رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سعيد ناشيد: ما نحتاجه الآن «القيم الروحية» الموجودة فى القرآن.. والشريعة «كلام فقهاء» وليست كلام الله أو الرسول

جريدة الدستور

النبى أمر بمحو ما كتب عنه.. وكان ينتظر الوحى إذا سُئل عن أى مسألة ولا يمكن اعتباره مصدرًا للتشريع

من الخطأ التعامل مع أفعال الأمر الواردة فى القرآن باعتبارها أوامر لكل المسلمين فى جميع الأزمنة



رأى الباحث والمفكر المغربى سعيد ناشيد أن القرآن الكريم دعانا للالتزام بـ«سنة الله» لا «سنة الرسول»، معتبرًا أفعال الأمر الواردة فيه انتهت بنهاية المأمورين بها، داعيًا فى الوقت ذاته إلى استنباط قيم الرحمة والحرية من نصوصه.
وقال «ناشيد»، فى حواره مع «الدستور»، إن النبى الكريم أمر صحابته بمحو ما كُتب عنه، وإذا ما سأله أحدهم فى أى مسألة فقهية، كان يطلب الانتظار لحين تلقيه وحيًا من الله بشأنها، كما أنه أخطأ مرارًا، والوحى لامه وعاتبه على ذلك، لذا لا يمكن اعتباره مصدرًا للتشريع، وفق قوله.

■ كيف ترى مسألة تجديد الخطاب الدينى فى الوطن العربى.. هل تكون بقطع الصلة بالتراث نهائيًا أم بتنقيته؟
- الخطاب الدينى هو الخطاب الأكثر تأثيرًا فى شعوبنا العربية، سواء تعلق الأمر بالخطاب السائد فى المساجد والإعلام، أو بمنهاج التعليم الدينى بالمدارس العصرية أو التقليدية.
وأعتقد أن ذلك الخطاب يستند إلى ٣ مستويات، الأول هو الانفعالات، بمعنى أنه ينمى لدى الإنسان المتدين نوعًا من الانفعالات السلبية القائمة على الخوف والغضب والغيرة، وعلى الحزن وعلى الشعور بالذنب، وما إلى ذلك من الانفعالات السلبية والمدمرة التى تمثل نوعًا من القنابل الموقوتة، قد تنفجر بين لحظة وأخرى.
ويتمثل المستوى الثانى من الخطاب الدينى فى مستوى المفاهيم التى يعتمد عليها، وهى مفاهيم تعود إلى زمن العصور الوسطى، زمن التوسعات الإمبراطورية، وتعبر عن روح ذلك الزمن، من قبيل مفاهيم البيعة والولاء، والجماعة، والطاعة، ودار الحرب، ودار الإسلام، والغنيمة والغزو والجهاد، وما إلى ذلك من مفاهيم تعكس عصر التوسعات الإمبراطورية التى تمثل اليوم عائقًا كبيرًا أمام إمكانية بناء الدولة الوطنية.
أما المستوى الثالث فهو مستوى القيم، فالقيم التى يحاول الخطاب الدينى أن ينميها لدى الإنسان المؤمن هى قيم مضادة ومعاكسة، كأن ترتبط النتيجة بالرضا الغيبى أو رضا الوالدين بدلًا من ارتباطها بالجهد المبذول، وهذا خرق كبير لإحدى أهم قيم التنمية، ويهدد المجتمع الآمن من حيث تأجيج الفتن، وأعتقد أن المدخل الأساسى فى تجديد الخطاب الدينى هو إصلاحه وليس تجديده، باعتباره سلطة أساسية عندنا.
■ بماذا ترد على من يرفض دعوتك، بحجة أن هذه المفاهيم والقيم جاء بها القرآن؟
- القرآن فى أصله هو خطاب قبل أن يتحول إلى نص بمرور التاريخ، الخطاب القرآنى كما شرحت فى كتابى «الحداثة والقرآن» يتضمن ٣ مستويات أساسية، المستوى الأول هو الوحى الربانى الذى هو عبارة عن مجموعة «صور وحيية» تلقاها النبى محمد، عبر قلبه فى سياق وجدانى معين، والثانى فى محاولته أن يترجم تلك الصور الروحانية إلى لغة عربية طبيعية، وفق تأويله، ومزاجه وثقافته، ووفق وعيه، ثم إن المستوى الثالث الذى نتوافر عليه الآن هو المصحف الذى مر ضمن صيرورة تاريخية تسمى «مصحفة القرآن» وتحويله ليتخذ شكل نص محدد.
