رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الدين والفنون والعناد الإكليروسي !!


لا شك أن هناك ارتباط هام ووثيق بين الفن والدين في الأصل، فالفنون الجميلة التي يبدعها الإنسان عبر فعل إنساني هو منتجه ذات الصلة بالطبيعة أو المادة كالحجارة واللون والصوت..
أما الدين فهو " المقدس " الذي يشمل كل ما له صلة بالخالق العظيم، ويلتحم الدين والفن في الوعي الإنساني منذ حاول الإنسان التعبير عن نفسه من خلال أنشطة قصدية لا تتوجه بفعل الغريزة فحسب: فالإنسان البدائي ما قبل معرفة الأديان والعقائد قد وعي " المقدس " باعتباره قوة هائلة غامضة تتحكم في حياته ومصيره، ولذلك يشعر إزاءها بمشاعر متباينة ومتداخلة من الرهبة والروعة والإجلال. وهذا ما نشهده في الرسومات المنقوشة علي جدران الكهوف، وفي التمائم التي كان البدائي يصنعها والتي لا تزال تصنعها الشعوب والقبائل التي تحفظ تراثها البدائي.. كان الفنان يصارع قوى الطبيعة ومخلوقاتها، ثم يدلف إلى داخل الكهوف المعتمة ليوثق معاركه بإبداع عبقري في التعبير عن التفاصيل بدقة تبدو رائعة حتى لو كان بعضها متداخلًا رسوم فوق رسوم لظروف العتمة...
ومع ظهور المسيحية أصبحت الكاتدرائية هي أسلوب التعبير عن إحساس شعب ما بالعالم الإلهي، وهو أسلوب يختلف حتي داخل المعتقدات المسيحية المتنوعة التي تعبر عن نفسها في طرز معمارية مختلفة. تضم لوحات التصوير المسيحي في العصر الوسيط، التي تصور غالبا الروح المسيحية التي تعبر عن نفسها في حالة السكينة والطمأنينة كما تتجلي في وجوه وإيماءات العائلة المقدسة والقديسين..
يطلق مصطلح الفن القبطي على الفن الذي ابتكره المسيحيون في وادى النيل منذ عام 313 م حتى دخول العرب مصر عام 641.
كان التصوير الجدارى السائد في العصر القبطى يطبق الطريقة التي تواترت منذ أقدم العصور في مصر وهي التصوير بألوان الأكاسيد على الجدران المغطاة بطبقة من الجبس، ومنه انتشرت هذه الطريقة بين مسيحيي الشرق والغرب، وظل الأمر كذلك حتى بداية عصر النهضة. وقد وجه الأقباط عناية كبيرة إلى زخرفة الجدران والمحاريب الموجودة في الكنائس برسوم مستوحاة من قصص الأنبياء والأحداث الدينية، من بينها رسوم للسيدة العذراء والسيد المسيح، الملائكة، الرسل، القديسين، الشهداء، مواضيع من التوراة والانجيل.
يتميّز الفن القبطي بأنه: فن شعبي وليس فنا ملكيا أو امبراطوريا، إذ كان الشعب يشرف على فنه ويبدعه وينفق عليه من ماله الخاص بعيدا عن أى مساندة رسمية. فن ريفي نشأ تحت كنف الاضطهاد وبعيدًا عن أماكن الحكومة، لذا عكست الرسوم أشخاصا عاديين وحيواناتهم الأليفة التي تملا كل بيت ومناظر تمثل الحياة الريفية والشعبية البسيطة. فن ارتجالى بسيط لان الرهبان الذين كانوا يشرفون عليه لم تكن لهم دراية تامة من الناحية الفنية، وكانوا يرسمون في جو مشحون بالقلق بعيدًا عن الطمأنينة وراحة البال. اتسم باستخدام الهالة على رؤوس القديسين والشهداء أوالتاج أو الاثنين معًا. ابتعد عن محاكاة الطبيعة وتقليدها، وتمحورت الرسوم حول الرمزية وأظهرت مميزات الأشكال المرسومة.
أما الفنان القبطي فتميّز عن الفنان البيزنطي في رسم القديسين حولهم هالة من النور، في حين الفنان البيزنطي كان يرسم تاجًا على رؤوسهم. كذلك تميز الفنان القبطي في رسم القديس بفرح وألوان مشرقة، إذ يبرز الأبدية السعيدة التي نالها هذا القديس أو هذه القديسة.
