رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

موقعة الفستان‎


بعد أن شهدنا وعايشنا فى السنوات الأخيرة مواقع للجِمال وللصناديق، والكثير من العنتريات التى فشلت فى قتل ذبابة.. شهدنا هذا العام موقعة جديدة وهى «موقعة الفستان».. عندما تكالب المتكالبون المنافقون المتحذلقون المصابون بمرض الازدواجية على ممثلة مصرية تكالب الذئاب على الفريسة.. وكثرت السكاكين المدفوعة بكم من الغل العجيب، الذى يحتاج حتمًا أن نقف عنده ونحاول تحليله.. فالتطرف والمغالاة فى ردات الفعل وتحميل الموضوع أكثر مما يحتمل الفعل نفسه- أيًا كان تقييمنا للفعل أو درجة قبولنا له أو رفضه- كانت لها دلالات ومؤشرات صادمة!.. رد الفعل على ما حدث هو ما أثار الجدل والقلق والتوجس لا الحدث نفسه!.
فى «موقعة الفستان» ردات الفعل كانت الحدث وكانت حديثًا للمدينة.. تمخض عنها حوار مجتمعى على أصعدة مختلفة شاركت فيه غالبية أفراد الشعب على اختلاف مشاربهم وثقافاتهم.. وبعيدًا عن تفاهة الحدث ومن تحدثوا عنه واعتبروه وباءً سيميت نصف أفراد الشعب! أو زلزالًا أو فيضانًا أو طوفانًا سيحطم البيوت على قاطنيها فتترمل النساء ويتيتم الأطفال ويعم الخراب وينتشر البؤس وكأننا ضربنا بقنبلة ذرية فجرت كل ما بداخلنا من هلاوس وهواجس وضلالات، واختلال فى تقييم وتقدير الأمور وخلط فى المفاهيم واختلال فى الموازين ومنظومة القيم ومنظومة العدالة، وأوضح بشكل جلى شراسة تعامل الأنثى مع الأنثى، والذكر بالطبع وتشييئها، بل كشف النقاب الذى يضعه البرلمان على وجهه ليخفى قبحًا يراه فى نفسه.. وأوضحت لنا الواقعة أيضًا.. كيفية تعامل مؤسسات المجتمع المدنى والنقابات والهيئات مع أعضائها.. بل وصل الأمر إلى اعتبار فستان الممثلة خطرًا على السلم الاجتماعى والأمن القومى، فأبلغوا النائب العام عن الفستان وصاحبته وتحددت جلسة لمحاكمة الممثلة التى كادت تُسجن وكانت قاب قوسين أو أدنى من تنفيذ عقوبة ستسلب منها حريتها بالكامل وتعتبرها مجرمة ارتكبت جرمًا يُحاسب عليه القانون!.
وبالتالى أرهبت الممثلة وروعت وتم ابتزازها عاطفيًا، فاعتذرت عن جرم لم تفعله فثبتت عليها الجريمة!.. بعد أن توسلت واستجدت وذلّت وأهينت حتى من عليها وصفح عنها من كانت حياتها رهنًا لتنكيله بها وبمستقبلها وببناتها! وكأن ذلك المنكل الجبار ليس فقط سيدًا عليها أو قاهرًا مبتزًا لها.. بل كأنه ربها ومصيرها مرهون بعفوه عنها وهو القادر على جعلها عبرة لمن يعتبر.. على طريقة «اضرب المربوط يخاف السايب»!.. الممثلة التى ارتدت فستانًا فى مناسبة جُعلت خصيصًا من أجل الظهور والاستعراض ولفت الأنظار.. وكى تلتقطهن عدسات المصورين لينافسن على المركز الأول فى جذب الاهتمام وتحقيق «الترند».. عوملت معاملة المجرم أو الإرهابى وأصبحت، من وجهة نظر هؤلاء، باغية عادية اعتدت على البلاد وقاطنيها! وهنا يجب أن نتوقف عند بعض النقاط التى لا يمكن تجاهلها أو غض الطرف عنها، ولا بد أن نجد إجابات للأسئلة التى فرضتها تلك اللحظة العبثية على النحو التالى:
ما تعريف الجريمة؟.. ومن المجرم؟.. حدود حرية الفرد وأين تقف؟.. حدود تدخل الغير فى شأن الفرد وفيما لا يعنيه؟.. القوانين بصيغها الفضفاضة الحالية مثل «خدش الحياء»، «التحريض على الفسق»، «الفعل الفاضح فى الطريق العام»، «ازدراء الأديان»، وكلها قوانين تغفو أو تستفيق وفقًا للأهواء والمآرب، ولا توجد لها معايير موضوعية أو حتى منطقية الممثلة المصرية التى تكالبت عليها نخبة «أهل كايرو» فحدث لها فى الواقع ما جسدته من قبل على الشاشة ولم تكن تتوقع أنها ستكون الفريسة أو الضحية فى الواقع فى يوم من الأيام!.
