رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

قصة البابوية


فى القرن الأول المسيحى عندما أنتشرت المسيحية وكثُر عدد المؤمنين، أهتم الآباء الرسل بإقامة أساقفة وكهنة وشمامسة، وأخذ عددهم يزداد كلما أزداد عدد المسيحيين فى كل مكان. وفى ذلك الحين كانت الكنيسة تُدعى بـ "كنيسة القديسين". ونمت المسيحية رغم اضطهادات الوثنيين حتى أعترف الأمبراطور "ثيودوسيوس" الكبير بأن المسيحية أحدى الديانات الرسمية، وحتى ذلك الحين وإلى ما بعد ذلك كانت الكنيسة توصف بأنها "واحدة وحيدة مقدسة جامعة رسولية". وكان أساقفة الكنيسة يتعاونون فى الدفاع عن الكنيسة وتثبيت أبناء الكنيسة فى إيمانهم. وكان الأساقفة يتبادلون الرسائل والمشورة فى محبة وتواضع.

كان الأساقفة الذين يتولون الكراسى الرسولية حتى القرن الرابع الميلادى هم أساقفة: أورشليم وأنطاكية وأفسس وقيصرية والقسطنطينية والإسكندرية وروما، وكان كرسى أورشليم له الأعتبار الأول بين بقية الكراسى إلا أن أحدًا من هؤلاء الأساقفة لم يكن له لقب "البابا" إلا أسقف الإسكندرية، ثم أنتقل هذا اللقب بعد ذلك إلى روما. وإلى الآن عندما يُقام أسقف الإسكندرية – الذى يُختار من بين الرهبان حسب التقليد السليم – يأخذ بعد ذلك لقب بابا وبطريرك.

والواقع أن هذا اللقب لم يعط صاحبه أمتيازًا على أقرانه وزملائه، ولكن اللقب نشأ نشأة طبيعية فى مصر إذ كانت العلاقة بين أسقف الإسكندرية ورعيته علاقة قوية متينة قائمة على الحب الأبوى العميق، فالأسقف راعٍ لا يستريح حتى يشعر بأنه قدم تضحية ما لشعبه ولا يطمئن حتى يبذل كل ما فى وسعه من أجل سلام هذا الشعب الوفى الأمين، الذى أرتفعت فى أعينهم منزلة راعيهم وأختفى من أمامهم مظهر الرياسة الدينية الخادعة وبقى ماثلًا أمامهم مثال الأبوة الكاملة، ومن هذا الحُب الرائع أنطلقت كلمة "بابا" – تلقائيًا من الأبناء - لتحدد العلاقة بين الراعى والرعية. يا لها من روعة. ومن هنا الذى لا يقوم بدوره الأبوى بصدق لا يستحق لقب "بابا" بل ويفقده، ولا يكون بعد أبًا بل أجيرًا كقول السيد المسيح.

هذه الأبوة رأينا صورتها الرائعة فى شخص البابا كيرلس السادس (1959 – 1971) البطريرك 116 الذى وضع نفسه من أجل أولاده، فكان سندًا للضعيف والفقير واليتيم والمتألم والمظلوم ولم يحيط بالبابا حرس يمنعه عن شعبه وعاش ناسكًا حقيقيًا وفقيرًا غير مترفعًا على أولاده الفقراء، بينما نرى الآن الأحتفالات تُقام وهناك عائلات كثيرة حزانى ومتألمة فى قرى المنيا بعد واقعة شهداء طريق دير الأنبا صموئيل!! من أكثر المناظر المؤلمة أن نجد فى العزاء الذى أقيم بإيبارشية المنيا أن الأسقف الأنبا مكاريوس – المحب لأولاده – قد جلس وبجواره طفل صغير يبلغ من العمر 9 سنوات وقد أخذ يبكى وهو يتلقى العزاء فى أستشهاد والدته!! من يرى هذا المنظر ولا يحزن؟ وأى قلب هذا الذى يسمح لنفسه أن يحتفل فى أجواء غريبة عن المشاعر الإنسانية الصادقة وهناك قلوب تنزف دمًا؟ وقد طالب الأقباط بضرورة وقف الأحتفالات، ليس حدادًا ولكن مشاركة إنسانية للحزانى. أين مشاعر الأب؟ لقد تبلدت المشاعر!!

