رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

د. عمر الحسن يكتب: زايد الخير وإنجازات خالدة

د. عمر الحسن
د. عمر الحسن

يؤكد التاريخ الإنساني أن القادة الذين يصنعون فارقا في حياة شعوبهم وأمتهم لا يرحلون، حيث يرتبط تاريخ كثير من الدول والأمم بشخصيات مثلت آمالها وقادتها نحو التقدم والرقي. ومن أبرز هذه الشخصيات في عصرنا الحديث الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، القائد المؤسس لدولة الإمارات العربية المتحدة، أحد أبرز الشخصيات العربية والدولية خلال القرن الماضي، والذي استطاع أن يصنع من إمارات متفرقة دولة واحدة، حقق لها خلال سنوات قليلة صعودًا تنمويًا كبيرًا حتى صارت من أقوى اقتصادات الدول النامية.
لذا لم يكن من قبيل المصادفة أن يتزامن الاحتفال بالذكرى المئوية لمولد الشيخ زايد، وإعلان عام 2018 بأنه “عام زايد”، مع احتفال الإماراتيين باليوم الوطني الـ”47” لدولة الإمارات في الثاني من ديسمبر المقبل، حيث مثل ميلاد الرجل ميلاد دولة عصرية حديثة.
امتلك الشيخ زايد نظرة ثاقبة نحو المستقبل مكنته من وضع الأسس الصحيحة لتأسيس أول فيدرالية عربية حديثة تحت مسمى “دولة الإمارات العربية المتحدة” عام 1971، حيث كان يرى -رحمه الله- ضرورة وجود كيان اتحادي له ثقله ووزنه الإقليمي والدولي، واستطاع عبر أفكاره ورؤيته الواسعة من ايجاد ولاء لهذا الكيان، وترسيخ مفهوم الحقوق والواجبات لدى مواطني الدولة، لتصبح الإمارات فيما بعد مثالاً عربيا وإقليميا يحتذى به على كل الأصعدة، وكان ذلك بفضل امتلاكه مقومات الزعامة، التي امتلكها زعماء عاصروه، سواء من حيث امتلاك رؤية للمستقبل وكيفية تحقيقها، أو درايته بالبيئة المحيطة، محليًا وإقليميًا ودوليًا، أو سماته الشخصية، كتقديره السليم للمواقف، التعاون، احترام الآخر، وسعة الصدر، وعدم التدخل في شؤون الغير، وقدرته على التعامل مع الأفراد والجماعات في الداخل والخارج، وقدرته أيضًا الإقناعية والاتصالية والإدارية، والإبداع، وهو ما جعله يلقب بـ”حكيم العرب”.
منذ تسلّم الشيخ زايد مقاليد الحكم في الإمارات واجهت الدولة في عهده تحديات داخلية منها: تحديات الاتحاد، الصراعات القبلية، ندرة المياه، وتحدي التركيبة السكانية لصالح الوافدين الأجانب، والتحدي التنموي، وتحديات خارجية منها، إيران التي كانت تسعى لتصدير ثورتها، والحرب العراقية الإيرانية، والغزو العراقي للكويت، ثم الحرب الأميركية على العراق وغيرها.
ومع ذلك، لم تمنعه هذه التحديات من أن ينفذ رؤيته، بل زادته إصرار أكبر للنهوض ببلاده بأسرع وقتٍ ممكن للحاق بركب التطوّر الحضاري الّذي وصلت له الدول الأخرى، فأجرى رحلات طاف بها بعض دول العالم لتعزيز خبرته السياسيّة، والتعرّف على خبرات الآخرين في العيش والحكم، عاد منها عازما على بناء دولة عصرية؛ وحدث له ما أراد في صورة ما تبدو عليه الإمارات العربيّة المتحدة في يومنا هذا.
ومن خلال برنامج إصلاحي مدروس، واستخدام موارد أبوظبي النفطية، أمكنه تحقيق الكثير من الإصلاحات، وتطوير الكثير من القطاعات. وحظي الملف الاقتصادي باهتمام خاص، حيث عمل على تنويع الاقتصاد الإماراتي، حتى أصبحت القطاعات غير النفطية تحتل نحو60بالمئة من الناتج المحلي، وحققت ازدهارًا تجاريًّا بإنشاء عد د من المناطق الحرة، وعمل على تطوير قطاعات الزراعة والثروة السمكية والصناعات التحويلية، والاستثمارات الخارجية من خلال الصناديق السيادية، إذ بلغ حجم صندوق الثروة السيادية نحو 828 مليار دولار في العام 2017.
