رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

بريق الأمم المتحدة يخفت في عيون زعماء أفريقيا

جريدة الدستور

ما إن انفضت جلسات الدورة الثالثة والسبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة حتى انكب محللون ومتابعون في أنحاء متفرقة من العالم على تحليل أهم النقاشات، والأحداث، والأرقام، والإحصاءات، بل وأطرف اللمحات وكان من بينها أقصر خطبة للزعماء التي كانت من نصيب رئيسة ليتوانيا، داليا جريبوسكايتي، التي تخلت عن أية إطالة واقتصرت كلمتها على 5 دقائق، بينما كان أطولها من نصيب الرئيس الفنزويلي، نيكولاس مادورو موروس الذي استغرقت خطبته 48 دقيقة، ورغم ذلك فقد سعد الحضور المشاركون في الجلسة أيما سعادة لأن مادورو لم يستعد أمجاد زعماء أميركا اللاتينية في الخطابة أمثال الزعيم الكوبي فيدل كاسترو، الذي كان يصدح بخطبه لساعات طويلة في خمسينيات وسيتينات القرن الماضي.

ومن قبيل أن "كل يغني على ليلاه"، عكف محللو موقع "كوارتز أفريقيا" الإلكتروني، على البحث عن مفارقة تخص قارتهم السوداء وقاموا برصد أعداد الحضور من الرؤساء الأفارقة في الدورة الـ73 للجمعية العمومية، التي انطلقت في 25 سبتمبر واختتمت أعمالها في الأول من أكتوبر الماضى، ليجدوا ضالتهم في مفارقة رقمية معبرة توحي بمعانٍ لا حصر لها، إذ توصلوا إلى أن اجتماعات الأمم المتحدة الأخيرة التي انعقدت في نيويورك أخيرًا لم تتمكن من جذب الكثير من الرؤساء الأفارقة إليها، واقتصر عددهم على 27 رئيسًا، بينما في المقابل نرى "منتدى التعاون الصيني الأفريقي" FOCAC، الذي عقدت فعاليات قمته الثالثة في العاصمة الصينية بكين قبل أسبوعين من اجتماعات نيويورك، قد استقطب 51 رئيسًا أفريقيًا.

ولم يقتصر انحسار الحضور الأفريقي في اجتماعات الجمعية العمومية للأمم المتحدة على الزعماء والرؤساء الأفارقة فحسب، بل زاد إلى أن 24 دولة على الأقل أرسلت إلى نيويورك وفودًا رسمية أقل تمثيلًا في مستواها مقارنة بما أرسلته إلى العاصمة بكين للمشاركة في منتدى FOCAC الصيني الأفريقي.

ويقول معد تقرير "كوارتز"، الصحفي الصومالي عبداللطيف ظاهر، إن رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، أصغر زعيم في القارة الأفريقية، تجنب حضور الجلسات رغم أنه كان من المتوقع أن يكون واحدًا من أبرز المتحدثين عن القارة في هذه الدورة، كما تغيب رؤساء الصومال، والجابون وأوغندا، والسنغال عن المشاركة في الاجتماعات مفضلين إرسال رؤساء الحكومات أو وزراء الخارجية بدلًا منهم، وقد انضم هؤلاء الزعماء الأفارقة إلى غيرهم من زعماء العالم ممن فضلوا عدم الذهاب إلى نيويورك في هذا العام مثل الرئيس الصيني، تشي جينبينج، ونظيره الروسي، فلاديمير بوتين، والمستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل.

ويرى محللون أن تفاوت الحضور الأفريقي بين اجتماعات الأمم المتحدة ومنتدى بكين يوحي بتحول ديناميكيات القارة الأفريقية وأولوياتها، كما أنه يكشف القيود والتحديات التي تواجه الأمم المتحدة جراء تنامي الانتقادات التي تُكال لها من بقاع مختلفة من العالم بسبب قراراتها الغزيرة ورطانتها الجريئة غير المجدية في نهاية المطاف، فالمنظمة الدولية التي تضم في عضويتها 193 دولة، تكافح من أجل جعل مهامها أكثر أهمية بالنسبة للعالم، في وقت يحيط بها تهديدات متزايدة فضلًا عن تأثرها الشديد بخفض الولايات المتحدة، في ظل إدارة الرئيس دونالد ترامب، لإسهاماتها التي تشكل جانبًا مهمًا من مخصصات المنظمة الدولية.

