رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

"الدستور" تنشر أوراق ووثائق معركة "الإسلام هو القرآن وحده"

جريدة الدستور

- شيخ الأزهر أعاد الحديث عنها فى الاحتفال بالمولد النبوى
- د. محمد توفيق يفجر القنبلة: ليس على المسلم إلا أن يطالع كتاب الله
محمد توفيق صدقى: ما زاد من السنة عن الكتاب إن شئنا عملنا به وإن شئنا تركناه.. وما فيها من الحكم نقبلها على العين والرأس
صدقى: على المسلم أن يستنتج جميع ما يجب عليه فى دينه ودنياه بعد مطالعة القرآن الكريم


فى كلمته خلال الاحتفال بالمولد النبوى الشريف الذى أقامته وزارة الأوقاف، أمس الأول، أعاد الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، التذكير بمعركة عمرها ١١٢ عامًا بالتمام والكمال.
كان الإمام الأكبر يتحدث عن «قيمة السُنة النبوية» المصدر الثانى من مصادر التشريع فى الإسلام، فهاجم «الصيحات التى دأبت على التشكيك فى قيمة السُنة النبوية وفى ثبوتها»، منددًا بـ«المطالبة باستبعاد السُنة من دائرة التشريع والأحكام والاعتماد على القرآن الكريم وحده فى كل ما يأتيه المسلم من عبادات ومعاملات».
جاء الشيخ الطيب على «سيرة القرآنيين» بعنف فذكر أن «هذه الدعوة بدأت من الهند فى بداية القرن العشرين.. ثم ما لبثت الفتنة أن انتقلت إلى مصر وتعصب لها طبيب بسجن طرة نشر مقالتين فى مجلة (المنار) بعنوان (الإسلام هو القرآن وحده) ولقيت فكرته دعمًا من بعض الكتّاب المتربصين بالسُنة النبوية وهؤلاء على اختلاف أماكنهم وأزمانهم وتباينات أذواقهم يجمعهم قاسم مشترك واحد هو الشك والريبة فى رواة الأحاديث».
إلى هنا ينتهى حديث الإمام الأكبر، أما القصة وراء حديثه فتستحق أن تروى.
فى عام ١٩٠٦ طرح طبيب مصرى، كان يعمل بسجن طرة، مهتمًا بالبحث فى مجال الدراسات الدينية، وهو د. محمد توفيق صدقى- فكرته التى تقوم على أن السُنة ليست من أصول الدين، وأن المسلم ملزم باتباع ما جاء به القرآن الكريم فقط دون الالتزام بالسُنة النبوية والأحاديث.
كانت مجلة «المنار» لصاحبها ومؤسسها المفكر الإسلامى الكبير محمد رشيد رضا، هى ساحة المعركة التى بدأت بمقال نشره د. محمد توفيق بعنوان «الإسلام هو القرآن وحده»، وقد نُشر فى المجلد التاسع من المجلة، مصحوبًا بدعوة من «المنار» لعلماء الأزهر وغيرهم إلى بيان الحق فى هذه المسألة بالدلائل.
وقد اكتسبت هذه الدعوة قيمتها مما كتبه د. توفيق فى نهاية مقاله «هذه أفكارى فى هذه المواضيع أعرضها على عقلاء المسلمين وعلمائهم وأرجو ممن يعتقد أننى فى ضلال أن يرشدنى إلى الحق، وإلا كان عند الله آثمًا».
كان أن تصدى لـ«دعوة توفيق» الشيخ طه البشرى، وهو من علماء الأزهر، ونجل الشيخ سليم البشرى، الذى كان شيخ الجامع الأزهر رئيس المعاهد العلمية الدينية بمصر فى ذلك العهد - فكتب مقالًا تحت عنوان «أصول الإسلام.. الكتاب، السُنة، الإجماع، القياس» نشر فى المجلد التاسع نفسه، ومقالًا آخر عنوانه «الدين والعقل».
ثم رد د. توفيق على الشيخ البشرى فى رسالة عنوانها «الإسلام هو القرآن وحده- رد لرد» نشرت فى المجلد التاسع أيضًا.
ثم كان أن دخل الشيخ رشيد المعركة بتعليق على رسالة د. توفيق تحت عنوان «الإسلام هو القرآن والسُنة».
اقتنع د. توفيق بخطأ فكرته فكتب رسالة مختصرة عنوانها «أصول الإسلام- كلمة إنصاف واعتراف» نشرت فى المجلد العاشر من مجلة «المنار» صرح فيها بأنه ارتكب الشطط، حيث قال: «أنا أعترف بخطئى هذا على رءوس الأشهاد، وأستغفر الله مما قلته أو كتبته فى ذلك وأسأله الصيانة عن الوقوع فى مثل هذا الخطأ مرة أخرى، وأصرح بأن اعتقادى الذى ظهر لى من هذا البحث بعد طول التفكر والتدبر، هو أن الإسلام هو القرآن وما أجمع عليه السلف والخلف من المسلمين عملًا واعتقادًا أنه دين واجب، وبعبارة أخرى أن أصلى الإسلام اللذين عليهما بنى، هما الكتاب والسُنة النبوية بمعناها عند السلف».. تعالوا معًا نقرأ فى فصول هذه المعركة.