■ كيف يجب أن تكون علاقتنا بالنص؟
- أعتقد أن خطيئة العقل الفقهى، هو أنه تعامل مع أفعال الأمر الواردة فى النص القرآنى باعتبارها أوامر لكل المسلمين والمسلمات، فى كل زمان ومكان، باعتبارها أوامر تعنينا نحن إلى اليوم، والحال أن كل أفعال الأمر الواردة فى النص القرآنى هى أوامر لمأمورين محددين فى الزمان والمكان، لذا قد ينتهى الأمر بعد حين من الزمن، ويصبح الحكم ضمن المنسوخ.
مثلًا أفعال الأمر التى تدعو المسلمين إلى الهجرة، فنحن جميعًا بالحس السليم نعلم أن أفعال الأمر المرتبطة بالهجرة قد انتهى العمل بها مباشرة بعد فتح مكة، ثم إن أفعال الأمر التى وجهت خصيصًا إلى نساء الرسول أو إلى صحابته أو إلى الرسول نفسه، انتهت بنهاية هؤلاء الأشخاص، وأفعال الأمر التى ارتبطت بمعارك وغزوات محددة فى الزمان، انتهت بانتهاء سياقها، ومن ثم فإن أفعال الأمر الواردة فى الخطاب القرآنى مرتبطة بسياق التنزيل، وانتهت بنهاية المأمورين، وهى ليست أفعال أمر مطلقة، بصرف النظر عن الزمان والمكان.
القرآن له وظيفة تعبدية، فنحن نتعبد ونصلى به، والدليل على ذلك أن أكثر من ٧٠٪ من مسلمى العالم لا يعرفون اللغة العربية، ويصلون بالقرآن وهم قد لا يفهمون معناه، فما يمكن استنباطه من الخطاب القرآنى ليس الأحكام، وليس الأوامر؛ لأن القرآن ليس دستورًا، وليس قانونًا، وليس مدونة أوامر، إنما له جانب روحانى.
ومركز الثقل فى القرآن هو ترسيخ مبدأ توحيد الربوبية، لكن يمكن أن نستنبط منه ما هو أهم وأبقى للإنسان، وهو ما يسمى القيم الروحانية، وأعتقد أن هناك ثلاث قيم أساسية يجب الاشتغال عليها، سواء فى المجال التربوى أو فى مجال التعليم الدينى أو مجال السياق التعبدى، وهى الحكمة أولًا، الرحمة ثانيًا، ثم الحرية ثالثًا.
■ وفقًا لمنهجك.. كيف ترى آية «إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون»؟
- لا أنكر أن الذكر محفوظ، فالمصحف المتوافر الآن غير مختلف عليه تقريبًا، وهو محفوظ وهذا مؤكد بصرف النظر هل تدخلت الذات الإلهية فى ذلك أم لا؟، ولكن فى نهاية المطاف تم حفظه بصرف النظر عن مصحفته وتدوينه، ونحن لا ننكر هذا، لكن تم حفظه باعتباره الذكر، والذكر لا يحيلنا إلى قوانين وأحكام ودساتير، بل يحيلنا أكثر إلى الطابع التعبدى.
■ ما المقصود بذلك؟
- المقصود هو القراءة التعبدية وذكر الله وألا ننساه، لكن هناك كما قلت أفعالًا لم تعد تعنينا، وإلا فسيكون على المسلم أن يهاجر بسبب وجود آيات فى سور قرآنية تدعو للهجرة، نظرًا لأن هذه الآيات جاءت لأشخاص محددين فى الزمان والمكان.
■ ماذا عن قول النبى: «تركتُ فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدى أبدًا، كتاب الله وسنتى»؟
- إذا تكلمنا عن الأحاديث النبوية، فنحن أمام مشكلة كبيرة جدًا تحتاج لتساؤل يحدد لنا المفاهيم: فماذا نقصد بالنص الدينى؟، وهل الأحاديث النبوية جزء من النص الدينى؟، وهل نقصد بالأحاديث كتب الصحاح؟، وهل نعنى الصحيحين فقط أم كل كتب التراث؟، وهل هذه الكتب من مصادر التشريع أم لا؟، وهل ظروف كل حديث معروفة فى نهاية المطاف؟.
وإذا عدنا للقرآن، فروح الخطاب الدينى تربط السُنة بسُنة الله لا بسُنة الرسول، ولم يرد فى الخطاب القرآنى سوى: «سُنة الله»، كما أن الرسول فيه مقيد عن التشريع ولا يمكن أن يشرع، حتى إنه أخطأ مرارًا، والوحى لامه وعاتبه على ذلك، بمعنى أنه ليس مصدرًا للتشريع.