واهتم بالتنمية البشرية في مجالاتها المختلفة، فكان اهتمامه بالتعليم وتحقيق جودته، وزاد من عدد المدارس والكليات الجامعية، وشجع المرأة على التعلم. وفي مجال الصحة ارتفع عدد المستشفيات من 7 في 1971 إلى 75 في 2015، وعدد الأسرّة من 700 إلى 15730، وعدد المراكز الصحية من 12 إلى 82، كذلك أمّن لكل مواطن إماراتي سكنًا ووظيفة، وأنشأ العديد من المراكز لتأهيلهم وتدريبهم للالتحاق بوظائف تحقق لهم حياة كريمة.
وفي رؤيته لمستقبل بلاده، تبنى بناء الإنسان، ففيه يتم بناء الوطن “كما كان يقول”، فهو “الثروة الوطنية الحقيقية التي تفوق أهميتها النفط والمال”، وطوّر قدرات الإدارة الحكومية على أسس عصرية عملت على الانفتاح الاقتصادي وتحرير الأسواق. ومن خلال تنفيذ هذه الرؤية أصبحت الإمارات عضوًا فاعلاً في التكتلات والمنظمات الاقتصادية الدولية، حيث كان يؤمن أن التحركات السلمية ينبغي أن تستند إلى قوة، والقوة لديه هي بمعناها الشامل، “السياسي والاقتصادي والاجتماعي والعسكري”؛ لذا فقد تحرك في كل هذه المحاور بشكل متواز، لتحتل الإمارات بفضل ذلك مكانة متميزة على الخارطة العالمية.
ولم تكن آفاق رؤيته تقف عند حدود وطنه الإمارات، حيث أيقن بأهمية الجوار والأمن الإقليمي، واستضافت أول قمة خليجية أنشأت مجلس التعاون الخليجي عام 1981، كما وعي قيمة العمل العربي المشترك، فساند مختلف القضايا العربية العادلة. وطوال سنوات حكمه الـ34 لم تهتز ثقته بجدوى العمل العربي المشترك، وظل دومًا وفيًّا للعروبة، ولهذا كان يحذر دومًا من الخلافات العربية، ويعتبرها أخطر التحديات التي تواجه الأمن القومي العربي.
وكانت رؤيته تهدف إلى تعزيز التضامن العربي وتكامله، وصولاً إلى الوحدة، خصوصا أنه صاحب أنجح وحدة عربية، وهي اتحاد الإمارات السبع. وحدد الشيخ زايد ثوابت سياسته الخارجية وتوجهاتها بالقول: “علاقاتنا مع الدول العربية والإسلامية علاقة أخوة، ونتعامل مع هذه الدول معاملة الأخ لأخيه”. وانعكس هذا بدوره على السياسة الخارجية لدولة الإمارات، حيث أصبحت نصرة القضايا والمصالح العربية من الثوابت الأساسية لهذه السياسة.
وللشيخ زايد بصماته الواضحة في لمّ الشمل العربي، ونبذ الخلافات، ويكفي للدلالة على ذلك أن دولة الإمارات تربطها علاقات متميزة بكل الدول العربية، بفضل ما كان يتصف به من مصداقية وحنكة، ووسطية، فقد كان أول من طالب بضرورة عقد قمة عربية دورية منتظمة للتداول في شؤون الأمة، والأهم من هذا وذاك، وكما ذكرنا، فهو صاحب أول تجربة وحدوية عربية ناجحة.
وتجلت مواقفه عند اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975، حين أطلق نداءات ومبادرات جسدت حرصه المطلق على سلامة لبنان ووحدة أراضيه، ووقف إلى جانب العراق في حربه مع إيران. وفي حرب الخليج الثانية عام 1990، وقفت الإمارات إلى جانب الكويت، وشاركت بجيشها في تحريرها. وعندما اندلعت الحرب الأهلية في اليمن في مايو 1994، تحرك لوقف الاقتتال للحفاظ على وحدة اليمن، وكان يعارض السياسة الأميركية تجاه العراق، وبعد تحرير الكويت طالب أشقاءه قادة دول مجلس التعاون 1992 بضرورة التصالح مع العراق، خوفًا على وحدته، وحرصًا على شعبه، ولتلاشي أي فوضى أمنية تقع فيه، تطال دول الخليج، أو من هيمنة إيرانية تهدد استقرار المنطقة، أي أنه توقع أحداث ما بعد احتلال العراق عام 2003.
كما أن له مواقف مشرفة وسجلا حافلا في نصرة الشعب الفلسطيني، ودعم قضيته العادلة من خلال دعمه ماديا ومعنويا وسياسيا، وليس أدل من بناء مدينة الشيخ زايد في غزة، واستثمار علاقات بلاده مع الكثير من دول العالم لخدمة القضية الفلسطينية.