الأحاديث لم يكتب منها شىء إلا بعد عهد الرسول بمدة تكفى لأن يحصل فيها كثير من التلاعب

هذا عنوان مقال لى جديد، أريد أن أفصح فيه عن رأى أبديه لعلماء المسلمين، المحققين منهم لا المقلدين، حتى إذا ما كنت مخطئا أرشدونى، وإذا ما كنت مصيبًا أيدونى، وبشىء من علمهم أمدونى، فإنى لست ممن يهوى الإقامة على الضلال، ولا ممن يلتذّ بحديث مع الجهال، فلذا أجهد النفس فى تحقيق الحق وتمحيصه، والإسراع إليه إذا ما بدا لى بارق من بصيصه، وها أنا ذا أشرع فى إيضاح المقصود بالتدقيق، راجيًا من الله التوفيق، للهداية إلى أقوم طريق فأقول: لا خلاف بين أحد من المسلمين، فى أن متن القرآن الشريف مقطوع به؛ لأنه منقول عن النبى صلى الله عليه وسلم باللفظ بدون زيادة ولا نقصان، ومكتوب فى عصره بأمر منه عليه السلام، بخلاف الأحاديث النبوية فلم يكتب منها شىء مطلقًا إلا بعد عهده بمدة تكفى لأن يحصل فيها من التلاعب والفساد ما قد حصل، ومن ذلك نعلم أن النبى عليه السلام لم يرد أن يبلغ عنه للعالمين شىء بالكتابة سوى القرآن الشريف الذى تكفل الله تعالى بحفظه فى قوله جل شأنه: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ» (الحجر: ٩) فلو كان غير القرآن ضروريًا فى الدين لأَمَرَ النبى بتقييده كتابة ولتكفل الله تعالى بحفظه، ولما جاز لأحد روايته أحيانًا على حسب ما أداه إليه فهمه.
فإنْ قيل: إن النبى لم يأمر بكتابة كلامه لئلا يلتبس بكلام الله، قلت: وكيف ذلك والقرآن معجز بنظمه ولا يمكن لبشر الإتيان بمثله ولِمَ لَمْ يضمن ما فى الأحاديث من الواجبات كما ضمن ما فى القرآن حتى نأمن عليه من التغيير والتحريف والاختلاف، ولما كان بعض الدين قرآنًا والبعض الآخر حديثًا، وما الحكمة فى ذلك، وما الفرق بين الواجب بالقرآن والواجب بالسُّنة؟، فهذه بعض أسئلة ألقيها على الباحثين ليجيبوا عنها إن كان ثَم جواب.
سأل بعض الصحابة النبى صلى الله عليه وسلم: (هل يجب الوضوء من القىء؟) فأجاب عليه السلام: (لو كان واجبًا لوجدته فى كتاب الله تعالى) فهذا الحديث صح أو لم يصح، فالعقل يشهد له ويوافق عليه، وكان يجب أن يكون مبدأ للمسلمين لا يحيدون عنه. ولكن ويا لَلأسف لَحِقَ المسلمين ما لحق غيرهم من الأمم، فدفع بهم فى ظلمات فى بحر لُجىّ يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب، ظلمات بعضها فوق بعض، إذا أخرج أحدٌ منهم يده لا يكاد يراها، ومن لم يجعل الله له من كتابه نورًا فما له من نور.
ولع الناس فى الأعصر الأولى بالروايات القولية ولوعًا، وتفاخروا بكثرة جمعها جموعًا، حتى ملأت الأحاديث الآفاق، وكثر فيها التضارب والاختلاف.
وصار من المستحيل أن يعمل الإنسان بدينه بدون أن يقلد غيره ممن أفنوا أعمارهم فى عمل مذهب لهم فأصبح التقليد من أوجب الواجبات فى دين المسلمين بعد أن كان من ألدّ أعداء القرآن المجيد. تنوعت المذاهب واختلفت المشارب وتعددت الآراء فى كل فرع من فروع الفقه حتى تجد فى كل مسألة أن كل ممكن من الممكنات العقلية قد صار مذهبًا لأحد الأئمة ووجب على المقلدين القول «بأن الكل على الحق» فأصبح القول باجتماع الضدين بل النقيضين عقيدة من عقائد الدين بين المسلمين فحق عليهم القول بأن سيتبعون سنن مَنْ قبلهم حتى لو دخلوا جُحْر ضب لدخلوه.
أراد بعضهم أن يزيل عن العين الرمد فقال بسد باب الاجتهاد. وبذلك شفى الرمد بالإعماء، فصار كل من أراد أن يستعمل عقله فى الدين رموه بأنه من المارقين وهكذا ضاع الحق بين الأباطيل: ولولا عناية الله لأزهقت رُوحَه الأضاليلُ.
