رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محمود خليل يكتب: جثة كليبر تعود إلى فرنسا.. وجثمان الحلبى فى حواصل الطير

محمود خليل
محمود خليل

فى سياق الترتيب لاغتيال «كليبر»، أخبر سليمان الحلبى ثلاثة من الغزيين بالخطوة التى انتوى الإقدام عليها، وعندما استمع الثلاثة إلى كلامه لم يرفضوا الفكرة، بل اعترضوا على أن يكون «سليمان» الرجل الأمثل القادر على تنفيذ المهمة الخطيرة بقتل سارى عسكر. وقد ظل سليمان يحدثهم فى الأمر طيلة الأيام الـ٣١ التى مكثها فى مصر، وحتى ليلة اليوم الذى نفذ فيه المهمة. وكان قد تمكن من جمع معلومات عن خطوط سير الجنرال كليبر.
تحدث سليمان مع بعض جنود البحرية العاملين مع سارى عسكر و«استخبر منهم إن كان يخرج- يقصد كليبر- برا فسألوه إيش طالب منه، فقال لهم إن مقصوده يتحدث معه، فقالوا له إنه كل ليلة ينزل فى جنينته، ثم صباح تاريخه شاف سارى عسكر معديًا للمقياس وبعده ماشى إلى المدينة فتبعه». أظن أن ما يسرده «الجبرتى» فى ذكر وقائع التحقيق مع سليمان الحلبى، تشير إلى أننا لسنا بصدد الحديث عن شخص يريد أن يجاهد ويغازى، نحن أمام شخص مدرب يرقى إلى مرتبة «القاتل المحترف» الذى يفهم أن المعلومات الاستخباراتية، تمثل قاعدة أساس لنجاح أى عملية اغتيال. وقد تمكن قبل لحظة التنفيذ من جمع معلومات كافية ووافية وضعته فى النهاية وجهًا لوجه أمام سارى عسكر الحملة الفرنسية «جان كليبر».
يحكى الجبرتى تفاصيل تنفيذ عملية الاغتيال التى وصفها- كما سبق وذكرت- بـ«النادرة العجيبة»، ويذكر أن «الحلبى» وصل إلى حديقة قصر «الألفى» بالأزبكية، وهو القصر الذى اتخذه نابليون- ومن بعده كليبر- مقر إقامة له بعد سقوط القاهرة فى أيدى الفرنسيين. دخل سليمان الحديقة فأبصره كليبر عن بُعد، فأشار إليه بالرجوع وقال له «مافيش مافيش»، ويبدو أنه ظن أن سليمان طالب صدقة، لكن الأخير أفلح فى إيهامه أن له حاجة لن يستطيع غير كليبر أن يقضيها له، فسمح له الجنرال بالاقتراب. ما إن اقترب منه سليمان حتى مد إليه يده اليسرى، وكأنه يريد السلام على كليبر وتقبيل يده، انخدع الأخير ومد يده، فإذا بسليمان يجذبه بقوة نحوه، ويخرج بيده اليمنى خنجرًا خبّأه فى ملابسه ويعاجله بأربع طعنات نافذة، خرّ كليبر بعدها يعالج سكرات الموت. فى ذلك الوقت كان كبير مهندسى الحملة فى الحديقة مع كليبر فلما سمع صرخاته هرول إليه، وأخذ يصرخ وضرب سليمان عدة ضربات على رأسه، لكن الأخير عاجله بعدة طعنات سقط على إثرها غارقًا فى دمائه. سمع حرس القصر صرخات كبير المهندسين فدقوا الطبول وهرولوا إلى الجنرال، فوجدوه منتهيًا.
تم القبض على سليمان وكل من اتصل به داخل أو خارج الأزهر، وعقد الفرنسيون محاكمة كانت محل استغراب من المصريين، ويقول «الجبرتى» فى وصفه لها: «فيها من الاعتبار والمواعظ وضبط الأحكام من هؤلاء الطائفة الذين يحكّمون العقل». انتهت المحكمة بإدانة سليمان الحلبى وحكمت عليه بحرق يده اليمنى التى طعنت الجنرال، ثم الإعدام بالخازوق مع ترك جثته طُعْمة للطير حتى تبلى، وحكموا بقطع رءوس كل من محمد الغزى وعبدالله الغزى وأحمد الوالى، وأن توضع على نبابيت وأجسادهم تحرق بالنار، على أن يتم تنفيذ هذا الحكم فيهم أمام سليمان الحلبى وقبل تنفيذ حكم الإعدام فيه. وفى يوم جنازة الجنرال كليبر تم تنفيذ الحكم أمام نعشه، فأعدم سليمان الحلبى والثلاثة الآخرون فوق «تل العقارب».