ساد اعتقاد في البداية بأنه لا وجود لفن قبطى مستقل، والآثار المسيحية فى كنائس الأقباط وأديرتهم، هى بيزنطية يونانية، إلا أن العلامة ماسبيرو Maspero أول من لاحظ استقلال الفن القبطى عن سواه من الفنون الأخرى، وقد أجمع الباحثون والرحالة على ذلك، ولو تشابه هذا الفن فى القرون الثلاثة الميلادية الأولى مع الفن البيزنطى اليوناني، ويرجع ذلك إلى ارتباط الكنيسة القبطية مع الكنائس المسيحية عامة. ولكن منذ انفصال الكنيسة القبطية عن الكنائس الغربية بات لها وجود ذاتي مستقل وتخلص الأقباط من كل ما له علاقة بالفنون البيزنطية واليونانية، وعادوا إلى الصناعات المصرية الفرعونية مع إدخال تعديلات تتفق مع المعتقد الدينى المسيحى...
تلك اللمحات السريعة عن تاريخ الفنون القبطية، لا تنتسب إليها الأعمال الفنية والأيقونات والجداريات الحديثة داخل وخارج الكاتدرائية بالعباسية، والتي تم إنجازها على عجل وبدون تخطيط علمي ولا مراعاة للقيمة الروحية والوطنية لهذا المبنى الذي يمثل وجوده وجود حضارة قديمة عبقرية وبيت عبادة رئيسي ومركزي لملايين الأقباط الأرثوذكس في العالم..
عندما تم الإعلان عن بداية مشروع استكمال كل الأعمال الإنشائية والفنية والجداريات والأيقونات، بدأت الحكاية بإعلان غريب، يدرك من يقرأه من المبدعين أننا لابد وأن نصل إلى تلك النتيجة الغير لائقة وغير مناسبة لمكانة ذلك الصرح الديني العالمي والروحي..للاعتبارات التالية:
• كان من المفروض أن يعلن عن مسابقة عالمية بين بيوت العمارة والفنون المسيحية ذات العلاقة وليست مسابقة محلية !!!
• شرط أن يكون الفنان المشارك مسيحي الديانة أمر غريب ويتسم بضيق الأفق، ومن المعروف أن لدينا فنانين عالميين مسلمي الديانة ولهم إسهامات رائعة في عدد من كنائسنا !!!!
• كنت أتصور دعوة كبار فنانينا لوضع شروط المسابقة والتخطيط لخطوات العمل في ذلك المشروع الضخم، ولكن للأسف تم استبعاد أسماء لفنانين كبار !!!
• كنت أتصور أن يتم الاتفاق على تخطيط شامل وتصميم متكامل، وعليه يكون الفنان المنفذ مجرد عضو في فريق عمل يعزف أجزاء من ذلك العمل الفني الكامل وفق رؤية شاملة، أما تقسيم المساحات وفق نظرية " المقطوعية " بين الفنانين فتلك كارثة كشفت عن مناطق منفصلة ليس بينها هارموني.. لا تجانس لوني ولا توحد في سبل الأداء وجميعها يفتقد الرؤية القبطية.. وعلى رأي فنانة انسحبت من العمل قبل أن يخنقها الإحساس بتأنيب الضمير، فقد وصفت ما حدث أنه " طبق سلطة ".. طبعًا طبق سلطة وردئ..
• إن تصور رجال الإكليروس أن العمل ينبغي أن يتماهى مع أسس الإنشاء الحكومية، وأنه لا مانع من توثيق وجود القادة والرؤساء بصورهم حكاية عجيبة وغير مسبوقة.. فالقداسة التي يمنحها المجمع المقدس لقديس ما الذي تخصص له أيقونة يكون بقرار وبعد مرور 50 سنة على وفاته ولا إيه، أم علمونا ذلك وتم التطوير ؟!!!
• معقول تكون كل الآيات المستخدمة لتكون مكملة للعمل الفني مكتوبة بخطوط آلية كمبيوترية بشعة غير منسجمة...منسجمة مع ماذا ؟ ما هو كله مش مفهوم وكله مقطوعيات وتنافرات، وفرح العمدة، وزحمة غير مبررة على طريقة أداء أثرياء الحرب ؟!!
• هل يمكن أن نرسم صورة السيد المسيح وهو يقرع الباب على يسار ويمين المدخل العام ما يحمل معنى أن السيد المسيح خارج ذلك المبنى الروحي العتيق ولا يسكنه كما علمونا في مدارس الأحد صغارًا !!
وإذا كان يوم الهجوم على الكاتدرائية من جانب جماعات التشدد يوم صعب جدًا في معناه ورسالته، فيوم اكتمال ذلك المهرجان الاحتفالي أيضًا من أصعب الأيام التى أحزنتني... أما عن التعرض للجوانب السلبية الفنية والروحية بالتفصيل فللمقال تتمة في عدد قادم..