نظر المجتهدون فى الأحاديث نظرة علموا ما فيها من الاختلاف، وتحققوا أن أكثرها موضوعات، ولما أراد كل منهم أن يستخرج مذهبه اضطر أن يرفض منها ما صح عند غيره، فهل يعقل أن الله يدين العالمين بشىء لا يمكن لأحد أن يميز حقه من باطله؟، وهل يعذر المسلمون فى تركهم القرآن خلف ظهورهم والاشتغال عنه بهذه المذاهب وصرف الوقت فى مراجعة الروايات التى لا تحصى لظنهم أن القرآن غير وافٍ بالدين كله، والله تعالى يقول: «مَّا فَرَّطْنَا فِى الكِتَابِ مِن شَىْءٍ» (الأنعام: ٣٨) وإذا صحت مذاهبهم، فأى تفريط أكبر من ترك القرآن لأكثر واجباتهم فى الصلاة والصوم والحج والزكاة وغير ذلك؟.
دين الله سهل ميسور، والتقليد فيه محظور، فلو كان العمل بما فى الأحاديث واجبًا لَلَزِمَ كل مكلف أن يترك أى شغل آخر ويقضى الليالى الطويلة فى مطالعة المجلدات الضخمة من كتب الحديث، ليعرف الضعيف والصحيح والموضوع، والحسن والموقوف والمرفوع، والناسخ والمنسوخ: فهل فى شرعة الإنصاف أنى.. أكلف خُطَّةً لا تستطاع؟.
يحتج السنيون على صحة قولهم بنحو قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِى الأَمْرِ مِنكُمْ» (النساء:٥٩) ولكننا نحن القرآنيين نقول: إن إطاعة الرسول لا نزاع فيها ولكن النزاع فى مسألة أخرى وهى: هل يفرض علينا الرسول فرضًا لم يفرضه كتاب الله؟، فإذا كان ذلك صحيحًا فهل لأولياء الأمر أن يفرضوا علينا صلوات سبعًا بدل الخمس أو صيام شهرين بدل الشهر ونحن مأمورون بطاعتهم مثل طاعة الرسول؟، وإذا كان الأمر كذلك فما بال جميع أصحاب المذاهب ميزوا بين أمر الله وأمر الرسول أو بين الواجب والسنة وبين المفروض والمندوب؟، أليس ذلك إقرارًا منهم بالفرق الهائل بين الكتاب والسنة؟.
نحن لا نجهل أن كل مذهب منها يقول ببعض فرائض لا أثر لها فى الكتاب، ولكن الذى نلاحظه على أصحابها ونشكرهم عليه أنهم كانوا دائمًا يجتهدون أن يأخذوا دليلهم على الفرضية من الكتاب إن أمكنهم حتى إن كثيرًا منهم قال بعدم وجوب أشياء كان النبى عليه السلام يواظب عليها ويأمر أصحابه بها، إذ لم يجد دليلًا عليها من القرآن، فأبوحنيفة مثلًا قال بأن قراءة الفاتحة فى الصلاة ليست بواجبة؛ لأنه لم يجد أمرًا بذلك فى كتاب الله، وكذلك قال فى الاستنجاء، وذهب الجميع إلى القول بأن المضمضة والاستنشاق ليستا من فرائض الوضوء، وغير ذلك كثير حتى إنك تجدهم يستنبطون كل ما قالوا بأنه فرض من الآية الواردة فيه، وبعد ذلك يقولون بأن ما زاد عليه فهو سنة، ولو لم يثبت أن النبى تركه مرة واحدة، أليس ذلك أثرًا من آثار الفطرة السليمة الباقية فى نفوسهم؟.
إذا نظر ناظر فى جميع المذاهب المعروفة واستخرج منها جميع ما أجمعوا على وجوبه وجد أنه كله مستنبط من القرآن الشريف إلا مسائل قليلة جدًا أذكر منها بعضها لأهميتها كعدد ركعات الصلاة، ومقادير الزكاة وما يتعلق بها.
لا شك عندى أن هاتين المسألتين متواترتان عن النبى صلى الله عليه وسلم فليس ذلك محلاًّ للنزاع، ولكن محل النزاع هو هل كلُّ ما تواتر عن النبى أنه فعله وأمر به يكون واجبًا على الأمة الإسلامية فى جميع الأزمنة والأمكنة، وإن لم يرد له ذكر فى القرآن رأيى أنه لا يجب. وربما كان ما يفعله النبى صلى الله عليه وسلم هو مندوبًا إليه ندبًا شديدًا أو أنه تطبيق لأوامر القرآن الباقية على أحوال الأمة العربية، بحيث إن غيرها من الأمم لها أن تستنبط من الكتاب ما يوافق أمورها وأحوالها كما سنبين ذلك فى مسألة الزكاة.


