رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ثوار الإنترنت.. هل يحرقون العالم؟




سواء كنت تحب ثورات الربيع العربى أو تكرهها «مثلى»، أو كنت من المتعاطفين مع أصحاب السترات الصفراء فى فرنسا أو ضدهم، فلا بد أن نتفق على حقيقة بسيطة أصبحت لا تقبل التشكيك، وهى أن قدرة السياسيين على تحريك الشارع قد تراجعت بشكل واضح فى العالم كله، أمام القوة الجبارة لمواقع الإنترنت التى أصبحت تملك عصا سحرية تتضاءل أمامها قوة الأحزاب والنقابات وزعمائهما التقليديين.
الواقع الذى نعيشه يؤكد بما لا يدع مجالًا للشك، أن الثورات «الرقمية» والحركات الاحتجاجية، تبدأ بإشارة من مجموعات وجروبات تجذب ملايين المتابعين فى لمح البصر، وقد تحركهم يمينًا أو يسارًا فى أوقات يتم تحديدها وإعلانها على الشبكة العنكبوتية.. حتى لو لم تكن تلك المجموعات «الجروبات» بريئة، أو ممولة ومدعومة من جهات لا تستهدف صالح المجتمع.
منذ عقود كانت عملية صناعة زعيم سياسى أو حزبى أو نقابى، تحتاج إلى سنوات طويلة وتدريبات على اتخاذ القرار، وممارسة فن التأثير على الجماهير، وتحريكهم من خلال إلقاء الخطب العصماء أو إصدار البيانات النارية، وكم من هؤلاء الزعماء تعرض للسجن سنوات أو للنفى والتشريد، حتى استسلم بعضهم أو مات قهرًا وكمدًا، وتمكن القليلون منهم من النجاة، وأصبحوا من أصحاب القرار السياسى سواء كحكام أو زعماء فى المعارضة.
ولكن الدنيا تغيرت الآن. فقد شهدنا، قبل وبعد ما سُمى الربيع العربى، صفحات ومواقع مشبوهة أثرت فى وجدان الملايين، وحركت الكثيرين منهم، ولنعترف بأنها نجحت فى إسقاط أنظمة عتيقة لم يكن أحد يتخيل مجرد اهتزازها وليس إسقاطها.
بعض هذه الصفحات حولت صحفية مجهولة فى اليمن إلى نجمة فى عالم السياسة، فازت بجائزة نوبل وصافحت كبار الزعماء فى العالم، وعملت بجد على إسقاط بلدها.
وشهدنا أيضًا مواقع وصفحات على الإنترنت، بررت إصدار قرار من الجامعة العربية، يسمح لحلف الناتو بتوجيه ضربة عسكرية إلى ليبيا، أدت فى النهاية إلى قتل القذافى بطريقة وحشية، وتحويل «الجماهيرية» الغنية بموارد النفط إلى فريسة على موائد اللئام، وهناك أمثلة أخرى كثيرة تشير إلى ما حدث فى سوريا وتونس والبحرين وكل الدول التى طالتها موجة الربيع الأسود.
الأرقام والإحصاءات الرسمية تشير إلى أن هناك أكثر من ٣.٢ مليار إنسان، يمثلون ٦٠ بالمائة من سكان العالم يستخدمون شبكة الإنترنت، رغم أن بعضهم لا يمتلك كهرباء أو مياهًا نظيفة فى بيته، وكثيرون منهم يعيشون تحت خط الفقر، وهو ما يعنى باختصار أن ملايين من مستخدمى الإنترنت قد يصبحون أداة سهلة، فى أيدى جهات- معلومة أو مجهولة- قد تسعى إلى تحريكهم، تحت شعارات بريئة وبراقة تنادى بحقهم فى الحياة الكريمة واللائقة، وبمجرد أن ينجح هؤلاء البسطاء فى السيطرة على الشارع، يبدأ المحرضون فى تنفيذ مخططاتهم.
ولا أحد يرفض أو ينكر حق المقهورين فى الثورة من أجل تغيير أحوالهم، لكن التاريخ يخبرنا أن الكثير من الثورات كانت أشبه بصندق بندورا، الذى تقول الأسطورة اليونانية إن فتحه يجلب أبواب الشرور والجحيم، بدليل أن ثائرًا شهيرًا مثل تشى جيفارا قال إن «الثورة يصنعها الشرفاء، ويرثها ويستغلها الأوغاد».
وقديمًا كانت الثورات وحركات التغيير تنضج على نار هادئة وعلى مدى سنوات، يتداول خلالها الناس الفكرة ويناقشونها، ويختارون زعماءهم ويغيرون فيهم، ولذلك فإن كشف المتآمرين كان يبدو أسهل، وكذلك كان استكشاف ما قد يضر بالأوطان أيسر.. ولكن فى عصر الثورات الرقمية، تبدأ الفكرة على صفحة أو موقع الإنترنت، وكلما كانت أكثر بريقًا وقدرة على مغازلة عواطف وغرائز الجماهير، كانت فرصتها أكبر للانتشار كالنار فى الهشيم.. حتى لو أحرقت الأخضر واليابس.
كل هذه المعطيات تؤكد أن أشياء ومفاهيم كثيرة قد تغيرت، فى العمل السياسى والممارسة الديمقراطية، وهى تغييرات سوف تطال من أهمية الممارسة السياسية التقليدية من خلال الأحزاب والنقابات والبرلمانات أيضًا، وعلينا أن نستعد لتداعيات هذه التغييرات.
ما رأيناه فى الأمس القريب وما نراه اليوم يقرع نواقيس الخطر بشدة، محذرًا من أن مستقبل العديد من دول العالم قد يصبح على المحك، بسبب دعوات مشبوهة للتغيير قد تنطلق على شبكة الإنترنت، وقد يستغل أصحاب هذه الدعوات مطالب حقيقية وتطلعات مشروعة للتلاعب بعواطف الجماهير، ودفعهم دفعًا للسير نحو هاوية لا تراها أعينهم.