رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

السندريلا الأولى.. حكايات ليلى مراد مع الملك فاروق وثورة يوليو وأكاذيب إسرائيل


عرفنا أحداث ثورة ١٩١٩ من التليفزيون، والأفلام القديمة، وظلت صورة العلم فى أذهاننا تحمل «الهلال» مع «الصليب»، ولسبب مجهول لم يستوقفنا وجود «نجمة داوود» أيضًا.. نعم «نجمة داوود»، فاليهود فى مصر وقتها كان عددهم يزيد على ٦٠ ألف نسمة، ومن بينهم زكى مراد.
اسمه الحقيقى زكى موردخاى.. ابن تلك الأسرة اليهودية التى عاشت فى الإسكندرية تتاجر فى الأقمشة، لكنه هجر التطريز إلى تخت عبده الحامولى الذى سجل له أول ألحانه «أراك عصى الدمع»، فهل يجوز ونحن نتحدث عن «عالم السياسة والأغنية» أن نمضى دون أن نتوقف عندها؟! أظن- وبعض الظن ليس إثمًا- أنه لا يجوز، نفس القصيدة التى غنتها أم كلثوم بلحن مختلف فيما بعد من أشعار أبى فراس الحمدانى.
وزكى هذا هو نفسه الذى جاءوا به نجمًا لأوبريت «العشرة الطيبة»، وهو نفسه الرجل الذى أنجب من اليهودية البولندية جميلة ٥ مطربين، هم ملك التى هاجرت لتغنى للجالية الأمريكية، وشقيقتها سميحة التى لحقت بها بعد مشاركة محدودة فى فيلم سينمائى واحد، وطبعًا منير مراد، وشقيقه إبراهيم الذى هجر الغناء وعمل مساعدًا للفنان أنور وجدى، بجانب ليليان التى أصبح اسمها فيما بعد ليلى مراد، وتحل هذه الأيام الذكرى الـ٢٣ لرحيل جسدها.

زفاف شقيق مكرم عبيد أدخلها «عالم الباشوات» وسحرت السلطان بـ«يا ريتنى أنسى الحب يا ريت»