الإنسان يجب عليه أن يصلى ركعتين على الأقل.. وله أن يزيد على ذلك دون غلو أو إفراط

لنبدأ الآن بالبحث فى مسألة ركعات الصلاة. قال الله تعالى: «وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِى الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُواًّ مُّبِينًا * وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِن وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ» (النساء: ١٠١- ١٠٢) إلى آخر الآية، فيتضح من هذه الآيات الكريمة أن قصر الصلاة مباح فى السفر إذا خفنا العدو، وأن صلاة الخوف للإمام ركعتان فقط وللمؤتمين واحدة يصلى نصفهم الركعة الأولى معه، ثم يصلى النصف الآخر الركعة الثانية، وهذا هو المتبادر من القرآن الشريف وما ذهب إليه ابن عباس وجابر بن عبد الله ومجاهد فإذا كانت صلاة الخوف ركعة واحدة للمؤتم، وظاهر من السياق أن هذا قصر، أى دون الواجب، فيكون الفرض فى أوقات عدم الخوف هو أكثر من ركعة، أى أن القرآن يفرض على المسلم أن يصلى فى كل وقت من أوقات الصلاة أكثر من ركعة، ولم يحدد له عددًا مخصوصًا، وتركه يتصرف كما يشاء، وبعبارة أخرى: إن الإنسان يجب عليه أن يصلى ركعتين على الأقل، وله أن يزيد على ذلك ما شاء أن يزيد بحيث لا يخرج عن الاعتدال والقصد، فإن الغلو فى الدين مذموم وكذا فى كل شىء «إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المُسْرِفِينَ» (الأعراف: ٣١)، ومن ذلك تعلم أن عدد ركعات الصلاة غير معين إلا بهذا القدر فقط، وهو أن لا تنقص عن اثنتين ولا تزيد إلى درجة الإفراط، وبعد ذلك فللمسلم الاختيار فيما يفعل على حسب ما يجده من نفسه ومن وقته، ولا يجوز له القصر عن الركعتين إلا فيما ذكره القرآن الشريف، والذى يدلك من السنة على أن هاتين الركعتين لهما الشأن الأكبر فى الدين ما يأتى:
- أول ما فُرضت الصلاة كان النبى عليه السلام يصلى دائما ركعتين مدة إقامته بمكة وجزءًا من إقامته بالمدينة، فإن قيل: لعل ذلك كان فى أول الأمر لحدوث عهد المسلمين بالإسلام فناسب أن يكون التكليف حينذاك خفيفًا، قلنا: إن المعهود فى طباع البشر أن يكونوا عند دخولهم فى دين جديد شديدى الرغبة فى القيام بجميع واجباتهم الدينية ويطلبون المزيد، وكلما طال عليهم العهد أخذوا فى التهاون فيها، ولذلك كان المسلمون فى أول الإسلام يقومون الليل بعضه إن لم يكن كله، وكلما ازداد اضطهاد المشركين لهم ازدادوا رغبة فى الصلاة فلو كلفوا بأكثر من ركعتين فى أول الأمر لوجدوا فى أنفسهم من الرغبة الشديدة فى العمل ما لا يجدونه فيما بعد وخصوصًا لأنهم كانوا غير مكلفين بالجهاد ولا بغيره: كالصوم والحج وغيرهما، ثم لو سلَّمنا أن التخفيف فى الصدر الأول كان لمراعاة جانب المسلمين الحديثى العهد بالدين وهم إذ ذاك نفر قليل فلماذا لا يراعى جانب مَنْ دَخَلَ فى الدين فيما بعد وقد كانوا يُعدُّون بالملايين؟، فلهذه الأسباب نحن نتخذ هذه المسألة دليلًا على أن النبى ما كان يكتفى بالركعتين فى ذلك الوقت إلا لبيان أنهما أقل الواجب، ثم زاد عليهما فيما بعد لبيان أن الزيادة أولى.
-إن النبى لما زاد عدد ركعات الصلاة كان يقتصر على ركعتين فى سفره ولو لم يكن هناك خوف من العدو، ولو كان السفر قصيرًا جدا، ولو أقام بالجهة التى سافر إليها بضعة عشر يومًا وزال عنه العناء والتعب، فلو كانت الزيادة واجبة لعُدَّ هذا تهاونًا، وخصوصًا لأن القرآن لم يبح القصر إلا عند الخوف من العدو ولكنهم يقولون تحكمًا: إن هذا هو القصر المراد فى القرآن ولا يبالون بمخالفة الظاهر منه ونحن نسمى ذلك (اكتفاء بالواجب) محافظة على مقام القرآن الشريف ولا نقول فى قوله تعالى: «إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا» (النساء: ١٠١) إن هذا القيد فى الآية المذكورة آنفًا لا مفهوم له كما يقولون اتباعًا لمذاهبهم.
-كان عليه السلام لا يجهر بالقراءة فى الركعتين الأخيرتين، وإن جهر فى الأُوليَيْن ولا يقرأ فيهما بعد الفاتحة شيئًا من القرآن، فهل يدل ذلك على أن منزلتهما أقل من الركعتين الأوليين؟.