الطريقة التى فكر وأدى بها سليمان الحلبى، تدفع بالمحلل إلى دائرة حيرة محققة، بين الصورة النمطية الموروثة التى ترى فى سليمان الحلبى بطلًا شعبيًا أوغر صدره ما أصاب المصريين من ظلم وقهر وقتل على أيدى جنود الحملة، فسارع إلى الانتقام من كبير الفرنسيين وقتل سارى عسكر الحملة، وما تدل عليه التفاصيل التى حكيناها آنفًا من أننا بصدد قاتل محترف، دخل فى صفقة مع اثنين من أغوات الجيش العثمانى أحمد أغا وياسين أغا، من أجل قتل كليبر، نظير رفع الغرائم والضرائب عن أبيه الذى يعمل بائع سمن بمدينة حلب. والأغوات الاثنان كان يحركهما من وراء ستار الوزير الأعظم التركى يوسف باشا الذى كان يحرض ويقود العثمانلية والمماليك والمصريين من أجل طرد الحملة من مصر، وكذا المواقع التى استولت عليها بالشام. كما أن الطريقة التى أدى بها سليمان الحلبى، تشير إلى أنه نال تدريبًا كافيًا على عملية الاغتيال، وتعلم أن نجاح العملية يرتبط بجمع معلومات استخباراتية دقيقة عن تحركات الهدف، وقد فعل ذلك فعلًا، كما أن عملية التمويه التى قام بها عندما أصبح وجهًا لوجه مع كليبر، والطريقة التى نفذ بها عملية الطعن، تدلل من جديد على أننا أمام قاتل أجير تم تدريبه بصورة كافية على المهمة التى أوكلت إليه، وإذا صح ما نقلته التحقيقات من أن المجاورين الذين اتصل بهم داخل الأزهر قد استخفوا به، فيمكننا القول بأنهم أساءوا التقدير، كذلك فإن الثقة التى قابل بها سليمان الحلبى استخفافهم، تدل من جديد على أننا أمام شخصية محترفة تعرف ما تريد، وتفهم كيف تنفذه.
كان «كليبر» يخطط قبل اغتياله للخروج من مصر، فبعد انكسار الحملة على الشام أمام أسوار عكا، وما أصاب جنودها وضباطها من يأس، وما فقدوه من أرواح فى مواجهاتهم المتتالية بمصر والشام، بالإضافة إلى سفر نابليون سرًا إلى فرنسا، كان من المنطقى أن يفكر وريث نابليون فى الخروج من مصر، وقد دخل بالفعل فى مفاوضات مع الباب العالى برعاية روسية لتحقيق هذا الهدف. ويحكى «الجبرتى» أن المصريين طمعوا كثيرًا فى الفرنسيين عندما وصلتهم هذه الأخبار، وتجرأوا عليهم، وأرادوا القضاء عليهم قضاء مبرمًا، واشترك معهم فى هذه الرغبة بالطبع العثمانلية والمماليك، وحدثت مواجهة ضخمة بين هذه الأطراف الثلاثة والفرنسيين، واشتدت أكثر خلال ثورة القاهرة الثانية التى كان مركزها بولاق، لكن الفرنسيين أفلحوا فى إخمادها، وأزهقوا أرواحًا كثيرة فى سبيل ذلك. ولم يتخل كليبر بعد هذه الأحداث عن رغبته فى الخروج من مصر، لكن سليمان الحلبى لم يمهله، حين اغتاله بإيعاز من أحمد أغا وياسين أغا اللذين كان يحركهما الباب العالى والوزير الأعظم يوسف باشا، بعد أن تمكن كليبر من طرد قواته من مصر، كما يحكى «مواريه» فى كتابه «مذكرات ضابط فى الحملة الفرنسية». ويرى الضابط «مواريه» أن يوسف باشا وزير الباب العالى، هو المحرض الأول على قتل كليبر، ويقول: «وفى سوريا وقع اختيار قادة الجيش المنهزم- يقصد جيش يوسف باشا- على رجل أعماه تعصبه ليغتال القائد الفرنسى، وسرعان ما عبر الصحراء واقتفى خطوات ضحيته طيلة شهر كامل حتى سنحت له الفرصة المشئومة ونفذ الجريمة».
الشىء الغريب فى هذه الواقعة أن شائعة سرت بين جنود وضباط الحملة، وكذلك على استحياء بين المصريين، تقول إن كليبر لم يقتل وإنه فر إلى فرنسا، كما فعل سلفه نابليون. يقول الضابط «مواريه»: «من يصدق أنه على الرغم من هذه الدلائل القاطعة على موت كليبر، كان ثمة أصحاب تفكير غريب أو مغرض يروجون أن مراسم دفن كليبر كانت مجرد خدعة، وأن الجنرال رحل إلى فرنسا، كما خطط فى السابق وأن تابوته الفارغ ما حمل فى هذا الموكب الجنائزى إلا لتغطية فراره، ولكن شهود العيان الذين شهدوا مصرعه، والجزاء الذى لقيه قاتله وأعوانه سرعان ما بدد هذه الأفكار العبثية». تم دفن كليبر فى مصر، وظل جثمانه ثاويًا بترابها بعد خروج الحملة حتى العام ١٨١٤، حين أصدر الملك قراره بنقل رفات كليبر إلى مارسيليا. وفى عام ١٨١٨ تم نقل رفاته إلى مسقط رأسه بستراسبورج. أما سليمان الحلبى فقد ظل على الخازوق حتى فاضت روحه، وأبى الفرنسيون إلا أن يدفنوه فى حواصل الطير.