أما عن علاقته بمصر، فقد كانت ذات طابع مختلف، فقد كان يعتبرها مظلة العالم العربي وقيادته، وقال عنها: “نهضة مصر نهضة للعرب كلهم”، وأوصى أبنائي بأن يكونوا من بعدي إلى جانبها؛ فهي بالنسبة للعرب القلب، وإذا توقف القلب فلن يُكتب للعرب حياة”. وبهذا الإدراك، لم يترك موقفا داعما لها إلا وقف معها، تجسيدا لهذا الوعي السياسي. ولعل إطلاقه قولته الشهيرة “ليس المال بأغلى من الدم”، من العبارات التي لا تنسى خلال وقوفه إلى جانبها خلال حرب أكتوبر 1973.
وفي مؤتمرات القمة العربية كان له دومًا حضور مؤثر وفاعل في توحيد الصف العربي، والعمل على النهوض بالعالم العربي. وفي هذا السياق، إنشاء صندوق أبو ظبي للإنماء الاقتصادي العربي، وأظهر التقرير العربي الاقتصادي الموحد الصادر عام 2012، أن الإمارات قدمت 10.5يالمئة من حجم القروض الإنمائية العربية، وهي قروض ميسرة تقدمها للدول العربية والإسلامية.
ولطالما اشتهر بحبه للخير ومساعدته للفقراء في كل أنحاء العالم، ولم يكن تفكيره منحصرا داخل حدود دولته، بل امتدت انجازاته وأعماله خارج الدولة ليصبح رمزا عالميا للخير والعطاء، كيف لا وهو الذي أنفق مليارات الدولارات لمحاربة الفقر في نحو 40 دولة في كل أرجاء المعمورة. ولعل أكبر دليل على ذلك أن إطلاق تعبير “زايد الخير”، لم يأت من الداخل، بل جاء من جمهورية مصر العربية، تقديرا لمواقفه معها في أزمات مختلفة عاشتها.
ومن بعده سار أبناؤه على نهجه على كل الصعد، ما زاد الدولة سمعة دولية ومكانة عالمية؛ لتأتي الإمارات بفضل هذه السياسات في المقدمة في تقارير التنمية البشرية، والحكومة الإلكترونية، وتحتل المركز الـ”12″ عالميا في التنافسية، والأولى عالميا في الكفاءة الحكومية، والثانية عالميا في جذب الاستثمارات، والـ”14” عالميا في مؤشر السعادة والرضا بين الشعوب، ومن أولى دول العالم كأفضل واجهة لعمل الأجانب، وغدت ترتبط بأكثر من 75 اتفاقية منع ازدواج ضريبي، ونحو 50 اتفاقية لتشجيع الاستثمار، ونحو 168 اتفاقية نقل، مع الطفرة الكبيرة التي حققتها في البنية التحتية للنقل، وتوسع كبير في أسطولها التجاري الذي تصل سفنه وناقلاته وطائراته إلى موانئ العالم كافة، بل أصبحت الشركات الإماراتية تدير موانئ عالمية، ولها دور فاعل في المنظمات الدولية والإقليمية، الذي لا يقتصر فقط على تقديم المساعدات، بل المبادرة بتقديم مقترحات للتطوير والتحديث والحلول، وهي سياسة أرساها الشيخ زايد للتعاون مع دول العالم.
وعليه، تمر ذكرى رحيل، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، حاملة بين ثناياها سجلا حافلا بالعطاء والخير، ليس للإماراتيين والعرب فحسب، بل للإنسانية جمعاء، بعد إن استفاد من تجربة ثرية في حياة الصحراء التي أكسبته الحكمة والكرم والشهامة، فكانت هذه الصفات رصيدا في شخصية وظفها لخدمة قضايا وطنه وشعبه وأمته العربية والإسلامية، فسكن الوجدان والخاطر.
على العموم، ليست مناسبة مئوية الشيخ زايد وحدها، سببا للاحتفاء، فشعب الإمارات لا يحتاج إلى مناسبة وفاء وعرفانا، لهذا الرجل، فقد حمل له كل قلب ذكرى ستبقى خالدة للأبد، لكن المناسبة، نافذة يمكن النظر من خلالها إلى التجربة، نحو مزيد من اعتداد واعتزاز واجبين، فما حققه زايد الخير يندرج يقينا في الإعجاز أكثر منه في الإنجاز، بعد أن تحولت الإمارات من البداوة إلى الريادة، لتصبح دولة تحاكي الدول المتقدمة، ليلقبوه بـ”قاهر الصحراء”، بتحويله الرمال الصفراء إلى جنة خضراء.

رئيس مركز الخليج للدراسات الستراتيجية- لندن
وسفير الجامعة العربية سابقًا في لندن ودبلن

نشر أول مرة على موقع السياسة الكويتي بتاريخ 20 نوفمبر 2018.