كما أن أخطاءه كانت عادية حينما طلب رأيه فى قضية زراعة النخل، وقال لهم: لا تفعلوا ذلك، فعندما لم يفعلوا كان المحصول سيئًا، فقال لهم النبى: «ما أنا إلا بشر مثلكم قد أخطئ وأصيب.. فإن أتيت لكم بشىء من دينكم فخذوه.. وإن كان شىء من رأيى فقد أخطئ فيه وقد أصيب».
والنبى كان دائمًا ينتظر تدخل الوحى إذا سُئل عن شىء، ثم إنه كان يلح على ألا يكتب شىء آخر غير القرآن، ويجب أن ننتبه إلى هذا، وهو ما عليه إجماع العلماء والصحابة.
فالرسول كان يقول لصحابته: «لا تكتبوا عنى شيئًا آخر غير القرآن.. ومن كتبه فلْيَمحُه»، بما يعنى أنه لم يكن يريد أن يترك نصًا آخر غير القرآن، فما معنى أن تكتب الصحاح بعد وفاة النبى بقرنين أو يزيد؟
وهذا هو السؤال الكبير، لأن ما حدث يناقض روح القرآن والدعوة الحقيقية والأصلية للرسول الكريم، إذن فمركز الثقل للمسلمين هو الخطاب القرآنى الذى يجب أن يجتمعوا عليه، وليس السنة.
■ لكن العلماء والفقهاء اعتمدوا هذه الأحاديث فى استنباط الأحكام الشرعية.. فكيف ترى ذلك؟
- بخصوص استنباط الأحكام الشرعية فهذا لغز تاريخى كبير، فماذا نقصد بالشريعة بالضبط؟ فالشائع أن الشريعة شىء مقدس من الأحكام والأوامر التى أرادها الله أو الرسول، لكن الواقع هو أن الشريعة ليست كلام الله ولا كلام الرسول بل هى كلام الفقهاء.
والأحكام إذن هى الاجتهاد الذى قام به الفقهاء على مدى قرون طويلة، وهم يحاولون أن يستنبطوا من بعض الآيات القرآنية وبعض الأحاديث النبوية وأحيانًا من بعض أقوال الصحابة، بعض الأحكام التى حاولوا أن يجعلوها بمثابة قوانين عامة عبر استعمال آليات القياس.
والقياس يعنى قياس حكم حول مسألة محددة ومحاولة تطبيقه على واقع آخر لم يتنزل فيه الحكم الأصلى، والخلاصة هنا هى أن نحصل على عشرات الأحكام فى كل قضية من القضايا.
■ كيف ترى هذه الأحكام التى توصل إليها الفقهاء عبر العصور؟
- هذه الأحكام تقديرية أو ترجيحية، وكثيرًا ما كنا نقرأ أن الإمام مالك كان يسأل فى عدد من القضايا فيجيب عن اثنتين أو ثلاث ثم يسكت عن باقى الأسئلة، ويقول: «الله أعلم» أو يترك الباب مفتوحًا.
ويعنى ذلك فى نهاية المطاف أن الأحكام الفقهية أحكام ترجيحية، وهذا ما يسمى حاليًا الشريعة، كما أن هذا الجهد الفقهى المبذول من أجل استنباط قوانين عامة عبر عن عصر التوسعات الإمبراطورية، لكنه لم يعد يناسب بناء الدولة الوطنية، التى انتقلنا بها إلى مرحلة جديدة هى مرحلة القانون، وهو ليس خروجًا على الدين وإن كان يمثل خروجًا على الشريعة فعلًا.
ونحن حاليًا بحاجة إلى اجتهاد جديد مناسب لبناء دولة المؤسسات، كما اجتهد المسلمون الأوائل مثلًا فى مسألة التقويم الهجرى، كما اجتهدوا أيضًا فى مسائل مهمة مثل جمع القرآن أو السنة.
■ البعض يحتج عليك بقوله إن آيات القرآن نفسها تنص على الحكم بما أنزل الله.. فما ردك؟
- التعامل مع القرآن كأحكام مرتبط بظروف التنزيل، والحكم ينتهى بنهاية ظروف التنزيل، الحكم الذى يهم مأمورين معينين، القرآن ليس مجردًا عن الزمان والمكان، بل هو إجابة عن أسئلة محددة لسائلين محددين فى الزمان والمكان، وهذا ردنا الآخر على من يحاول تجريد القرآن إلى مستوى جعله أقنومًا من أقانيم الألوهية، الأحكام القرآنية لم تعد تهمنا نحن اليوم، كانت تهم مأمورين محددين فى الزمان والمكان، نحن معنيون بالتعبد بالقرآن، ثم استلهام القيم الروحانية وليس الأحكام.
