رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

قصة القائمقام مصطفى حافظ الذى اغتاله موشيه ديان ورثاه عبدالناصر

جريدة الدستور

قبل أيام، وفى سرادق عزاء السيدة «درية يوسف خلف الله»، دخل سفير فلسطين بالقاهرة ومعه وفد من السفارة وشدّ على أيدى أهل الفقيدة وأبلغهم عزاء الرئيس محمود عباس الموجود فى الفاتيكان، وأنه فور عودته إلى رام الله سيرسل برقية عزاء باسمه وباسم الرئاسة الفلسطينية.
فمَنْ هى السيدة درية التى توفيت فى القاهرة فاهتزت لها السلطة الفلسطينية؟، الإجابة المباشرة هى أنها زوجة ورفيقة رحلة الرجل الذى أسس المقاومة الفلسطينية المسلحة، وتجتمع كل الفصائل الفلسطينية على محبته وتقديره، وتراه «الأب الروحى» الذى أنشأ للفلسطينيين أول قوة مسلحة وقفت فى وجه العربدة الإسرائيلية فى الأراضى المحتلة، ورأس مكتب المخابرات العسكرية المصرية فى قطاع غزة، وكبّد الصهاينة خسائر فادحة، وكان يشرف ويخطط لكل عمليات المقاومة الفلسطينية، واعتبرته إسرائيل عدوها الأول ورصدت مبالغ وجوائز مغرية لمن يغتاله أو يأتى به أو يرشد عنه، حتى اغتالوه فى عملية «شيطانية» خطط لها موشيه ديان وزير الدفاع الإسرائيلى الشهير، فأطلق الفلسطينيون اسمه على أهم شوارع ومدارس غزة، ورثاه الرئيس عبدالناصر فى بداية خطابه الشهير الذى أعلن فيه تأميم قناة السويس.
اسم الشهيد القائمقام مصطفى حافظ كفيل بأن يجمع كل الفرقاء الفلسطينيين، فقد قضى سنوات ستًا فى غزة، حقق فيها بطولات تقترب من الأساطير، وكانت معه تلك السيدة التى شهدت وشاهدت كل شىء وحملت جثمانه إلى مثواه الأخير، ثم عادت لتنفذ وصيته حتى آخر يوم فى حياتها.. وشاءت أقدار الله أن يمتد بها العمر لترحل بعده بـ٦٢ سنة كاملة.
والحق أن رحيل رفيقة الكفاح فرصة لنستعيد أسطورة مصطفى حافظ من خلال ما تركته زوجته وأم أولاده من صور وخطابات وذكريات.

أسس كتائب المقاومة الفلسطينية.. وقتلته إسرائيل بـ«رسالة مفخخة» بعد محاولات عديدة للتخلص منه
مصطفى حافظ المولود فى ٢٥ ديسمبر ١٩٢٠، تخرج فى الكلية الحربية، وكان من زملاء دفعته خالد محيى الدين وأحمد مظهر، وكان جمال عبدالناصر يسبقهم بدفعتين ويكبرهم بعامين، تخرج عام ١٩٤٠ وخدم فى «القصير ومطروح» قبل أن يلتحق بالمخابرات الحربية التى كلفته بالسفر عام ١٩٥٠ إلى غزة ليدير مكتب الجهاز فى القطاع- الذى كان يخضع وقتها للسيادة المصرية- ويؤسس أولى كتائب المقاومة الفلسطينية.
ومع ثورة يوليو ١٩٥٢ ودخول الصراع العربى- الإسرائيلى مرحلة جديدة، وجد زعيم الثورة أن إسرائيل هى رأس حربة الاستعمار الغربى، فقرر المواجهة وكلف القائمقام مصطفى حافظ بأن يؤسس مقاومة مسلحة من الشباب الفلسطينى فى قطاع غزة ويتولى تدريبهم وتنظيمهم.. وعندما بدأ مصطفى حافظ مهمته لم يكن للفلسطينيين درع ولا سيف يردون به على الاعتداءات الإسرائيلية المتواصلة، وطاف مصطفى حافظ مدن القطاع واختار بنفسه وعلى عينه النواة الأولى للمقاومة الفلسطينية، وبدأت العمليات الفدائية، وبدأت إسرائيل تحس بالوجع والفزع، وبدأ اسم مصطفى حافظ يتردد بقوة فى القطاع، وأدركت إسرائيل أن هذا الضابط المصرى لا بد أن يذهب وبأى ثمن.