تاريخ ميلاد ليلى الثابت فى آخر جواز سفر استخرجته من القاهرة وسافرت به إلى أبوظبى عام ١٩٧٨، لتسجل وتصور آخر أغنياتها مع بليغ حمدى «مسا الجمال على حبايبنا»- وهى نفس الأغنية التى غنتها لطيفة فيما بعد، بعد استبدال كلمات اللحن- يقر بأنها من مواليد ١٩١٨.
هذه الحنجرة التى وصفها بليغ بأنها «جزيرة الفضة» هى نفسها التى صارت أقرب المطربات إلى قلب الملك فاروق، رغم أنها لم تغن له سوى مرتين بشكل رسمى، وكانت تغنى له وحده يوميًا، ولسنوات طويلة، فى جميع استراحات المملكة.
ليلى مراد هى نفسها الطفلة الفقيرة التى عانت من غياب والدها زكى مراد، المطرب المهووس بالخمر والسفر، والذى ترك عائلته بلا مأوى ولا مقام ليهاجر فى رحلة قدر لها أيام فلم يعد سوى بعد ٤ سنوات، جربت خلالها الأسرة كل ألوان الحرمان.
هى نفس الطفلة الرقيقة النحيلة التى حاول «أمير» صعيدى أن «يسطو على طفولتها» فى قصره المهيب فى عز أيام الملكية، فقررت أن تكون المطربة التى يجرى خلفها كل الباشوات. ليلى مراد المصرية اليهودية التى أشهرت إسلامها بإرادتها، فلم يشأ «أبناء إسرائيل» التنازل عنها وعن صوتها، فظلوا لسنوات «يتمحكون» فى يهوديتها.
ليلى مراد التى نامت فى «ناموسية» فاروق وأعلنت ولاءها لمحمد نجيب، فعاقبها «رجال عبدالناصر» بتأميم صوتها ٢٠ سنة كاملة، مثلها مثل شركة محمد فوزى التى أصبحت فيما بعد «صوت القاهرة».
ليلى مراد أول مصرية يلقبونها بـ«السندريلا» قبل أن تولد سعاد حسنى، وأول مطربة تعرف طريق الميكروفونات وتهجر الحفلات المباشرة، ورغم ذلك تظل نجمة أولى لشباك السينما ٢٠ سنة كاملة.
هى ليست ليلى واحدة.. قطعًا.. فالسياسة التى لم تكن تعرف لها عنوانًا طاردتها منذ لحظة ميلادها، وحتى فيما بعد رحيلها.
فى عام ١٩٣٤ أغلقت الحكومة المصرية الإذاعات الأهلية، وأعلنت إنشاء إذاعة رسمية أطلق عليها «الإذاعة اللاسلكية للحكومة المصرية».. وانتشر الراديو، ذلك الجهاز الساحر فى كل ربوع مصر.. ومن خلاله عرف الناس ليلى مراد. ولم يمر سوى سنتين حتى كانت السينما تناديها عن طريق محمد عبدالوهاب الذى اختارها بطلة لفيلمه الثالث «يحيا الحب».
قبل أن تدخل ليلى الاستديو لتصوير «يحيا الحب»، أحيت فرحًا كان هو الأشهر فى دنيا أهل السياسة وقتها، وتحدثت مصر عنه لفترة طويلة حسب «صالح مرسى» فى كتابه عن ليلى مراد.
أما صاحب الفرح فكان هو الزعيم الوفدى الراحل مكرم عبيد، والعريس شقيقه، والمطرب المختار لإحياء الليلة محمد عبدالوهاب الذى قرر أن يقدم نجمة فيلمه لعالم السياسة بمشاركته فى إحياء الفرح، لكن مكرم عبيد تردد كثيرًا فى قبول الفكرة، لأنه لم يكن قد سمع ليلى مراد من ناحية، ومن ناحية أخرى لم يكن مستحبًا أن تحيى مطربة فرحًا يحضره كل هؤلاء الرجال الكبار.
لكن هذا ما حدث، «وتجلت الساحرة» فصارت هدفًا من ليلتها لكل باشوات ذلك العصر، وقبل وبعد كل هؤلاء يأتى فاروق.. جلالة الملك فاروق.
فى مذكراته عن «ملك النهاية» يكشف كريم ثابت شيئًا مثيرًا: «فاروق لا يشرب!!» هذا ما كتبه الرجل الذى عاشره لـ١٠ سنوات، وأضاف «ولا أرجع إعراضه عن الخمر إلى فضيلة، أو إلى حرص على مظهر، وإنما أعزوه إلى سبب بسيط جدًا وهو أنه لا يحب الخمر ولا يجد لذة فى احتسائها!».
وبعيدًا عن حقيقة شرب فاروق الخمر من عدمه، إلا أن نزواته وغزواته النسائية وما قيل فى لياليها كانت حاضرة فى ذهن ليلى مراد التى فوجئت ذات صباح بمن يستدعيها لتغنى فى حضرة الملك.
كان الضيف قد حل ومصر كلها- باعتبار أن مصر وقتها لم تكن سوى مطية لشوية باشوات- فى الإسكندرية، وطبيعى جدًا أن تقضى ليلى مراد الصيف هناك، فى فندق شهير يطل على البحر، وعلى مسافة قريبة من نفس الفندق الذى كان فاروق يسهر به ووجد من يمدح صوتها فقرر أن تغنى له.. لكن بمفرده.
وفى سراى رأس التين جلست ليلى تغنى وهى ترتدى أغلى ما تملك من ملابس ومجوهرات. كانت فى قمة بهائها وحسنها. ارتبكت قليلًا وهى تشاهد الأميرة فاطمة طوسون، لكن الذى «لوى عنقها»، حسب تعبير صالح مرسى، كان رئيس الديوان أحمد حسانين باشا، فوحده من بدد ارتباكها بعد أن حدثها عن أغنياتها، وطلب منها أن تغنى «يا ريتنى أنسى الحب يا ريت».
بلا تخت أو فرقة غنت ليلى الأغنية التى طلبها رئيس الديوان، ولم تكن تعرف أنها الأغنية التى يدمنها الملك الذى صار «صديقًا» ينصحها بأن تجنى «ثروة» مثلما يحدثها عن عبدالوهاب الذى يكرهه، والذى قرر قتله بعد أن سمع ليلى مراد تغنى «أنشودة الفن» وفيها مدح عبدالوهاب له. قرر أن يقتل عبدالوهاب لأن ليلى أطربته ولم يفعل عبدالوهاب ذلك، ولم تتحول الصداقة إلى حب، لأنها كانت تعرف علاقته بالنساء ولأنها تزوجت من أنور وجدى.

هاجمت فاروق بعد «52».. وقدمت أوبريت مأساة فلسطين قبل «حرب 48» بسنتين!