-إننا إذا نظرنا إلى عدد الركعات التى كان يصليها النبى فى أوقات الصلاة مع قطع النظر عما سماه المجتهدون سُنة وما سمَّوْه فرضًا نجد أنه لم يحافظ على عدد مخصوص، فكان تارة يزيد وتارة ينقص؛ ولذلك اختلفت المذاهب فى عدد السنن وفى المندوب والمستحب والرغيبة إلى غير ذلك من التقسيمات والأسماء التى ما كان يعرفها الرسول نفسه ولا أصحابه، ثم إن عدد الركعات التى كان يصليها فى الأوقات المختلفة من اليوم هو مختلف أيضًا، فصلاة الصبح مثلًا أربع ركعات والظهر عشر ركعات أو اثنتا عشرة ركعة، ولكن الشىء المطرد الذى نلحظه أنه ما صلى وقتًا أقل من ركعتين ولا تقيد بعدد مخصوص، وهذا يؤيد ما ذهبنا إليه كل التأييد.
وأما كونه كان يصلى بعض هذه الركعات فى الجماعة ويواظب على ذلك، وإذا كانت الصلاة رباعية أو ثلاثية لم يسلم إلا مرة واحدة، وإذا ترك سهوًا بعضها أعاده وسجد للسهو، فكل هذه أشياء لا يصح أن يُردَّ بها علينا، أما صلاة الجماعة فهى غير خاصة بالفرض، فصلاة العيدين والكسوف والخسوف والاستسقاء وغيرها كان يصليها جماعة وكذا صلى بعض النوافل، وأما المواظبة على جعل بعض الصلوات أربعًا أو ثلاثًا فهو لا يدل على وجوب ما فوق الركعتين؛ لأن هذه المواظبة المزعومة غير مسلمة كما بينا ذلك فيما سبق، وإذا سلمت فكم من أشياء واظب عليها طول حياته، وقال بعض الأئمة: إنها غير واجبة مثل الاستنجاء أو الاستجمار، ومثل قراءة الفاتحة فى كل ركعة والمضمضة والاستنشاق، وغير ذلك كثير جدًا.
وأما قرن الركعات بتسليمة واحدة فكم من أشياء قرنت بل مزجت بالفرائض، وقال الأئمة: إنها غير واجبة مثل كثير من أعمال الحج والوضوء والصلاة، ولما لا نتخذ نحن جلوسه صلى الله عليه وسلم دائمًا بين الركعتين الأوليين والركعتين الأخيرتين، إشارة منه إلى فصل الواجب عن غير الواجب، وكذا عدم الجهر فى الأخيرتين وعدم قراءة شىء بعد الفاتحة فيهما، وأما إعادة ما تركه سهوًا وسجود السهو فهو أيضًا غير دليل؛ لأن السبب فيه هو أن النبى عليه السلام لمّا كان ينوى أن يصلى أربع ركعات مثلًا، ويجد أن قلبه اشتغل بشىء آخر أنساه ما هو فيه كان يعد ذلك تقصيرًا وذنبًا؛ فيسجد سجدتى السهو استغفارًا لله تعالى وطلبًا للصفح عنه، وذلك بعد أن يعيد ما كان نوى أن يصليه ونسيه عقابًا للنفس، وإن كان سهوها للفكر فى أمر شريف يليق بالأنبياء، فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين، وليس سجود السهو هذا خاصًا بترك الفرض، بل إذا نسى الإنسان أى شىء مما نوى عمله لله حق عليه أن يفعله، فإذا نوى أن يصلى مثلًا أربع ركعات، فصلى سهوًا ثلاثًا، ثم تذكر فليصل ما نسيه وليسجد لله، قال عليه الصلاة والسلام: (إذا قام أحدكم يصلى أتاه الشيطان فلبَّس عليه حتى لا يدرى كم صلى، فإذا وجد ذلك أحدكم فليسجد سجدتين). وأما الاحتجاج بالإجماع فهو غير حجة علينا؛ لأن أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ما كانوا يعرفون اصطلاحاتنا هذه الفقهية، فلا يميزون بين ما نسميه نحن الآن سُنة أو فرضًا أو مندوبًا أو مستحبًّا، بل كانوا يحافظون على كل شىء رأوا النبى عليه السلام يفعله، وأما إجماع الخَلَف فلا نعبأ به والاستشهاد بحديث «لا تجتمع أمتى على ضلالة» إن صح هذا الحديث عنه عليه الصلاة والسلام، فنحن لا نقول: إن المسلمين اجتمعت فى هذه المسألة على ضلالة، فإن مَنْ عرف أن الواجب عليه ركعتان على الأقل فصلى أربعًا تقليدًا للرسول عليه السلام شكرناه وشكره الله ورسوله وزاده الله أجرًا، وإنما الغرض من هذا البحث هو تمحيص المسائل علميًا ليس إلا، وهو يفيدنا أيضًا فى مسائل أخرى من الوجهة العملية فوائد لا تحصى.

