رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الأمن والسياسة.. 18 و19 يناير 77


نقلّب معًا صفحات من مذكرات اللواء حسن أبوباشا وزير الداخلية، مدير مباحث أمن الدولة أثناء ١٨ و١٩ يناير ١٩٧٧.. هذه المظاهرات التى خرجت فى أعقاب رفع الأسعار، آنذاك، لكنها فى الحقيقة كانت من أخطر الحركات السياسية منذ أحداث مارس ١٩٥٤.
يمتلك حسن أبوباشا من الشجاعة والمصداقية أن يعلق على هذه الأحداث، مخالفًا رأى القيادة السياسية، متمثلة فى السادات، الذى وصف الأحداث بأنها ليست انتفاضة شعبية بل انتفاضة حرامية، يقول أبوباشا: «يُخطئ من يتصور تلك الأحداث بأنها كانت مجرد انتفاضة حرامية كما كان يحلو للرئيس السادات أن يسميها، أو أنها كانت مجرد حدث عارض وقع فجأة وانتهى كما بدأ.. وإذا فعلنا ذلك فكأنما نضع رءوسنا فى الرمال، ونطرح وراء ظهورنا أهمية استخلاص الدروس المستفادة من التفاعلات الاجتماعية والسياسية التى تفجِّر مثل هذه القضايا المهمة، والتى قد تفاجئنا فى لحظات حرجة باحتمالات قد يصعب حصارها ووضع حسابات لنتائجها».
يذكر أبوباشا العديد من العوامل التى دفعت إلى تصاعد الأحداث إلى هذا الحد، ويشير إلى الصدام المبكر بين السادات وقوى اليسار، بداية مما أطلق عليه مراكز القوى، وصولًا إلى التنظيمات اليسارية، لا سيما فى أوساط الحركة الطلابية.. ويأخذ أبوباشا على السادات أنه- ومن خلال أمانة الاتحاد الاشتراكى- شجع على ظهور الجماعات الإسلامية فى أوساط الطلاب فى الجامعات، رغم تحفظ الأمن على ذلك، مما زاد من سخط اليسار على السادات.
ويشير أبوباشا أيضًا، إلى نقطة مهمة أسهمت فى تأزم الأوضاع السياسية والاجتماعية، وهى تعثُّر بل وتخبُّط سياسات الانفتاح الاقتصادى التى أعلنها السادات بعد حرب أكتوبر، يقول أبوباشا: «كانت الآمال الجماهيرية قد تعلقت فعلًا بعد انتصار حرب أكتوبر، والتى أُعلِن أنها آخر الحروب، على تحقيق ثمار سريعة لمرحلة السلام على المستويين الاجتماعى والاقتصادى، وبالغت وسائل الإعلام والمؤسسات التنفيذية فى حجم جرعات الآمال والتفاؤل التى غذَّت بها الجماهير.. حتى تولد إحساس عام بأن باب الرخاء قد فُتِح على مصراعيه للجميع!!».. ويوضح أبوباشا أن الأمن قد رفع تقارير عديدة حول خطورة الإسراف فى الوعود، وحالة المبالغة فى عوائد الانفتاح الاقتصادى، ولكن القيادة السياسية لم تهتم.. وضاعف الأمر ظهور ظاهرة أغنياء ما بعد الحرب، وأنه انتشرت، آنذاك، مقولة «إن كل من لم يثر فى هذه الفترة لن يصيبه الثراء بعد ذلك».
ويذكر أبوباشا أن الأمن قد رفع تقريرًا للقيادة السياسية يوضح أثر التضخم والأزمة الاقتصادية، وخطورة اتخاذ الحكومة قرارًا برفع الأسعار الآن، لا سيما مع استعداد التيار الماركسى لانتهاز الفرصة لإثارة الجماهير.. ورأى التقرير أنه إذا كان لا بد من رفع الأسعار، فهناك ضرورة ملحة لضربة استباقية للتنظيمات الماركسية السرية. لكن القيادة السياسية رفضت فكرة الضربة الاستباقية خوفًا من ردود الفعل الخارجية، وتأثيرها على صورة النظام، وعلى سياسة الانفتاح الاقتصادى.. ويذكر أبوباشا أنه ووزير الخارجية فوجئا بقرارات رفع الأسعار تُنشَر على الصفحة الأولى فى الجرائد الحكومية، وبطريقة استفزازية، وهنا أدرك هو والوزير خطورة الموقف. ومع خروج مظاهرة عمال حلوان، ثم مظاهرة هندسة عين شمس، أدرك الأمن أن كرة الثلج ستتدحرج، حيث سرعان ما عمَّت المظاهرات عدة محافظات فى شمال مصر وجنوبها، حتى فى أسوان، التى كان السادات يستريح فيها فى أيام الشتاء الباردة.
ومع تسلل العناصر المُهمَّشة «البروليتاريا الرثة» إلى المظاهرات، حدثت أعمال النهب والتخريب، وكادت القاهرة أن تحترق من جديد.. ووصلت الأمور إلى ذروتها، كما يقول اللواء حسن أبوباشا، عند ظهر يوم ١٩ يناير، عندما اتصل مدير أمن القاهرة بوزير الداخلية ليبلغه: «إن القاهرة تحترق، وإنه يعتبر هذا الاتصال بمثابة آخر استغاثة منه».. وهنا كان القرار الحاسم مثلما حدث يومى ٢٦ يناير ١٩٥٢، و٢٨ يناير ٢٠١١: ضرورة نزول الجيش وإعلان حالة الطوارئ.