نجت ليلى مراد التى لم تكمل تعليمها من «براثن الملك»، لكنها لم تنج من وصمها بموالاته والقرب منه، ولم يصدقها «ثوار يوليو» عندما وصفته فى مقال موقع منها نشرته مجلة «الكواكب» بعد ٦ سنوات من قيام «يوليو ١٩٥٢» بأنه «حين كنا نضطر فى الماضى للسفر خارج مصر.. كنا نشعر بخجل شديد حين نذكر جنسيتنا.. ذلك أننا لم نكن نتصفح جريدة أو مجلة أجنبية إلا وتطالعنا فيها فضائح ومآخذ على الملك السابق.. وكان الأجانب يعايروننا بأننا نقبل أن يظل بأرضنا مثل هذا الرجل!».
ليس هذا فقط، بل إنها تتغزل فى كلمات أغنيتها الأولى للثورة فى حوار نقله عادل حسنين فى كتابه عنها: «لقد قرأت كلماتها قبل أن أسمع لحنها، فخيل إلىّ أن الكلمات لحن وحده، وأن اللحن سطور تريد هذه الأغنية.. وهذا الفنان هو الأستاذ مدحت عاصم».
أما الأغنية التى تتحدث عنها ليلى مراد فهى أولى أغنيات يوليو، والتى كانت تتحدث عن الشعار الذى أطلقه محمد نجيب «الاتحاد والنظام والعمل».. وقد أسموها «على الله القوى الاعتماد»
على الإله القوى الاعتماد
بالنظام والعمل والاتحاد
فانهضى يا مصر يا خير البلاد
واصعدى للمجد وامضى للرشاد
جيشنا وشعبنا.. كلنا شعارنا
إن دعا النداء.. نبذل الدماء
للوطن فداء..
للأمام.. للأمام..
فى الحروب والسلام.. إلخ
ولم تكن هى الأغنية الوحيدة التى غنتها ليلى مراد للثورة، فقد غنت من كلمات بيرم التونسى فى فيلم «سيدة القطار» الذى أخرجه يوسف شاهين للعمال «دور يا موتور» من ألحان حسين جنيد، وعام ١٩٥٤ فى فيلم «الحياة الحب» غنت من ألحان عبدالوهاب وكلمات على نجيب فى السياق ذاته، كما قدمت أوبريت فلسطين الأسيرة.
الأوبريت الذى يحمل «مأساة فلسطين» عرض فى فيلم «شادية الوادى» (١٩٤٧)، وهو ما يعنى أن الأوبريت تم تأليفه وتلحينه وتصويره ومونتاجه وإعداده للعرض قبل أن تحدث حرب فلسطين بعامين! فكيف يمكننا استنتاج أنه تنبأ بها أو أنه يتحدث عنها؟!
الغريب أنه لا علاقة لـ«الأوبريت» بأحداث الفيلم، وقد تم حشره فيه عنوة، فالفيلم يتحدث عن «أسطورة بجماليون» فيحكى عن بائعة فجل صنع منها فنان مشهور نجمة فى عالم السينما وجعلها سيدة مجتمع معروفة.. فما علاقة «بجماليون» بمأساة فلسطين؟ وما علاقة ليلى مراد أصلًا بفلسطين؟
يذكر البعض أن ليلى مراد تبرعت بـ١٠٠جنيه هى وزوجها أنور وجدى لدعم المتطوعين فى الحرب، لكن أحدًا لم يرصد أى حديث لها عن «الحرب»، ولا عن احتلال فلسطين، وهو أمر بديهى لسيدة ظلت أسرتها تطاردها لآخر لحظة فى حياتها لمحو فكرة أنها تخلت عن «يهوديتها».
المهم أن الاستعراض الذى يعتبره أشرف غريب «أوبرا» كتبه أحمد رامى، ولحنه رياض السنباطى، يقول فى أحد مقاطعه:
شعب فاروق العظيم
قدموا عون الكريم..
فترد مصر:
من ضفاف النيل جئنا
فى عداد الأوفياء..
ننصر الحق.. ونفدى
من دعانا للفداء
وبعيدًا عن كون شاعرنا أحمد رامى يحيلنا كشعب وينسبنا إلى فاروق لنصبح «شعب فاروق» الذى ورثنا عن أهله.. تحتاج قصة ذلك الاستعراض إلى استقصاء يكشف لنا سر حشره فى فيلم «شادية الوادى».

تل أبيب تغتالها بشائعتى التبرع لـ«الموساد» وتراتيل «عيد الغفران»

مؤخرًا نشرت صفحة «إسرائيل فى مصر» (صفحة رسمية تتبع السفارة الإسرائيلية فى مصر) تسجيلًا صوتيًا نادرًا نسبته إلى ليلى مراد تغنى فيه بالعبرية «تراتيل صلاة عيد الغفران»، لكن من يستمع للتسجيل سيدرك أنه لم يكن صوتها، بل هو صوت والدها زكى مراد، وأن وجود ليلى فى التسجيل لم يتعد كونه أحد أفراد «الكورال».
ولم تكن قصة هذا التسجيل الذى ظهر فى ٢٨ سبتمبر ٢٠٠٩، وقال ناقد إسرائيلى إنه يعود لعام ١٩٣٠، هى المحاولة الأولى لإسرائيليين فى نسب «ليلى» لهذه الدولة التى اغتصبت بلدًا بكامله فكيف لا تغتصب صوت «جزيرة الفضة»؟
المحاولة الأصعب فى حياة ليلى مراد كانت عام ١٩٥٢ عندما قررت إذاعة سوريا وحكومتها منع كل أعمال ليلى مراد لأنها تبرعت لـ«الموساد»، وفعلت «جزيرة الفضة» المستحيل لتثبت بالوثائق أن ما نسب إليها غير صحيح واستعانت بشهادة تحركاتها فى فرنسا وبالسفارة المصرية، وحقق معها مرتين فى «مجلس قيادة الثورة»، وانتهى الأمر وقتها بزواجها من أحد الضباط الأحرار: وجيه أباظة والد ابنها أشرف.
ورغم مرور كل تلك السنوات.. تظل التهمة تلاحقها.. كما سيظل «طيف فاروق» حاضرًا فى مسيرتها.. ولن يبتعد «ثوار يوليو» كثيرًا عن مزاحمة الملك.. واليهود.. وإسرائيل فى حنجرتها.. وسنبقى وحدنا لا نتذكر ذلك كله.. فقط نغنى معها.