كان مصطفى حافظ يقيم فى بيت بالقطاع خصصته له المخابرات الحربية، وجاء بزوجته وأولاده ليقيموا معه، وحاولت إسرائيل اغتياله مرات لكنها فشلت، فقد كانت لديه قدرة استثنائية على التخفى والاحتياط والمراوغة.
أصبح مصطفى حافظ صداعًا فى رأس إسرائيل، ولما فشلوا فى استهدافه مباشرة وضع موشيه ديان خطة شيطانية لاصطياده من خلال واحد من مساعديه من الشبان الفلسطينيين اسمه محمد البدوى، وكان لهذا الشاب عم يقوم بدور العميل المزدوج، وأعطى ديان رسالة لهذا العم طالبًا توصيلها إلى لطفى العكاوى، مدير الشرطة الفلسطينية فى غزة، عن طريق ابن شقيقه، وكان ديان على يقين أن الشاب سيمر بها أولًا على مصطفى حافظ، وكان هذا ما حدث بالفعل. أثارت الرسالة فضول مصطفى حافظ، فقد كان العكاوى من أقرب أصدقائه ولم يتصور أبدًا أن يكون متعاونًا مع قوات الاحتلال، وطلب من محمد البدوى أن يأتيه بالرسالة فورًا إلى مكتبه.. وبمجرد أن فتحها مصطفى حافظ انفجرت فى وجهه، فقد كانت رسالة مفخخة.
أسلم مصطفى حافظ الروح بعد وصوله القاهرة بساعات، فأرسل عبدالناصر طائرة حربية أخرى لنقل زوجة وأبناء الشهيد.
وذهب عبدالناصر بنفسه ليعزى السيدة درية فى بيتها، وكان حزينًا ومنفعلًا وظلت تذكر قسمه لها وهو يرفع إصبعه: والله والله.. قعدت صاحى طول الليل ما غفلت لحظة بعد ما بلغونى بخبر مصطفى.
استشهد مصطفى حافظ فى ١١ يوليو ١٩٥٦، وبعدها بأيام نعاه عبدالناصر فى خطابه الشهير الذى أعلن فيه تأميم القنال «٢٦ يوليو»، وقال بالنص: «فى الأيام الماضية استشهد واحد من أعز الناس علينا، بل من أخلص الناس لينا، استشهد مصطفى حافظ وهو يؤدى واجبه من أجلكم ومن أجل العروبة والقومية العربية، مصطفى حافظ اللى آلى على نفسه أن يدرب جيش فلسطين وأن يبعث جيش فلسطين وأن يبعث اسم فلسطين، فهل تاه عن عيون الاستعمار، هل تاهت عنه إسرائيل صنيعة الاستعمار؟.. أبدًا.. إنهم كانوا يجدون فى مصطفى حافظ تهديدًا مباشرًا لهم.. فاغتالوه».

ابنته الكبرى متزوجة من شريف الشوباشى ونجله الوحيد كان سفيرًا لمصر فى كرواتيا وغينيا
أنجبت السيدة درية من زوجها الشهيد خمسة: ولدًا وأربع بنات، هم بترتيب العمر: «سهير» وكان عمرها ٩ سنوات عند استشهاد والدها، وعملت بقطاع الأخبار بالإذاعة وهى زوجة الكاتب الكبير شريف الشوباشى.. و«هدى» وكانت طبيبة تحاليل وماتت وعمرها ٣٤ سنة بالمرض الخبيث وكانت متزوجة من الجراح المعروف د. مصطفى أبوالنصر، و«محمد» وكان سفيرًا لمصر فى كرواتيا وغينيا، و«ناهد» المهاجرة مع زوجها إلى أمريكا منذ أربعين سنة.. وأخيرًا «مى» أصغر الأبناء التى تزوجت وأنجبت ٣ بنات وأجرت عملية قلب مفتوح قبل شهرين. وظل مصطفى حافظ هو رجل حياتها ومحورها حتى بعد رحيله وحتى بعد أن جاوزت التسعين من العمر، لا تمل من الحديث عنه وعن استعادة ذكرياتها معه، وظلت ذاكرتها محتفظة بكل التفاصيل إلى يومها الأخير.. كانت تحكى عن الرجل الذى لم يعرف النوم طيلة السنوات الست التى عاشتها معه فى غزة، وعندما يفرد ظهره على سريره وتهم بوضع الغطاء عليه يقفز مفزوعًا خشية أن يستغرق فى النوم. كانت تحكى عن أيام الرعب وهى تسمع الإذاعة الإسرائيلية تهدد بنسف بيتها وقتل أطفالها.. وهى تشاهد الطائرات الإسرائيلية تحوم فوق بيتها ورأسها على مسافات منخفضة.. وهى تضع يدها على قلبها كلما خرج زوجها إلى عملياته الفدائية اليومية فى قلب إسرائيل.