وتقول رئيسة مجلس إدارة مؤسسة "دي آر" الاستشارية، هانا رايدر، إن تغيب القادة الأفارقة قد يكون لأسباب عملية منطقية؛ فاجتماعات الأمم المتحدة تنعقد سنويًا بينما منتدى FOCAC الصيني الأفريقي يعقد كل ثلاث سنوات "لذا فإن الأولوية تُعطى للأشياء التي يتكرر حدوثها بشكل أقل، كما أن اجتماعات الجمعية العمومية للأمم المتحدة تتيح لممثلي الدول الفرصة للتعاطي، والتشبيك، والنقاش للقضايا الملحة، وهي أمور يسعى الزعماء والقادة القيام بها في المنتدى الصيني الأفريقي.

وتستطرد رايدر تصريحاتها لموقع "كوراتز" قائلة إن هناك قادة ورؤساء حكومات أفارقة ربما اختاروا البقاء بسبب توترات واحتجاجات وضغوط داخلية يواجهونها في بلادهم، وينطبق ذلك على الكاميرون، وتوجو، وجنوب السودان، وأوغندا، إلى جانب إثيوبيا التي يترأس رئيس وزرائها اجتماعات الحزب الحاكم المنعقدة في تلك الأيام في أعقاب اضطرابات إثنية وأحداث عنف دامية شهدتها البلاد في الأشهر الأخيرة.

وبشكل أكثر موضوعية، تخوض رايدر في ملفات أكثر واقعية، مؤكدة أن تباين إقبال الزعماء الأفارقة بين الأمم المتحدة والقمة الصينية الأفريقية، تعكس بما لا يدع مجالًا للشك أن العلاقات مع الصين باتت "مسألة شديدة الحيوية" بالنسبة للقادة الأفارقة، وهي الجزئية التي أشار إليها الرئيس الغاني، نانا أكوفو أدو، في كلمته أمام الجمعية العمومية للأمم المتحدة.

وكان بحث أعدته مؤسسة "أر دي"، الاستشارية المعنية بالتنمية ومقرها بكين، أشار إلى أن قليلًا هي القمم على مستوى القارات الأخرى أو القمم الثنائية أو المتعددة، التي تمكنت من جذب حضور مكثف من القادة والزعماء الأفارقة مثلما هو الحال مع المنتدى الصيني الأفريقي FOCAC.

وأسهم القادة الصينيون في تعزيز تلك التوجهات ومشاعر الود الظاهرة من خلال الزيارات المكثفة التي قاموا بها على نحو فاق ما قام به نظراؤهم الأوروبيون أو الأميركيون، فضلًا عن تعهدات قطعها زعماء الصين على أنفسهم بضخ نحو 60 مليار دولار خلال السنوات الثلاثة المقبلة في القارة الأفريقية، كما أن البلدان الأفريقية باتت أكثر ميلًا لإعطاء الأولوية للدخول في نقاشات مع بعضها البعض بشأن إبرام اتفاقات تجارة حرة، وسبل تمويل أمنها الخاص، والسعي إلى تقليص الوساطة أو التدخل الخارجي في الشؤون الأمنية الإقليمية.

وفي ظل تلك البيئة المتغيرة، تنصح رايدر الأمم المتحدة، بأنه يتعين عليها أن تعي طبيعة تلك التغيرات وتعمل على جلب الدول الأفريقية وجذبها إلى المحفل الدولي مجددًا، وإعادة إحياء تعهدات تلك الدول بتبني الأهداف العالمية المشتركة، وهذا يتطلب علاج الاختلالات العميقة في أسس منظومة الأمم المتحدة والسعي إلى إدماج تلك البلدان البازغة- التي لم تعد بحاجة إلى المساعدات التقليدية أو قوات حفظ سلام - وتفعيل الحوار معها، ولاشك أنها "مهمة كبرى" إذا كانت المنظمة الدولية ترغب في استعادة بريقها الغائب.