رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الخطاب الديني.. والإلحاد








عندما عرض فيلم " بحب السيما " انتفض عدد غير قليل من رعاة الكنيسة ومعهم كل أهل التشدد وتجمعوا في مظاهرة رافضة عرض الفيلم حتى تحقق لهم إيقاف عرض الفيلم !!.. لقد أزعجهم طرح الطفل بطل الفيلم لمجموعة من علامات الاستفهام لم يجد أبوه المتشدد دينيًا لها إجابات شافية مقنعة، مما اضطره لزجر الطفل وتحذيره مهددًا لو عاود وكرر ترديد مثل تلك الأسئلة مرة أخرى لعاقبه بشدة !!

وعلى مدى زمن عرض الفيلم، يكرر الأب على مسامع الطفل أشكال وألوان العقاب الإلهي للمخالف لتعاليم الكتاب المقدس.. لم يحاول ــ ولو لمرة واحدة ــ كيف يقدم للطفل مراحم الإله العظيم ونعمه الكثيرة وكيف يحبنا.. وعبر عشرات المشاهد ظل يصف الفنون بكافة أشكالها وفي مقدمتها " السينما " التي يعشقها الطفل بأن مشاهدتها حرام، وأن الله سبحانه لن يغفر له حبه للسينما.. لاشك أن ما رصده الفيلم من مظاهر التشدد، وصولًا إلى تفهم الأب خظأ ما ارتبك من سلوكيات وردود أفعال غير سليمة تربويًا وروحيًا مع ابنه قد أغضب كل أصحاب الخطاب الجاف باسم الدين لاستشعارهم بخطورة رسالة الفيلم في الاتجاه المعاكس لخطابهم التقليدي النمطي القديم المتشدد..

وأرى أن ممارستنا المتشددة والمنفرة غير المرغبة في التفاعل الإيجابي مع تعاليم الأديان في البيت والكنيسة والمسجد قد تكون أحد أهم أسباب جنوح شبابنا نحو الإلحاد والكفر بآيات الكتب المقدسة.. لاشك أن ظاهرة الإلحاد من الظواهر المعقدة التي قد تتداخل فيها العوامل الفكرية والنفسية والاجتماعية؛ ولذا فإن تحليلها والبحث في أسبابها يحتاج إلى جهد كبير وبحث دقيق من مختصين في الفكر والدين والفلسفة وعلم النفس والاجتماع.. إننا نجد الكثير من هؤلاء الذين ألحدوا قد تربوا في بيئات دينية أو اجتماعية متشددة، بل إن بعضهم قد حفظ آيات وتعاليم دينه ثم صار به الحال إلى الإلحاد!، من المهم أن يدفعنا هذا إلى التساؤل والبحث عن الخلل الذي أدى لمثل ردات الفعل هذه.

ومن الإشكالات التي يسببها التطرف الديني أنه يربي الأشخاص على التطرف والحدية في تبني الآراء فتجد أن عقلية هذا الشخص تتشكل بهذه الطريقة، وحين تتغير بعض أفكاره ويرتبك أمام بعض القضايا أو التساؤلات فإنه يتطرف بالاتجاه المقابل ويتخذ موقفا معاديًا للدين والتدين، وهذا ملاحظ لدى بعض من سلكوا طريق الإلحاد.
نعم، فالاستبداد الديني بدوره أنتج نفورا من الدين والتدين فحينما يكون الدين خاضعا لسلطة دينية مقدسة متشددة، وقد تُوظَّف بوصفها ورقةً داعمة للاستبداد الأبوي، فإن هذا قد يدفع الشخص لاتخاذ موقف من الدين نفسه !
في تناوله لظاهرة الإلحاد يقول قداسة البابا المتنيح شنودة الثالث أن الإلحاد هو أولي الخطايا الأمهات. وأخطرها. وما أكثر الخطايا التي تتولد عن الإلحاد ! من الصعب أن تحصي.. والإلحاد علي نوعين: أحدهما ينكر وجود الله. والثاني هو الذي يرفض هذا الإله أو يتهكم عليه وينتقده.. والإلحاد الرافض لله: إما أن يرفضه لسبب شهواني. أو لسبب اقتصادي. فالذين يرفضونه لسبب شهواني. يرون أن الله يقف ضد شهواتهم بوصاياه التي تمنعهم عن التمتع بخطايا معينة. وهؤلاء شعارهم يقول “من الخير أن الله لا يوجد. لكي أوجد أنا”! أي لكي أتمتع بالوجود الذي أريده. بعيدًا عن وصايا الله التي تقيدني!...هؤلاء يتهكمون بقولهم: أتدعون أن الله في السماء؟ ليكن في السماء. ويترك لنا الأرض لا شأن لنا به. ولا شأن له بنا..أما الإلحاد الرافض لسبب اقتصادي: فهو يدعي أن الله يسكن في برج عاجي. ولا يهتم بشئون الأرض. ولا يقيم العدل والمساواة فيها!

وذكر قداسته العديد من البراهين على وجود الإله العظيم لا يتسع المجال لعرضها، وأكتفي بعرض ما ذكر حول النظام في جسم الإنسان. فهو عجب في عجب.كما وصفه حتي أن التأمل في علم وظائف الأعضاء يثبت وجود الله. وكذلك تركيب كل عضو بشري.. يقول " انظر إلي المخ وتركيبه وعمله. وما فيه من مراكز للنظر والسمع والنطق والحركة. بالإضافة إلي عمله في الفهم والذاكرة والاستنتاج… العالم كله يقف مبهورًا غاية الانبهار أمام أي مركز واحد من مراكز المخ. وإن اختل لا يستطيع كل علماء الكون أن يعيدوه إلي وضعه الطبيعي…ماذا نقول أيضا عن باقي أجهزة الجسم وعملها الدقيق: كالقلب مثلًا أو الكبد. أو الجهاز العصبي أو الدوري أو الهضمي. وعن تكوين الجنين في الجسد وغذائه ونموه. حتي يكتمل ويخرج..وما نقول ما يشبه عن جسم الإنسان وأعضائه. نقول ما يشبهه عن أجسام الحيوان والطيور.. بل نري عجبًا آخر في تركيب أجساد الحشرات، أليس كل هذا دليلًا علي وجود خالق كلي العلم والحكمة !! ".

أخيرًا، عزيزي القارئ.. لاشك أن الابتعاد عن الله وعن الاتصال الروحي به سبحانه قد يجعل الإنسان عرضة بشكل أكبر لأن تتقاذفه الشكوك والشبهات فينجرف معها.، كما أن الشخصية المندفعة والعجولة قد تكون أكثر عرضةً للإلحاد.. من أخطر ما يمكن أن يواجه حياة الإنسان النفسية ويربك استقراره وطمأنينته أن يفقد إيمانه بالله، لأن الإيمان بالله هو ما يمنح هذه الحياة معنى وهدفا، ودونه يتمزق القلب وتتوه الروح وتغرق النفس في بحار العبثية والعدمية !