كانت تحكى عن الليلة الأخيرة عندما أخبرها بأنه سيعود إلى مكتبه لأمر عاجل، وكان قلبها مقبوضًا ورجته أن يؤجله إلى الصباح، وعند خروجه بكت ابنته سهير وطلبت أن تذهب معه لكنه اصطحب ابنه «محمد» الذى أنقذته المقادير من موت محقق، ففى مكتبه عندما وصل محمد البدوى ليعطيه الرسالة أثار محمد الصغير ضجة جعلت الأب يطلب من مساعديه أن يحملوه للسيارة ويشغلوه بتعليمه القيادة، وبعد لحظات انفجرت الرسالة «المفخخة».. وأفاق مصطفى حافظ للحظات ليقول لمن حوله: محمد البدوى برىء.. ولولا ذلك لكانت كل أصابع الاتهام أشارت إليه.
كانت تحكى عندما سارت وراء نعشه الملفوف بعلم مصر لتطبع عليه قبلتها الأخيرة، ثم وجدت نفسها تخر ساجدة على الأرض لتناجى ربها ودموعها تبلل وجهها وتتساقط على الأرض: «يا رب أنا وأولادى بين إيديك مالناش غيرك ولا حول ولا قوة لنا إلا بك».
لكن وجهها كان يكتمل نوره وابتسامتها تملأ وجهها عندما تستعيد قصة حبهما، وتتذكر ابن الجيران الوسيم الذى كان يشاغلها وهى صبية ويرسل لها خطاباته الغرامية، وكان ينافسه على قلبها غريم آخر تقدم لخطبتها، لكنها اختارت مصطفى وتزوجته.
وظلت تحتفظ بخطاباته لها وتحافظ عليها وكأنها قطع من المجوهرات، وبينها ذلك الخطاب الذى كتبه لها بعد زواجهما وسفره فى مهمة إلى القدس، وكان ذلك فى صيف عام ١٩٤٤ قبل قيام الكيان الصهيونى وبعد زواجهما بقليل، وإليها كتب فى ٣١٦ ١٩٤٤ بخطه الجميل وبعباراته الأدبية: «عزيزتى درية.. تحياتى وأشواقى القلبية الزائدة.. أرجو أن تكونى والعائلة الكريمة متمتعين بالسعادة والهناء.. وبعد، هذا هو الخطاب الثانى الذى أرسله إليك وسأسافر يوم السبت إلى حيفا وتل أبيب، وسأمضى ليلتى هناك وبعدها سأسافر إلى القدس لمشاهدة هذه البلد المقدسة التى كنت أسمع عنها فى التاريخ فإنها لجميلة حقًا، وكنت أود أن تكونى معى ليكتمل سرورى ويتم هنائى، وإن شاء الله سنرجع إلى مصر يوم الثلاثاء أو الأربعاء على الأكثر، وأرجو أن تكونى متمتعة بالصحة والعافية وأنا أدعو لك دائمًا بطول البقاء.. وأخيرًا يا زوجتى المحبوبة تمنياتى الطيبة وقبلاتى..».

اسمه موجود على أهم شارع وأكبر مدرسة فى غزة.. وكتب عنه الشاعر هارون هاشم قصيدة «مصطفى مر من هنا»
فى بيت الراحلة السيدة درية بالمعادى جمعتنى جلسة طويلة مع أستاذنا شريف الشوباشى زوج ابنتها الكبرى سهير ونجلهما عمرو وبحضور قريبه العميد علاء الشوباشى، وحكى لى شريف الشوباشى أنه تعرف لأول مرة على القصة الكاملة لحماه مصطفى حافظ من خلال كتاب فرنسى مهم عنوانه «التاريخ السرى لإسرائيل» خصص فصلًا كاملًا عن الضابط المصرى الذى أثار الذعر فى إسرائيل، وكيف احتفل ديان وجولدا مائير بشرب نخب الانتصار بعد اغتيال مصطفى حافظ.
وحكى أن الابن الوحيد لمصطفى حافظ السفير محمد حافظ بدأ حياته الدبلوماسية فى القنصلية المصرية فى غزة، وأثناء عمله تعرض لجلطة مفاجئة فى الدماغ استدعت نقله إلى مستشفى «هداسا».