أدعو أولياء الأمور لوضع نظام للزكاة يصلح للزمان والمكان بعد الشورى ومراجعة الكتاب

عند الحديث عن مبحث الزكاة نذكر أولًا مقدار النصاب «ما يخرج من الزكاة» من الذهب والفضة والماشية وما يجب فى كل من الزكاة حسب ما ورد فى السُّنة المتواترة:
-من الذهب ٢٠ دينارًا (أى ١٠ جنيهات تقريبا)...... نصف دينار
- من الفضة ٢٠ دينارًا... (٢٠٠ درهم)......... ٥ دراهم
- من الإبل ٢٠ دينارًا... (٥ جمال)......... شاة واحدة
- من البقر ٢٠ دينارًا... (٣٠ بقرة)......... عجل تبيع
- من الغنم ٢٠دينارًا... (٤٠ شاة)......... شاة واحدة
فالذى يكاد يجزم به العقل أن قيمة النصاب من كلٍّ لا بد أنها كانت عند العرب متساوية أى أن مَنْ كان عنده منهم ٢٠ دينارًا كان كمن عنده ٢٠٠ درهم أو٥ جمال أو ٤٠ شاة؛ ولذلك تؤخذ شاة واحدة ممن عنده ٤٠ شاة وكذا ممن عنده ٥ جمال ولو لم تكن جميع هذه المقادير متساوية لكان هناك ظلم ظاهر لبعض الناس دون الآخرين، ومما يرجح أن هذه المقادير إن لم تكن متساوية فهى متقاربة جدًا أن مالكًا رضى الله عنه جعل القطع ليد السارق مشروطة بسرقة ربع دينار أو ثلاثة دراهم لتَسَاوِى هذين القدرين، وعليه يكون نصف الدينار يساوى ٦ دراهم، وإذا لحظنا أن ما يؤخذ من نصاب الذهب هو نصف دينار وما يؤخذ من نصاب الفضة هو ٥ دراهم أدركنا أن ما يؤخذ من كل هو متقارب جدًا إن لم نقل: إنه كان متساويًا فى زمن النبى صلى الله عليه وسلم. وإذا كان الأمر كذلك كان ثمن الشاة أو العجل التبيع هو ٥ دراهم أو نصف دينار: أى نحو ٢٥ قرشًا صاغًا مصريًا بالتقريب، وذلك فى مبدأ الإسلام وهى قيمة زهيدة جدًا، ولا شك أن هذه القيمة تختلف اختلافًا كبيرًا بحسب البلاد وبحسب الأزمنة، ومن ذلك نعلم أن ما بيّنته السنة للعرب فى ذلك الزمن لا يصلح لجميع الأمم فى الأوقات المختلفة، ولذلك لم يَرِد شىء من ذلك فى القرآن مطلقًا؛ لأنه هو الكتاب الوحيد الذى أمر النبى أصحابه بحمله لجميع العالمين، وتركت أمثال هذه التفاصيل فيه لتتصرف كل أمة فى الأمور بما يناسب حالها، فيجب على أولياء الأمر بعد الشورى ومراجعة نصوص الكتاب أن يضعوا للأمة نظامًا فى هذه المسألة، وفى غيرها لتسير عليه، ولا يصح أن نجمد على ما وضع للعرب فى ذلك الزمن جمودًا يبعدنا عن العقل والصواب، فإن الذى عنده عشرة جنيهات أو خمسة جِمال مثلا إذا عد غنيًّا عند قوم فلا يلزم أن يكون غنيًا عند الآخرين، ثم إن ربع العشر إذا قام بإصلاح حال الفقراء والمساكين وأبناء السبيل والغارمين وبالنفقة منه على العاملين على الزكاة والمؤلفة قلوبهم وفى سبيل الله وفى تحرير الرقاب إذا قام بكل هذه الشئون فى زمن أو بلد فليس ضروريًا أن يكون كافيًا كذلك فى زمن آخر أو فى بلدة أخرى، ومن ذلك تعلم حكمة الله فى عدم تعيين شىء من ذلك فى كتابه تعالى، وغاية ما ذكر فيه الحث على إعطاء الزكاة وأنها تؤخذ من أصحاب الأموال، وأن تعطى من ثمر النخل والزيتون والرمان يوم حصاده، ولنا أن نقيس على ذلك أن زكاة الأموال تؤخذ سنويًا من أربابها، وذكر فيه أيضًا مصارفها التى أشرنا إليها سابقًا.
وخلاصة القول فى هذا الموضوع: أننا يجب علينا الاقتصار على كتاب الله تعالى مع استعمال العقل والتصرف، أو بعبارة أخرى (الكتاب والقياس) وأما السنة فما زاد منها عن الكتاب إن شئنا عملنا به وإن شئنا تركناه، وما فيها من الحِكَم الكثيرة نقبلها على العين والرأس، وكذلك أى حكم من أى مصدر آخر.

