رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

قبل أن ينفد رصيد الصبر في صدور الغلابة


في الطابور الطويل، عند مكتب صرف المعاشات لكبار السن، ومن خرجوا إلى التقاعد عن أعمالهم، راح الرجل المسن يسأل الواقفين، عمن يريد أن يشاركه في شراء شريط دواء لعلاج السكر، مناصفة معه، بعد صرف قيمة المعاش، لأنه لا يقدر على شرائه كاملًا، والصيدلي لا يوافق على بيع أقل من هذا الشريط!.. ذهب الشاب المرافق لي، ووقف إلى جانبه، وراح يحدثه بصوت خفيض: «يا عم، أعرف صيدلي يبيع هذا الدواء بسعر مُخفض، وممكن أن يصرفه لنا مجانًا.. فهل ترافقني بعد صرف معاشك لنذهب إليه؟».. انفعل الرجل العجوز غاضبًا: «أنا لا أتسول، ولا أقبل صدقة من أحد.. خدمت بلدي لأربعين عامًا، لم أنحني خلالها لغير الله، ولن أقبل إحسانًا من مخلوق، وأستطيع أن أدبر نفسي بهذه الكمية من الدواء، وبدلًا من تناول قرصًا كل يوم، أتناوله يومًا بعد يوم.. لا تُشغل بالك بي»!.. قالها الرجل، وانتحي جانبًا، في انتظار الرجل الوحيد الذي وافق على مشاركته في شريط علاج السكر، وترك الشاب يسأل نفسه عن الغد الذي ينتظره في قابل الأيام، وهل سيأتي اليوم الذي يمكن أن يقف فيه موقف هذا الرجل؟!.. سرت رعشة خفيفة في جسده، وراح يسأل الله العفو والعافية، ويستعيذ به من غلبة الدين وقهر الرجال.

وقفت أنا أتأمل حال تلك السيدة التي أنجبت أربعة من الشباب، يخدمون بلادهم بجد وإخلاص، في وظائف حيوية، رباهم أبوهم على طهارة اليد وعفة النفس، فصاروا يمضون شهرهم في أعمالهم، ويتصرفون فيما يتقاضونه عند آخره بما يكفي حاجاتهم، وما نقص عليهم من مال، يعوضه أبيهم، الذي خرج هو أيضًا إلى التقاعد، وانخفض دخله، ومازال يحمل أعباء الأب المسئول عن سلامة وحماية أمانة أولاده من الانهيار عند لحظة ضعف إنساني.. تسأله زوجته: «ولدك الثاني صار رائدًا في الشرطة، ومازلت تُكمل له مصروف شهره، وهو لم يتزوج بعد.. هل يصح هذا؟، لماذا لا تكفي نفسك مؤنة دعمه في مصروفه؟».. «كلما سألني ابني مساعدته ماليًا لكفاية شهره، كلما اطمأننت أنه بخير، وأنه مازال على عهدي معه، ولم يحنث بقسمه لي، يوم تخرجه، بأن لا يظلم، ولا يفجُر، ولا يمدُن يده إلى حرام.. ففي اليوم الذي لن يسألني فيه ابني دعمًا ماليًا، سيساورني القلق، وأسأل نفسي، عن المصدر الذي وصل به ابني حد كفاية نفسه بنفسه، دون مساعدة مني.. الحمد لله على نعمة الأمان مع النفس، وصلاح الأبناء».. قالها الرجل لزوجته، ردًا على سؤالها، والفخر ينتابه بأنه أحسن تربية أبنائه، وأن الله أكرمه فيهم، بأن منع عنهم السوء والعوج، ومنّ عليهم بنعمة الهُدي وصلاح الدين.

هذه السيدة، التي قضى زوجها أكثر من ثلثي عمره، عاملًا متفانيًا في خدمة بلاده، ووصل إلى التقاعد وهو خالي الوفاض من أية ثروة، شأن من حققوا ثروات طائلة من وراء عملهم في الصحافة والإعلام، لأن ما كان يأتي، كان يكفي عيشة كريمة بلا عوز، والفرق بين راتبه ومعاشه بدا رهيبًا، ولدرجة مرعبة.. تحتاج هذه السيدة إلى تغيير مفصل لركبتها، بعد أن أتى على عظامها مرض الروماتويد، وصدر لها قرار المجالس الطبية المتخصصة بتحمل الدولة ربع قيمة ثمن المفصل وحده، دون بقية تكاليف جراحة زراعته، وعليها وأسرتها أن يتكفلون ببقية المطلوب.. وقبل أكثر من عامين، وهي تنتظر حلًا لمشكلة، أعطى لها الكل، أذنًا من طين وأخرى من عجين، فلا معهد ناصر بالموافق على قيمة قرار العلاج، والا المجالس الطبية بالراغبة في رفع القيمة إلى حدها المطلوب، ودائرة مغلقة ليس منها خروج، والسيدة مازالت تتنقل في بيتها على كرسي متحرك، ولا ترى للشارع نورًا منذ أعوام.. وما تراه أمامها، تصريحات وردية ووعود متفائلة، والواقع أمر من وصفه في كلمات، وقد حان وقت الاعتراف بأن هناك تقصيرًا من وزارة الصحة، وانهيارًا في العلاج على نفقة الدولة، لأن «المريض لا يحب أن يدفع مليمًا واحدًا عند العلاج على نفقة الدولة»، وهذا الكلام بين نصين، ليس من عندياتي، بل هو عين ما قاله أعضاء لجنة الخطة والموازنة بالبرلمان!.