ويكمل الشوباشى: اتصلت بسفيرنا وقتها فى إسرائيل محمد بسيونى أتابع معه حالة محمد، فأخبرنى: لا أكذب عليك، الحالة خطرة ونسبة نجاته لا تزيد على ٥٪ فقط، وكان لا بد أن تسافر له والدته طنط درية، وتصادف أن كان جواز سفرها فى قنصلية فرنسا بالقاهرة وكانت تقدمت للحصول على فيزا لزيارتنا فى باريس، ولأنها كان لا بد أن تسافر فى اليوم التالى إلى ابنها فى القدس فإن وزارة الخارجية قامت بمهمة شبه مستحيلة وفتحت القنصلية الفرنسية بالليل لتأخذ جواز السفر وتحصل فى الليلة نفسها على تأشيرة من السفارة الإسرائيلية لدخولها.. وسافرت حماتى الله يرحمها وتحققت المعجزة الأكبر ونجا ابنها من تلك الأزمة وكتب الله له الشفاء.. ولما عرف الرئيس الفلسطينى ياسر عرفات بوجود نجل الشهيد مصطفى حافظ بالمستشفى أصر على أن يتحمل كل تكاليف علاجه مهما كانت الفاتورة، والحقيقة أنها كانت باهظة بعد أن قضى محمد بالمستشفى أكثر من ٦ شهور.. واتصل وزير خارجيتنا حينها عمرو موسى بالزعيم الفلسطينى يخبره بأن الوزارة ستتحمل الفاتورة، هذا واجبها تجاه أحد أبنائها وموظفيها، لكن أبوعمار صمم، ولما قابلته بعدها فى مؤتمر دافوس ذهبت إليه لأقدم شكرى باسمى وباسم العائلة فقال لى ياسر عرفات عبارة لا أنساها: «أنت لا تعلم ما صنعه مصطفى حافظ لنا.. أنت لا تعلم».. وحدث مرة أن قابلت القيادى الفلسطينى خالد الحسن ولما عرف أن حمايا هو مصطفى حافظ هتف بحماس: ده أبونا.. ونسيت أقول لك إنه بعد استشهاده أطلقوا اسمه على أهم شارع وأكبر مدرسة فى قطاع غزة ورثاه الشاعر الفلسطينى الكبير هارون هاشم رشيد بقصيدة طويلة عنوانها «مصطفى مر من هنا» يقول فيها:
من فؤادى من عروقى من دمى.. جئت أرثيك كثير الألم
جئت أرثيك ولما يكتمل.. فى ربيع العمر حلو البرعم
جئت أرثيك وشعبى كله.. هنا محتشد فى مأتم
حكاية أخرى يحكيها الشوباشى: «لما تخرجت زوجتى سهير فى الجامعة لم تجد عملًا مناسبًا رغم حصولها على الماجستير فى أمريكا، فاتصلت والدتها بوزير الدفاع يومها الفريق محمد أحمد صادق، الذى حدد فورًا موعدًا لسهير، وفى مكتبه قال لها بحماس: فى رقبتى دين لوالدك لن أوفيه مهما عملت.. وحكى لها أن شقيقه الضابط الشاب كان زميلًا وصديقًا لمصطفى حافظ وخدم معه فى فلسطين، وحصل مرة أن القوات الإسرائيلية ضربت موقعهما واستشهد شقيقه داخل الموقع وتقدمت القوات الإسرائيلية لاحتلاله، وكان لا بد من سحب جثمان الشهيد من الموقع، وكان الأمر يبدو مستحيلًا وسط القصف الإسرائيلى العنيف، هنا تقدم مصطفى حافظ بشجاعة نادرة واتجه إلى الموقع وحمل جثمان الشهيد على ظهره وزحف به لمسافة طويلة وسط القذائف والرصاص حتى عاد به معرضًا حياته لموت محقق.. ثم سأل سهير: عايزه تشتغلى فين؟.. أى طلب تطلبيه أنا تحت أمرك.. فطلبت أن تعمل بالإذاعة فاتصل فورًا بوزير الإعلام وقتها عبدالقادر حاتم الذى كان يعرف جيدًا قصة الشهيد مصطفى حافظ وعيّن ابنته فورًا محررة أخبار فى الإذاعة».
مصطفى حافظ أسطورة من أساطير العسكرية المصرية.. كان رحيل رفيقة عمره فرصة لنستعيدها، ونحكى لأجيال لا تعرفها قصة الشهيد العاشق.