■ إذن كيف يجب أن نتعامل مع القرآن من وجهة نظرك؟
- إذا أردنا أن نحافظ على القرآن، فلا يمكن أن نتعامل معه باعتباره دستورًا أو أحكامًا، لأن هذا يعقد مسألة التعايش المشترك، وكما قال الإمام على بن أبى طالب، «القرآن حمّال أوجه»، لذلك يصعب الاستدلال به لبناء العيش المشترك، فعلى بن أبى طالب لما أرسل ابن عباس للتفاوض مع الخوارج قال له: «لا تجادلهم بالقرآن فإنك تقول فيقولون»، وهكذا سنظلم القرآن إذا أردنا أن نبنى به دولة أو دستورًا وقانونًا.
وإذا أردنا أن نحفظ للقرآن مكانته المستحقة، كخطاب تعبدى، فيجب أن نستنبط منه ما هو أهم وأبقى، وهو القيم الروحانية، مثل المحادثة بين هابيل وأخيه قابيل «لئن بسطت إلىّ يدك لتقتلنى ما أنا بباسط يدىّ إليك لأقتلك»، فالقيمة الأساسية هنا واضحة وهى عدم الرد على العنف بأى شكل من أشكال العنف، لكن إذا عدنا إلى الفقهاء التاريخيين، سنجدهم قد تركوا هذه القيمة الأساسية والنبيلة، والتى كان يمكن تأسيس قيم السلم عليها، لكنهم تركوها جانبًا، ليبرروا العكس تمامًا.
فكل كلام العلماء يبرر أن السياق خاص، لا يمكن أن نستنبط منه أى شىء، والحال أنه يمكن أن نستنبط منه حكمة أساسية تتعلق بعدم الرد على العدوان بأى شكل من أشكال العنف، عندما نحرر الخطاب القرآنى من سياق الاحتراب والتدافع والصراع للوصول للسلطة، فكل واحد يحاول أن يستغل هذا القرآن للوصول للسلطة، وإذا حررنا الخطاب القرآنى من هذا القبيل، يمكننا أن نستلهم منه ما هو أهم وأبقى وما هو أهم لبناء الإنسان، وهى القيم الروحية بدلًا من الأحكام التسلطية، والتى كانت تعبر عن عصر زمن التوسعات الإمبراطورية، والآن نحن فى زمن بناء الدولة الوطنية، بل فى زمن العولمة.
■ما تعليقك على مقولة القرآن صالح لكل زمان ومكان؟
- أعتقد أن المشكلة تكمن فى تصور القرآن كواحد من أقانيم الألوهية، لدرجة أنه ارتبط فى بعض الأذهان باللوح المحفوظ، وأصبح مخلدًا خلود الذات الإلهية، وأصبح قديمًا قدم الذات مكتسبًا قداستها، بينما لم يصف القرآن نفسه بأنه كتاب مقدس، وحتى فى زمن الرسول والمسلمين الأوائل لم يكن هناك هذا التوصيف، الذى ارتبطت بديانات أخرى وصفت كتبها بـ«المقدسة»، لكن القرآن لم يكن كتابًا مقدسًا، حتى الرسول لما توفى لم يترك القرآن فى كتاب، وكان يغلب عليه أنه متفرق بين الصدور، وبعض الأوراق والمصاحف كانت متفرقة عند كتبة الوحى، حتى إن الرسول لم يكن يكترث بمراجعة المكتوبات أو مراقبتها، ولم تكن هى ذاتها مقدسة.
ومسألة تحويل الخطاب القرآنى إلى مكتوب، هى مسألة لاحقة جاءت فى سياق اجتهادى، بعد وفاة الرسول، ونعلم أن الصحابى عمر بن الخطاب، رفض جمع القرآن، مخافة أن يفعل شيئًا لم يأمر أو يوصى به الرسول، وتطلب الأمر زمنًا حتى بدأ المسلمون يقتنعون بتحويله إلى كتاب، قبل أن يعطوه فيما بعد توصيفًا بأنه مقدس، وقد وصف القرآن نفسه بالعديد من الأوصاف منها الذكر مثلًا، لكن لم يصف نفسه بأنه مقدس.