القرآن لم يرد به أى أمر بقتل المرتد بل الإنسان حر فى الاعتقاد يؤمن أو لا يؤمن.. والرجم ليس واجبًا إلا بشروط

أما الصوم فجميع ما اتَّفَقَ على وجوبه المجتهدون هو واضح فى القرآن وكذلك جميع أركان الحج، وهنا يناسب أن أذكر شيئًا عن تقبيل الحجر الأسود ردًا على أعداء الإسلام فأقول: هذا الحجر موضوع فى أحد أركان الكعبة وأصله علامة وضعها إبراهيم عليه السلام؛ ليعرف به الركن الذى يُبتدأ منه بالطواف، والظاهر أنه قطعة أخذها من جبل هناك يسمى أبا قبيس كما يستخلص من هذه الرواية (إن الله استودع الحجر أبا قبيس حين أغرق الله الأرض زمن نوح عليه السلام، وقال: إذا رأيت خليلى يبنى بيتى فأخرجه له، فلما انتهى إبراهيم لمحل الحجر نادى أبو قبيس إبراهيم فجاء فحفر عنه فجعله فى البيت) فهذه الرواية على ما فيها من الأوهام وكذا غيرها يدلنا على مأخذ هذا الحجر وتاريخه، وقد شوهد أن النبى قبَّل هذا الحجر وكذا الركن اليمانى ولم يقبّل الركنين الآخرين؛ لأنهما ليسا على قواعد إبراهيم، وهذا العمل هو ضرب من ضروب العبادة والتذلل لله تعالى وحده كوضع الساجد وجهه على الأرض خضوعًا لله وانكسارًا مع العلم بأن الحجر والأرض لا قيمة لهما بالمرة، ولولا سقوط منزلتيهما لَمَا كان هناك تعبُّد فى وضع الوجه عليهما، ولم يأت معنى التعبد إلا لوضع أشرف عضو فى الإنسان على هذين الشيئين الحقيرين تعظيمًا لله كمن يُقَبِّلُ أعتاب الملوك أو ذيل ثيابهم؛ ولذلك قال عمر رضى الله عنه: (والله إنى أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أنى رأيت رسول الله يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلتكَ)، ومع كل ذلك فليس التقبيل ركنًا من أركان الحج، ولم يقل أحد بوجوبه، ولم يَرِدْ للحجر الأسود ذكر فى القرآن الشريف مطلقًا ولا لبئر زمزم ولا للشرب منها فلندع ما يهذى به الأغبياء الجاهلون من الطاعنين فى الإسلام.
بقى علىَّ لإيفاء موضوعنا حقه أن أتكلم عن مسألتين أُخْرَيَيْنِ لوُرود شىء كثير عنهما فى السنة وعدم وُرود شىء فى الكتاب. «المسألة الأولى - قتل المرتد» إنه لم يرد أمر بذلك فى القرآن فلا يجوز لنا قتله لمجرد الارتداد، بل الإنسان حر فى أن يعتقد ما شاء «فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ» (الكهف: ٢٩) وأما ما حصل من ذلك فى صدر الإسلام فقد كان لضعف المسلمين وقلة عددهم بالنسبة لأعدائهم والخوف من إفشاء أسرارهم وإعانة العدو عليهم، وتمكينه منهم، وتشكيك ضعاف المسلمين فى دينهم، أو لأن المرتد كان ممن آذاهم وأبيح لهم دمه، فلمَّا تظاهر بالإسلام كفوا أيديهم عنه، ثم لما عاد عادوا إليه فهذه أسباب قتل المرتد فى العصر الأول، أما الآن فإن وُجدت ظروف مثل تلك، وحصل مثل ما كان يحصل جاز لنا قتله؛ لأنه صار ممن حارب الله ورسوله، وسعى فى الأرض بالفساد، قال الله تعالى: «إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِى الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا» (المائدة: ٣٣) الآية.
وأما قتل المرتد لمجرد ترك العقيدة فهذا مما يخالف القرآن الشريف «لاَ إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَىِّ» (البقرة: ٢٥٦)، وورد فى الحديث ما معناه «إذا روى لكم عنى حديث فاعرضوه على كتاب الله فإن وافق فاقبلوه وإن خالف فرُدُّوه».
«المسألة الثانية - رجم الزانى المحصن» حد الزانى فى القرآن الجلد، وقد أنكر بعض المعتزلة الرجم وكذا جميع الخوارج، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: «فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المُحْصَنَاتِ مِنَ العَذَابِ» (النساء: ٢٥): أى أن الأَمَةَ إذا زنت بعد الإحصان تُعاقب بنصف عقاب المحصنة من الحرائر: أى تجلد خمسين جلدة، فقالوا: لو كان عقاب المحصنات الرجم لكان حد الإماء نصف الرجم، والرجم لا نصف له، ثم إن القرآن تكلم عن الزنا وحَدِّه وعن رمى المحصنات به وعقوبته، وعن اللعان وكل ذلك بإيضاح تام، فلو كان الرجم واجبًا لذكره الله تعالى فى القرآن، فهذه حجة هؤلاء القوم، والذى نقوله نحن: إن الإمام إذا وجد أن الأمة قاسية غليظة القلوب منتشر فيها الفسق والفجور ولا يردعهم الجلد ولا يؤثر فيهم لخشونتهم وشدتهم، وخاف على الأُمة الضعف والانحلال والفساد جاز له والحالة هذه أن يقرر الرجم عقوبة للزنا، وأن يَعتبر مَنْ أقدم عليه وهو محصن مفسدًا فى الأرض عاصيًا لله ومحاربًا له ولدينه عملًا بالآية السابقة.
