رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

السنطة

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية


تفرَقنا.. صرنا شبابًا، لكنها تجمعنا فى لقاء أسبوعى. نأتى إليها محملين بأحزاننا وأفراحنا وأحلامنا. نفترش ظلها نشركها ما فى جعبتنا
كنًا صغارًا نصنع ممرًا حريريًا بأحذيتنا البالية وسط النخيل، كى نتلاشى صعوبة الطريق بين منازلنا والمدرسة. السابعة صباحًا تبدأ رحلة العدو والركض بين الحقول. نحاول قطع المسافة فى أقصر زمن.. نختلس الوقت، وعندما نصل أمام (سنطة مناع) ينحرف مسار أقدامنا تلقائيا نحو السنطة.
نلتقط أنفاسنا أسفلها.. نستظل بظلها الوافر.. نلتقط حبات (القرضة) الساقطة بجوار جذعها المتشعب الجذور. نترك لأجسادنا حرية الاستلقاء حول الجذع، فتتشكل الأجساد بخطوطه، بينما تأخذ أقدامنا من جذورها مرسى، أو يمتطى بعضنا تلك الجذور كحمار محاولًا إبعاد ملابسه وأرجله عن جدول الماء الجارى أسفلها، فى أول الأمر ينهر بعضنا البعض محذرين الاقتراب من البرادة حتى لا يتلوث ماؤها. نخرج زجاجتنا الفارغة نملؤها بمائها الزلال. نمد أكفنا نقتطف منها، نرشف حتى نرتوى، نزيل آثار الركض من على وجوهنا المعروقة.. نتسابق فى صيد الزهرات الصفراء من الماء، مَن يجمع أكبر كمية؟ نتشاجر قليلًا نعكر ماء البرادة والجدول. نبنى قصورًا من الطين داخلهما، أو نستخرج منهما كميات من الطين نلون به جذع السنطة. هذا لا يمنع اتساخ ملابس أحدنا بالطين والماء. يدركنا وقت الطابور الصباحى، فنهرول جميعًا إلى المدرسة التى تبعد أمتارًا قلائل من السنطة. ينسى البعض جزءًا من أدواته بجوار جدول الماء. نصل إلى المدرسة متأخرين نصنع طابورًا جديدًا لغير الملتزمين. تنهال علينا عبارات التوبيخ وأحيانًا ضربات خفيفة من الناظر. ينظر بعضنا إلى بعض، نتهامس ونتغامز على مَن لطخت ملابسه بالطين.
يستمر حديثنا عنها هيامًا وعشقًا، حتى ظن أحدنا أنها من أشجار الجنة لما تحويه من ألوان زاهية ومتعددة.
نظل هكذا حتى انتهاء اليوم الدراسى، لا سيرة لنا إلا السنطة وما حولها.
بعد انتهاء اليوم الدراسى يكون أمامنا متسع من الوقت للهو حولها من جديد.
ظلت السنطة حدثًا فى حياتنا حتى بلغنا المرحلة الثانوية. نمارس أسفلها طقوسنا وألعابنا. ظنًا منا أنها تشاركنا حكايات الأمس والغد.
كنا نتخذ من جذعها لوحة لخربشاتنا بأظافرنا، وتلوين القلوب المخترقة بالسهام بالطباشير المسروق.
تفرَقنا.. صرنا شبابًا، لكنها تجمعنا فى لقاء أسبوعى. نأتى إليها محملين بأحزاننا وأفراحنا وأحلامنا. نفترش ظلها نشركها ما فى جعبتنا.
نعاود لهونا وشكوانا لأعوام عدة................
أصبح الطريق عموميًا معبدًا، تتنشر على جانبيه أعمدة الإضاءة الحديثة.
نتوقف أمامها نشتاق لأيام خلت وعمر ولى.
انتشرت حولها الغابات الخرسانية. يوما ما جفت عين الماء، ردم الجدول، صارت عجفاء، تلاشت ألوانها، ما عادت تطرح، تكسرت أطرافها.
انشغل عنها الجميع، ظلت وحيدة. ذات صباح حاصرتها أسوار الطوب اللبن من كل اتجاه. شكلت دائرة هى مركزها، ضاقت الدائرة، كادت أن تقتل، لم يتحرك أحد لنجدتها. الوحيد الذى يأتى إليها على فترات متباعدة (صبى الفحام)، كى يستأصل جزءًا منها. ظلت تقاومه ترفض الموت أو الاستسلام لهما.