ ‏روما‏، ‏ثم‏ ‏فى‏ ‏القاهرة‏ ‏الصيف‏ ‏التالى‏. ‏وفى‏ ‏أكتوبر‏ ١٩٣٥ ‏اجتاحت‏ ‏قوات‏ ‏موسولينى ‏إثيوبيا‏، ‏ودخلت‏ ‏أديس‏ ‏أبابا‏ ‏في‏ ‏مايو‏ ١٩٣٦ ‏فى مقاومة شديدة لجيش موسولينى، ولجأ‏ ‏الإمبراطور‏ ‏إلى‏ ‏إنجلترا‏ ‏وقاد‏ ‏حركة‏ ‏المقاومة‏ ‏المسلحة‏. ‏وقامت‏ ‏سلطات‏ ‏الاحتلال‏ ‏الإيطالى‏ بمنح‏ الكنيسة الإثيوبية‏ ‏الاستقلال‏، ‏وعينوا‏ ‏بالفعل‏ ‏مطرانا‏ إثيوبيا‏ ‏بدلًا‏ ‏من‏ ‏المطران‏ ‏المصرى ‏الأنبا كيرلس‏ ‏الذى ‏تم‏ إبعاده‏ ‏إلى‏ ‏القاهرة‏، ‏كما‏ ‏عينوا‏ ‏أساقفة‏ ‏إثيوبيين‏!!، ‏وكان‏ ‏رد‏ ‏فعل‏ ‏الكنيسة‏ ‏القبطية‏ ‏المصرية‏ ‏فوريًا‏- إذ كان يرأس الكنيسة فى ذلك الوقت البابا يؤانس ١٩ البطريرك ١١٣ - ‏فقضت‏ ‏بمنع‏ ‏جميع‏ ‏الرهبان‏ ‏الإثيوبيين‏ ‏المعينين‏ ‏من‏ ‏قِبل‏ ‏الإيطاليين‏ ‏من أداء‏ ‏الطقوس‏ ‏الدينية‏. وفى‏ ‏مايو‏ ١٩٤١‏ عاد‏ ‏الإمبراطور‏ ‏إلى‏ ‏أديس‏ ‏أبابا‏ ‏بعد‏ ‏تحريرها‏‏. ‏وبعد‏ ‏مدة‏ ‏قصيرة‏، ‏كتب‏ ‏رسالة‏ ‏لبطريرك‏ ‏الأقباط‏ ‏فى‏ ‏مصر– البابا يؤانس ١٩ -‏ ‏وطلب‏ منه‏ ‏أن‏ ‏يرسل‏ ‏وفدًا‏ ‏لاستئناف‏ ‏المباحثات‏ ‏بين‏ ‏الكنيستين‏. ‏وكان‏ للدكتور ‏‏فرج‏ ‏موسى‏ دور بارز فى تحسين العلاقات بين الكنيستين. لكن المباحثات تعثرت مما سبب للدكتور فرج موسى‏ ‏آلاما‏ ‏موجعة، ‏لحقتها‏ ‏خيبات‏ ‏أمل‏ ‏أخرى‏ ‏نتيجة‏ ‏للدسائس‏، ‏وتوفى‏ ‏بنوبة‏ ‏قلبية‏ ‏فى ‏أبريل‏ ١٩٤٧ تاركًا‏ ‏أرملة‏ ‏وثلاثة‏ ‏أولاد‏ ‏فى‏ ‏سن‏ ‏المراهقة‏، ‏هم‏ ‏ميشيل‏ ‏وفرج (حاليًا بسويسرا)‏ ‏وهيلين (حاليًا بمدينة تورنتو الكندية).
وفى يونيو ١٩٥٩- أى بعد ٢٠ يومًا من سيامة البابا كيرلس السادس- تم الاتفاق على وضع بروتوكول تعاون بين الكنيستين، وطلب البابا كيرلس السادس من الأب أنطونيوس السريانى (فيما بعد البابا شنودة الثالث) كتابة بنود هذه الوثيقة والتى جاءت فى ١٢ بندًا، وتم توقيع الاتفاقية التى كانت تنص فى بندها الرابع على الآتى: «يُرفع مركز مطران (ليقا بابا سات) الكنيسة الأرثوذكسية للدولة الإثيوبية، وهو خليفة القديس تكلا هيمانوت إلى مركز بطريرك جاثليق (رئيسًا ليقانا بابا سات) ويُختار وفقًا لقوانين وتقاليد كرسى القديس مرقس بالإسكندرية من بين الرهبان الإثيوبيين الذين لا تعلو مرتبتهم على درجة القمص، (وهو المبدأ المعمول به أيضًا فى سائر الكرازة المرقسية).