وعَذَرَ مَنْ لم يكن محصنًا، أو إن تكرر منه الذنب ولم يردعه الجلد جاز للإمام أن يقدر الرجم على غير المحصن أيضًا بعد عدد مخصوص من وقوعه فى الإثم، والخلاصة أن المسألة تركت ليتصرف فيها أولو الأمر وليتشاوروا فيها، فإن كان الفساد فى الأُمَّة قليلًا ويردعها الجلد فبه، وإن كان المفسدون كثيرين ولا يبالون بالجلد ولا بالدين أوجبوا تقتيلهم. وكذلك ترك القرآن كثيرًا من الحدود وأطلق الكلام فى قطع يد السارق، والظاهر منه أن القطع لا يجب لأول مرة بل يستتاب السارق فإن تاب وأصلح وإلا قطعت يده.
فهذه أفكارى فى هذه المواضيع أعرضها على عقلاء المسلمين وعلمائهم، وأرجو ممن يعتقد أننى فى ضلال أن يرشدنى إلى الحق وإلا كان عند الله آثمًا، فإذا تقرر ذلك المذهب فما على المسلم إلا أن يطالع كتاب الله تعالى مطالعة إمعان وتدقيق وعمل فكر، وأن يستنتج جميع ما يجب عليه فى دينه ودنياه من اعتقادات وعبادات وأخلاق ومعاملات، فإن فى هذا الكتاب الهداية والكفاية وسعادة الدنيا والآخرة.
ومن اقتصر عليه عَلِمَ سخافة مَنْ عاب الإسلام بأشياء ألصقت به وليست منه، فاللهم اهدنا بكتابك، وأفهمنا من أسرارك، وافتح أعيننا وأَنِرْ بصائرنا، إنك هادى الضالين مرشد الحائرين آمين.

تعليق «المنار» على مقال توفيق

قد سبق الكاتب إلى هذا الموضوع غيرُ واحد من المسلمين الباحثين من أشهرهم ميرزا باقر الشهير الذى كان تنصر وصار داعية لمذهب البروتستانت، ثم عُنى بدراسة سائر مذاهب النصرانية ومذهب اليهود، ثم عاد إلى الإسلام باجتهاد جديد، ودعا إليه فى إنجلترا بغيرة وعزم شديد، وقد ذاكرنى الكاتب فى هذا الموضوع مرارًا، وكذلك رفيقه الدكتور عبده أفندى إبراهيم، فأشرت عليه بعد البحث فى كثير من جزئياته أن يكتب ما يراه لعرضه فى المنار على العلماء والباحثين، فننظر ماذا يقولون ثم نقفّى عليه بما نعتقده. فنحن ندعو علماء الأزهر وغيرهم لبيان الحق فى هذه المسألة بالدلائل ودَفْع ما عُرِضَ دونه من الشبهات، فإن المحافظة على الدين فى هذا العصر لا تكون بالنظر فى شبهات الفلسفة اليونانية أو شذوذ الفِرَق الإسلامية التى انقرضت مذاهبها، وإنما تكون بإقناع المتعلمين من أهله بحقية الدين ودفع ما يعرض لهم من الشبهات على أصوله وفروعه الثابتة، وأهونها ما يعرض للمعتقدين المستمسكين ككاتب هذه المقالة، فإننى أعرفه سليم العقيدة مؤمنًا بالألوهية والرسالة على وفق ما عليه جماعة المسلمين مؤديًا للفريضة، وإنما كان إقناع مثله أَهْوَن على علماء الدين؛ لأنه يعد النص الشرعى حُجة فلا يحتاج مُناظره لإقناعه بالألوهية والرسالة ليحتج عليه بنصوص الوحى. وإنى أعجل بأن أقول: إن أظهر الشذوذ فى كلامه ما قاله فى مسألة الصلاة فإن النبى صلى الله عليه وسلم مبين للتنزيل بقوله وفعله، كما ثبت بنص القرآن وقد تواتر عنه ما يفيد القطعَ بأن الصلاة المفروضة هى ما يعده جميع المسلمين اليوم فرضًا، والكاتب لم يستغنِ عن السنة فى بيان دعواه أن الفريضة ركعتان وغير ذلك، ولا أطيل فى المسألة الآن، وإنما ذكرتها لئلا تعلق شبهتها بأذهان بعض القراء فيطول عليهم العهد بالجواب عنها، وسنفصل القول فى الموضوع بعد أن ننظر ما يكتبه العلماء من بيان ما يجب عليهم أو السكوت عنه، ونحب أن يكون معظم ما يكتب فى أصل المسألة لا فى الأمثلة التى أوردها والله الموفق.