فهل بيننا من يسحب هذا البلد إلى الوراء؟،، سوال يبدو ساذجًا.. لأن الواقع يُدلل على أن هناك من يُمسك بتلابيب هذا البلد، يريد تعريته، وتعويق حركته، وبدلًا من سحبه إلى الوراء فقط، فإنه يحاول طرحه أرضًا، لعل هؤلاء يُجهزون على البلد بسكين أنانيتهم، وأطماعهم الوضيعة.. فينا من ينتصر للمحسوبية والمعرفة، ويضرب بمصالح الناس عرض الحائط،، بيننا من يود لو أفسد العلاقة بين المواطن وبين الرجل الذي يود لو رأي كل مواطن على أرض مصر، صحيحًا معافًا، ليس يشكو من علة ولا ترهقه أوجاع.. الرجل الذي أطلق حملته القومية لمسح والعلاج الشامل لفيرس سي بإجمالي ٤٥ مليون مواطن، بالاشتراك مع كبرى الشركات الدوائية، خلال عامين، لبناء الإنسان المصري بدنيًا، وإعادة فاعليته وحيويته، وإطلاق طاقاته في خطة التنمية، وتجهيزه هدفًا سليمًا صحيحًا للاستمتاع بثمارها، ولذا فقد أمر بإطلاق المرحلة الأولى لتنفيذ قانون التأمين الصحي الشامل، بجدول زمني محدد، يشمل القضاء على قوائم الانتظار للمرضى بالجراحات والتدخلات الطبية الحرجة خلال ستة أشهر، وإطلاق مشروع تطوير المستشفيات النموذجية بجميع محافظات مصر، وتوفير المخزون الاستراتيجي من ألبان الأطفال والأمصال واللقاحات.. فهل كان المسئولون على قدر مسئولية الرئيس، وبحجم طموحه إلى ما يسعد المواطن المصري؟.

غير بعيد عن هؤلاء الذين يجرون البلاد إلى الوراء، أصحاب شركات الأدوية، المافيا المُسلطة على أبدان المصريين.. فكل يوم، أسعار أدويتهم في شأن، ليس عليها من رقيب، وليس عليهم من حسيب، والمواطن مُخير، بين دفع الزيادة المضطردة في أسعار الأدوية، وبين ترك المرض ينهش في جسده، وليس لهذه المشكلة من دون الله كاشفًا لها، بعد أن سيطر السُعار على الأسعار، وأصبح الحال في فوضى عارمة، فمعدل التنمية في ارتفاع معقول، وأسعار الدولار تعيش حالة ثبات نوعي، فما المبرر وراء الارتفاع المتزايد للأسعار يومًا بعد يوم، وكأن هؤلاء (التجار)، ما أن يطمئنوا إلى أن المريض قد وافق على زيادة طرأت على الأسعار، إلا ويتبعونها بأخرى أنكى من سابقتها.. والمسكين لا حول له ولا قوة، لأن الرقابة غائبة والضمير شبع موتًا، والجشع ناشبٌ مخالبه في أعناق الرجال التي كلت، وانحنت من وطأة ما تعانيه.

نحن في حاجة إلى رؤية رأس الذئب الطائر، لعل بقية الذئاب تدخل جحورها، وتكفي الناس شرها.. وليت القائمين على أمر معاشات رجال مصر الذين خدموها، أن يتقوا الله في وطنهم، ويعطوا كل صاحب حق حقه، فيما هو له من علاوات لم تُضاف في حينها إلى أساسي المعاش.. ولأن الضغط يولد الانفجار، فندعو الله أن يكفيكم شر يوم مستطير، لن تنفع معه شفاعة الشافعين.. اللهم هل بلغت، اللهم فاشهد.. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.