رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

يوميات المقطر

المصور-الامريكي-كايل-طومسون
المصور-الامريكي-كايل-طومسون

فى عز بحث واستعادة مادة كتاب لى عن ليبيا جاء خبر أبوعبدالله، رفيق العمل والنضال فى ليبيا، عرفته صدفة من سعيد جرجارش فى البلد، قال وجدوه مخنوقًا مكتفًا بمزرعته بأم الأرانب جنوب سبها، والحقيقة أننى خُفت وضهرى نمّل وغطانى العرق لدرجة أن الرجل استغرب، ومر علىّ شريط مرعب من الليالى التى كان يمكن أن نُقتل فيها معًا بنفس الطريقة وفى نفس المكان، مزرعة أم الأرانب هذه هى نفسها المزرعة التى كنّا نصنّع فيها «المقطر»، ونهربه إلى سبها ونبيعه باللتر فى مصنع البلوك.. ونبيعه؟!
لا يبيعه إلا أبوعبدالله فقط، أنا للأسف لم أبع شيئًا، كنت أقوم بالمخاطرة كلها، أصنّع المقطر وأهرّبه وأكيّسه وأسلّمه للزباين ولكنى رفضت بيعه بعقيدة صلبة لا تلين.
الخمور ممنوعة فى ليبيا، محرمة أكثر من المخدرات، عقوبتها تأبيدة وممكن إعدام، ولكن السلطات هناك تغض الطرف عن «المقطر»، لا تحلله وإنما تصهين عليه ولا تتحرك ضد المشتغلين به إلا لو وردت ضدهم شكوى من أحد المواطنين، والحقيقة أن هذا كان دأبها مع الخارجين على القانون جميعًا، أما إذا كان الخارج «قذافى» فلا تنفع شكوى ولا يحزنون.
والمقطر مشروب شعبى محلى يعتبر المنتج الوحيد الذى كانت تنتجه الجماهيرية العظمى مائة فى المائة، ويصنع من السكر والخميرة البيرة وله تأثير فظيع، شوال سكر خمسين كيلو، وخمسة كيلو خميرة بيرة على برميل ماء يعطيك ما بين ستين وسبعين لتر أو لترة كما يسميها الليبيون، واللترة الواحدة تطيح بالفيل، وأبوعبدالله كان يعتبر من أساطين بيعه فى سبها كلها، ونظرًا لأننى كنت شريكه فى المصنع وألازمه طوال الوقت كنت أساعده، ونظرًا لأنه كان كهلًا فى الستين من عمره وكنت شابًا عفيًا فى العشرين كنت أقوم بالعملية كلها.
فى البداية كنت أستلم الطلبية جاهزة ومعبأة فى الجراكن كل خميس من أنور الرمحى فى حى الطيورى شمال سبها، وكانت فى العادة ثلاثة جراكن من سعة العشرين لترًا، وأنور أصلًا رُمحى من الفيوم وأصلع وسمين وحذر وخواف جدًا، وحاصل على بطاقة الصاد شين فى السبعينيات ومجند فى الجيش الليبى، وفى كل مرة كان يخترع طريقة للتسليم تنجيه تمامًا وتضيعنى لو طلبت الشرطة، مرة يركنهم لى فى الشارع ويقف بعيدًا شامخًا بوجهه وكأنه لا يعرفنى، ومرة يرصهم أمام شقته ويقفل الباب عادى وكأنه شخص آخر بل كاره ومتبرئ من العملية كلها، وفى النهاية استراح لطريقة التسليم عبر الشباك، وكان يطرطرهم لى واحدًا واحدًا من شباك شقته فى الدور الرابع، ولا يأبه بذهول الناظرين من الجيران والمارة، وكنت أتلقفهم وأنا ميت فى جلدى ليس من الشرطة فقط وإنما من الناس الذين كانوا يلتفون بمنتهى الدهشة والاستغراب والنطاعة أيضًا.
وكم استرحت جدًا لمّا أبوعبدالله مل من خوف أنور وعدم انتظامه فى تسليم الطلبية فى الوقت المحدد، وقرر التصنيع بنفسه فى مزرعة أم الأرانب، وهى لم تكن بعيدة عليه، صاحبها الرسمى جرجارش والفعلى خويطر كانا من زبائنه ومموليه حشيشًا ومقطرًا ونسوانًا لو أحب، وعادة يحب ويشغّل حتى الصباح، وكل ليلة يشربون وأحيانا.. (لا بلاش دى) عنده فى براكة المصنع، وآخر الليل يهجموا بالسلاح على مزرعة من المزارع الشغالة فى المقطر ويخطفوا جركنين تلاتة يسددوا بهم ما شربوه عند أبوعبدالله.
