رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

"باب زويلة".. خرافات النساء ورائحة رؤوس السلاطين

جريدة الدستور

من لا تحبل، تدق مسمارًا وتعقد عليه مسمارًا وتعقد عليه بعض الخيوط، فتتحقق أمنيتها، وتنجب، هذا ما بقى من إرث باب "زويلة" بعدما عُلقت عليه رؤوس المتمردين والفلاحين والفقراء والأغراب والأعداء وسلاطين حكموا مصر، وشُم منه رائحة الدم، واتخذ بجواره متولي حسبة القاهرة ليباشر مهام عمله.

جاءت لمصر قبائل مغربية عددية، إحداها كانت تُسمى"زويلة" عبد الله المهدى، احتلت جزءًا كبيرًا من القاهرة، مكان حارة اليهود بشارع الموسكي، إليها يُنسب هذا الباب الذي كان أحد ثمانية أبواب اختارها جوهر الصقلي في السور الذي أحاط به القاهرة.

يبدو أن باب زويلة كان في البداية مكونا من جزئين متجاورين، وعندما جاء المعز لدين الله إلى القاهرة مر من أحد القسمين، فتفاءل الناس بذلك، وأهملوا المرور من القسم الثاني الذي قيل عنه أن من مر منه لم تقض له حاجة، واستمر ذلك حتى سد، وفي العصر الفاطمي كانت القاهرة مقصورة فقط على سكنى الخلفاء، وكبار رجال الدولة، وكان المواطن المصرى لا يستطيع اجتياز أبواب القاهرة الملكية إلا بتصريح خاص، عاشت أسوار القاهرة الذي بناها جوهر الصقلي ثمانين عاما، كانت من الطوب اللبن، ولم تعد صالحة للأغراض الدفاعية، فما أن استوزر المستنصر أمير الجيوش بدر الجمالي حتى أنشأ سورا آخر من الحجر، حسبما ذكر جمال الغيطاني في "ملامح القاهرة في ألف سنة".

ذكر "المقريزي" أنه لم يخبره أحد ممن طافوا البلاد ورأى مدن الشرق أنه لم يشاهد في مدينة المدائن عظمة باب زويلة، ولا رأى مثل مئذنتيه.

كانت المئذنتان أكبر مما هما عليه الآن بكثير، هدم أعلاهما الملك المؤيد شيخ المحمودي الذي بنى الجامع داخل باب زويلة، وعمل على البدنتين ومنارتين.

كان باب زويلة يستخدم خلال العصر الفاطمي لتعليق رؤوس المتمردين، لقد كان أحد أبواب المدينة المقدسة ولا تسجل المراجع التاريخية أى حادثة إعدام تمت عند الباب، إذ ربما سمحت بذلك طبيعة العصر الفاطمي وما حفل به من استقرار كانت لا تتيح فرصًا كثيرة لمظاهر الشنق العلنية، رغم أنه الأمور لم تسير هادئة تمامًا، فقد وقعت ثمة اضطرابات، وكثيرًا من القتلى رحلوا خلال تلك المعارك، لكن تعليق الرءوس بشكل علنى لم يسجله التاريخ كما حدث مع العصور التالية.

ذكر ابن إياس في كتابه "بدائع الزهور في وقائع الدهور"، أن أول حادثة صلب علنية وقعت في النصف من شعبان سنة 665 هجريًا، عندما شن السلطان الظاهر بيبرس البندقداري حملة لإبطال الحشيش، وإضراب الخمارات ومنع العاهرات، في تلك الأثناء ظفر والى الشرطة بشخص يسمى "ابن الكازروني"، وكان سكرانا، فعلق الجرة والقدح في عنقه، وصُلب على باب النصر، ولم يصلب على باب زويلة، فقد كان الصلب يتم في الأماكن الظاهرة للناس بدون تخصيص مكان معين.

وأحيانًا كان يتم على باب القلعة نفسها كما حدث في شهر ذي القعدة سنة 778 هجريًا، وعندما وقعت فتنة بين الأمراء والسلطان، وتم القبض على خمسة أمراء هم الأمير أرغون شاه، والأمير أرغون العمري الضرير، ثم إعدامهم وعلقت رؤوسهم على باب القلعة، لكن يبدو أن مثل هذا الشرف لم يكن يحظى به إلا الأمراء وذوي المراتب والقصد من تعليق رؤوسهم على باب القلعة وهو إرهاب الأمراء الباقيين، ولا علاقة للشعب بالأمر.

أما في سنة 694 هجريًا، في العاشر من محرم، هجم جماعة من المماليك على اصطبلات الناس، وفتحوا باب سعادة، فلما ظهر النهار أرسل الأمير "كتبغا" ووقبض على من فعل ذلك من المماليك، وقطع أيديهم وطاف بهم القاهرة، ثم صلبهم على باب زويلة ووسط وقسم أجساد البعض بالسيف إلى نصفين، نصف علوي، ونصف سفلي، وكانت هذه هي أول حادثة صلب تتم على باب زويلة، كما ذكر ابن إياس في كتابه" بدائع الزهور في وقائع الدهور".

ومن بعدها أصبح من نصيب الباب أن يكون مقرونًا بالرؤوس المقطوعة، لبث الذعر والخوف في الناس.

وفي سنة 739 هجريًا، ظهرت بالقاهرة إمرأة تسمى"الخناقة"، ذاع صيتها بين الناس، فكانت تحتال على الأطفال والنساء، وتخنقهم، وتأخذ ما عليهم من ثياب، فبلغ ذلك للسطان، فأمر بالقبض عليها، وشنقوها على باب زويلة، وفي مثل هذه المناسبة يتجمع الناس للفرجة، ويكون الزحام على أشده، واختير الباب لهذه المميزات، فهو الباب المؤدي إلى أشد مناطق القاهرة إزدحامًا، ثم إنه يتوسط مجموعة من الأسواق المتتالية التي لا تخلو من الناس ليلًا أو نهارًا.

وسجّل التاريخ حالة واحدة استثنائية لقطع رأس سلطان من السلاطين الذين حكموا مصر، وهو السلطان "طومان باى" الذي علقت رأسه على باب زويلة، بواسطة الجنود العثمانيين الذين غزوا مصر، وحولوها من سلطنة مستقلة إلى ولاية تابعة، رغم أن "طومان باي" قاومهم حتى اللحظات الأخيرة، ومُثلت هذه الواقعة أيام السلطان المنتصر سليم العثماني، عندما صنع المخايل ديكورًا يشبه باب زويلة، وصور إعدام السلطان طومان باى، وانقطاع الحبل به مرتين، فانشرح ابن عثمان لذلك وأنعم على المخايل بمائتي دينار، وألبسه قفطانا مخملًا مذهبًا، ودعاه إلى استامبول ليتفرج ابنه على ذلك.حسبما ذكر جمال الغيطاني في كتابه"ملامح القاهرة في ألف سنة".

وكان باب زويلة، يشهد تعليق رؤوس بعض الأمراء أحيانًا، كما حدث في شوال عام 818 هجريًا، عندما علقت رءوس بعض الأمراء الصغار الذين تآمروا مع الأمير قايتباي ضد السلطان المؤيد.

ويذكر المؤرخ إياس أن الأمير ططر، عين شخص اسمه صدر الدين العجمي في منصب الحسبة في محرم سنة 823 هجريًا وقاله:"لا تظلم أحدا من السوقة وإلا شنقك على باب زويلة".