وبالطبع ما مرت به «رانيا يوسف» فى «موقعة الفستان» سيرهب غيرها حتمًا.. ولن تجرؤ هذه أو تلك على الخروج على الـ«patron» المجتمعى الذى لا يوجد له.. بل يستحيل الوصول لإجماع عليه أو وضع معايير له.. فتتكرر وقائع جديدة مماثلة بعد ذلك مع هذه وتلك لتطال جموع النساء على اختلاف بيئاتهن وحيواتهن.. فتهدد وتجر امرأة كل يوم للمحبس لأنها فعلت- من وجهة نظر البعض- ما قد يبرر حبسها! بل قد يمتد الأمر لملاحقة الفتيات والنساء فى الشواطئ العامة والخاصة والمناسبات والحفلات.. وتشكل لجان مجتمعية من متطوعين تدور فى دوريات على الأماكن العامة، وبالتالى يتحقق حلم السيد «حازم صلاح أبوإسماعيل» الذى نادى بالشرطة المجتمعية وأن يمارس المواطن دور الجاسوس أو الشرطى- الحر غير النظامى- على أخيه المواطن كما فعل الشيخ وليد فى الشاب قتيل السويس! والذرائع دومًا جاهزة وموجودة.. فهذا كان يلمس كتف فتاة.. وفتاة أخرى كانت ترتدى زيًا قصيرًا أو شعرها أحمر اللون أو مجعد وهكذا دواليك.. ونصبح جميعًا عرضة للترهيب والابتزاز والترويع، راجين متمنين أن يمن علينا هذا أو ذاك بالصفح وأن يتركنا لحال سبيلنا!
ترهيب وابتزاز «رانيا يوسف» فى «واقعة الفستان» يستتبع حتمًا فرضية خلق مناخ يسمح ويستبيح التعدى على حقوق وحريات المواطنين كافةً رجالًا ونساءً.. من أراد سجن «رانيا يوسف» كان يريد سجن الناس جميعًا فى دائرة لن يفلتوا أو يمكنهم الفكاك منها.. الكأس دوارة.. سيذوقها ويتجرعها الجميع حتمًا وسيلتف الحبل على عنق الجميع وسيكر خيط الحبس والترهيب حتى مداه الأخير.. فهل يستطيع أحد وهل من حقه أن يسجن الناس جميعًا؟.. هل يستطيع هذا أو ذاك أن يسجن مصر؟! ولا تظنوا أن الأمر مستبعد.. لا يوجد شىء يمكن استبعاده طالما العبث والخبل واختلال الموازين وانعدام المنطق هو العنوان الكبير للمشهد الحالى.. حالة الغل والكراهية والكبت والعجز التى أوجدت نوعًا من التربص والتنمر والترصد للمواطن وخلقت لديه ذهنية منغلقة معادية اتكاء على قوانين فضفاضة سيئة السمعة.. يجعل كل ذلك ممكنًا، لقد كنا نستبعد فى وقت ما أن مثل تلك القوانين من الممكن لها أن تزج بـ«إسلام البحيرى» للمحبس وقد كان! ثم لحق به الشيخ «محمد عبدالله نصر» ورفعت قضايا أخرى كثيرة هنا وهناك على هذا وعلى تلك.. وهذه المرة تم استغلال حدث عرضى كان من الممكن جدًا أن يمر مرور الكرام ولا يلتفت إليه أحد.. لكن.. ولخلق سلطة وسطوة على الفن وصناعه- لا نعرف حدودها أو مداها- تم التعامل مع الواقعة بوصفها موقعة!.