وأبوعبدالله بدأ مسيرته مع المطر بالتقطير ولم يشتغل بالبيع ألا بعد أن تشاركنا فى مصنع البلوك، وكان يمر علىّ كل أربعاء بسيارة بيجو قيطون أزرق داكن (ربع نقل) وبها أجولة السكر والخميرة بيرة وأكل وشرب يكفى يومين، وننزل على مزرعة أم الأرانب.
وهى عبارة عن خمسة وعشرين فدانًا محاطة بسور وبها غرفتان وحمام على الأسمنت، واحدة للنوم والثانية لتصنيع المقطر، وبمجرد وصولنا كنا نأكل لقمة ونبدأ العمل بجدية وهمة وهمهمة تصنيع الخمر فى بلد يحرمه، ننظف البرميل جيدًا حتى يبرق، وننصبه على موقد كبير وننصصه بالماء، ونفرغ فيه شوال سكر خمسين كيلو وبمقدار عشرة جنيه خميرة بيرة، ويقلب المحلول بمغرفة عبارة عن كوريك صغير، ويزود بالماء، ولمّا يذوب السكر والخميرة ويبدأ المحلول فى الغليان يبرشم البرميل بغطاء بلاستيكى طالع منه ماسورة تمر تحت حنفية تقطر البخار المكثف فى الجركن قطرة قطرة.
تقطير البرميل الكبير، الذى يعطى من ثلاثة إلى أربعة جراكن، على نار هادئة جدا، ممكن أن يستغرق يومًا، وبمجرد انتهاء العملية تنقل الجراكن بسرعة إلى العربية ونطير على سبها.. لا لا نطير بل نزحف زحفًا.
أنا أقود السيارة وأبوعبدالله جانبى بالشنة الحمراء كأى ليبيى على سبيل التمويه والجراكن عريانة تتلقلق فى صندوق السيارة باعتبارها جراكن ماء مع أن المقطر أبيض، وكمان اتضح أن هذه الطريقة الوحيدة للمهربين الليبيين، لأنهم فى الحقيقة لم يكونوا مهربين مهربين، هم عرب نهابين، «والأنيل أن الشنة الحمرا اللى بزر أسود مشرشب، الشنة اللى كان بيلبسها عمى العمدة لما يخطب خطبة العيد، مبيلبسهاش الليبيين من زمان وإنما العرب المصريين بس، وخصوصًا اللى شغالين ف الحجات دى»، لكننا كنا نمر سالمين على ثلاثة كمائن شرطة مدججين بالسلاح حتى نصل إلى مصنع البلوك ونخفوهم بسرعة فى الحمام، وأقعد أنا وأبوعبدالله فى البراكة فى انتظار الزبائن.
والحقيقة أن منظر البراكة نفسه كان يناسب صومعة أو بار، حجرة وحيدة على قمة ربوة صغيرة حمراء، وسرعان ما تحولت أو حولها أبوعبدالله للتمويه إلى كعبة كل العرب، العرب المصريين الفقراء القادمين من مركز أطسا الفيوم للعمل فى ليبيا، «يوميا على الله يوم فيه ناس جايين وناس رايحين وناس بايتين متنشرين جوة البراكة وحواليها من كل ناحية».
وفى النهار البراكة براكة، براكة مصنع البلوك، وأنا واللى شغالين معايا فى البلوك عايشين بينها وبين البلوك المتنشر قدامها، وان جاء زبون للبلك، إن جاء، نتفق فيها، وفى الليل نشاط أبوعبدالله، وأبوعبدالله كان شخصية جبارة، أمى ومن بنى سويف لكن شخصية جبارة، ضرب تلتاش جواز لولاده وقرايبه فى مصر على اعتبار أنهم ليبيين عائدين صاد شين زيه وقبض لهم جميعًا المنحة السنوية التى كان يخصصها العقيد القذافى لليبيين، وظل يقبضها ويرسلها إلى مصر.
وأبوعبدالله كان أسمر وأصلع وبشنب تقيل تحس إنه بيتدلدل لما يتكلم، وصاد شين رمحى من بنى سويف، ونشاطه يبدأ بتوزيع من العصر حتى بعد المغرب، اللتر يعبأ فى الكيس من الجركن فى الحمام ويتسلم للزباين المارين فى البراكة، وكان أغلبهم شباب ليبى «سارقله حاجة عشان لزوم لترة المقطر، وفى الليل غرزة، اللى حشيش حشيش والخمرة خمرة واللى لتنين اتنين، ومعاهم أنا مبشربش لسبب يخص العقيدة وأبوعبدالله مبيشربش لأمور تخص الشغل، وكان أحيانًا يضطر يمرر غانيات على الورش ويستناهم لما يخلصوا ويقبض، وأحيانا يرجع بواحدة ع البراكة، وفى هذه الحالة كان شنبه يتدلدل فعلًا، وينام، مثل القتيل، يومين.
مقطع من رواية: «قيام وانهيار الصاد شين» الصادرة حديثًا عن دار ميريت