ومن ثم فى عهد البابا كيرلس السادس البطريرك ١١٦ عادت العلاقات إلى أفضل مما كانت عليه بين الكنيستين، فكان أبًا حقيقيًا للمصريين والإثيوبيين معًا حتى إن الإثيوبيين كانوا يتطلعون إلى رؤيته، وقد أثنى الرئيس جمال عبدالناصر على تلك الروح العالية للبابا كيرلس السادس مما كان سببًا فى توطيد العلاقات الطيبة مع الحكومة الإثيوبية وشعبها فعاشا فى سلام. لقد رأى الشعبان فى هذا البطريرك العظيم النسك الحقيقى والتواضع الجم والأبوة الفائقة. كما كانت بادرة أعماله أنه أقام للإثيوبيين جاثليق إثيوبيا باسم الأنبا باسيليوس وذلك فى احتفال مهيب بالكاتدرائية المرقسية الكبرى بالأزبكية فى يوم الأحد ٢٨ يونيو ١٩٥٩ فى حضور الإمبراطور هيلاسيلاسى والمسئولين ولفيف من الشعب القبطى البسيط بدون بطاقات دعوة للحضور. وهكذا وضع البابا العظيم- المُحب لأولاده- حدًا لما كان يثيره دعاة الفرقة بين الكنيستين وصفت النفوس إلى حياة المحبة. ثم زار قداسته إثيوبيا بدعوة من الإمبراطور هيلاسيلاسى فى أكتوبر ١٩٦٠، ثم كانت الزيارة الثانية فى يناير ١٩٦٥ لرئاسة مؤتمر أديس أبابا بحضور رؤساء الكنائس الشرقية الأرثوذكسية.
لكن حدث بعد ذلك- بعد الرحيل المحزن للبابا كيرلس السادس فى ٩ مارس ١٩٧١- فى انتخابات بطريركية ١٩٧١ أن أساقفة الكنيسة القبطية فى مصر طمعوا فى الكرسى البابوى!!. وخالفوا الاتفاقية بترشيح أنفسهم للكرسى البابوى!!، ومن ثم قام الإثيوبيون بنقض الاتفاقية بإقامة بطاركتهم من بين الأساقفة الإثيوبيين واستقلوا بكنيستهم عن الكنيسة القبطية، ثم تبعتها كنيسة إريتريا فى الاستقلال، وللأسف أيدت الكنيسة القبطية هذا الاستقلال، فأصبح للكنيسة الإثيوبية بطريرك إثيوبى، وأصبح للكنيسة الإريترية بطريرك إرتيرى!!. وبعد أن كنا كنيسة واحدة فى عهد البابا كيرلس السادس أصبحنا ٣ كنائس متنافرة وليس على اتفاق!!، مثلما حدث مؤخرًا بين الكنيستين الأوكرانية والروسية باستقلال الكنيسة الأوكرانية عن الروسية، ثم قامت كنيسة القسطنطينية بتأييد هذا الاستقلال مما سبب خلافًا حادًا بين الكنيسة الروسية وكنيسة القسطنطينية!!. وهكذا مطامع الرئاسة الدينية كانت سببًا فى تفكك أواصر الترابط والمحبة بين الكنائس، مما يخالف تعاليم الكتاب المقدس «من أراد أن يكون فيكم عظيمًا فليكن خادمًا الكل»، وكان البابا كيرلس السادس تلميذًا مخلصًا لكتابات مار إسحق السريانى الذى من أقواله «من سعى وراء الكرامة هربت منه، ومن هرب منها بمعرفة تبعته وأرشدت الناس إليه». وما فعلته قوات موسولينى فى إثيوبيا عام ١٩٢٩ قامت إسرائيل بفعله فى الآونة الأخيرة بين الكنيستين الإثيوبية والقبطية. وما أشبه الليلة بالبارحة.