كان أول من جاء اسمه فى التاريخ مسبوقًا بهذا اللقب هو البابا "ياراكلاس" (230 – 246م) البطريرك 13، ثم انتقل هذا اللقب إلى خلفائه، فرأينا البابا بطرس البطريرك 17 – خاتم الشهداء – الذى وضع رأسه تحت حد السيف من أجل أن ينقذ شعبه، ورأينا البابا ديسقورس البطريرك 25 – بطل الأرثوذكسية – وقد تم نفيه وتكسير أسنانه فأرسلها إلى أولاده فى مصر قائلًا "هذه ثمرة إيمانى". ونرى الأساقفة فى مجمع نيقية المنعقد عام 325م قد اجتمعوا ولم يكن بينهم من يحمل هذا اللقب إلا أسقف الإسكندرية وحده البابا الكسندروس (312 – 328م) البطريرك 19. كذلك يمكننا أن نرى من روح الكنيسة عامة فى تلك العصور المباركة أن الأساقفة كلُ يدير شئون أيبارشيته مستقلًا عن سواه ولكن هذا الاستقلال لم يمنع أولئك الأساقفة المباركين من التعاون والتشاور فى رعاية وخدمة الكنيسة كوحدة واحدة، كما أنه لم يخطر فى بال الكنيسة – فى ذلك الحين – رئاسة أسقف على آخر وأقصى ما فكّر فيه هؤلاء الآباء أنهم جعلوا لأسقف أورشليم المقام الأول فى الكرامة ولم يكن ذلك يعنى رئاسة أسقف أورشليم أو غيره من الأساقفة على بقية الكراسى. وظل هذا المعنى مستقرًا فى ذهن الكنيسة الجامعة كما نصت عليه قوانين الرسل ومجمع أنطاكية والمجمع المسكونى الأول فى نيقية. وكانت أسقفية روما محدودة جدًا ولم تصل إلى هذا السلطان العريض الذى نراها عليه الآن، إلا بعد حروب دامية وصراع رهيب مع الأباطرة أستغرق طوال العصور الوسطى.

ويقول المؤرخون أن سلطة أسقف روما لم تكن تتجاوز مدينة روما نفسها، ويرى البعض أن سلطته كانت تصل إلى الكور المحيطة بمدينة روما بما لا يزيد على 100 ميل. وسواء كان هذا أم ذاك فإننا لم نجد مؤرخًا يعترف بأن سلطة أسقف روما فى القرون الأولى كانت تشمل أوروبا كلها مثلًا، وليس المؤرخون هم فقط الذين يرون هذا الرأى بل أن بعض أساقفة أوروبا نفسها كان لديهم هذا الاتجاه وحاولوا الصمود أمام الدعاوى البابوية فى العصور الوسطى، ولكن القوة العسكرية كانت تنقصهم !! بينما كانت متاحة لدى أسقف روما مما أضطرهم إلى الخضوع له. وحين لم تكن القوة العسكرية أحدى دعامات الكرسى البابوى، أى فى العصور الأولى كانت المسيحية فى روما وما حولها تعانى كثيرًا من الضعف، فالوثنية كانت – فى تلك العصور – محتفظة بالسيادة على الرومانيين، والغطرسة الرومانية كانت تغذى أنصار الوثنية مما ساعد على تأخير انتشار المسيحية فى إيطاليا وأوروبا عامة حتى القرون الوسطى أى إلى ما بعد القرن العاشر الميلادى.

ومن أوضح المظاهر التى تبين نشاط الكنيسة فى مصر والشرق حتى بلغت المسيحية أوج عظمتها فى هذه الكراسى بينما كانت فى روما ضعيفة لم تتهيأ لها الأسباب التى ساعدت على قوتها فى الشرق ما نراه فى مجمع نيقية المسكونى سنة 325م. فهذا المجمع العظيم الذى أنتظم فيه 318 أسقفًا من جميع أنحاء العالم شرقًا وغربًا نجد أن أساقفة الغرب لا يزيدون على 18 أسقفًا بينما بلغ عدد الأساقفة الذين حضروا المجمع من مصر والشرق 300 أسقف!! ولم يقتصر أثر مصر والشرق على عدد الحاضرين بل تعداه إلى موضوع المجمع نفسه، فقد كانت قيادة المجمع والمناقشة تكاد تنحصر فى علماء اللاهوت المصريين، ومن المعروف أن الشماس أثناسيوس الإسكندرى – تلميذ البابا الكسندروس – كان صاحب الفضل الأول فى توجيه المناقشات ووضع الأسس الصحيحة الأمينة للايمان الكنسى حتى أطلق المؤرخون على "قانون الإيمان" المسيحى اسم "الايمان الأثناسى" نسبة إلى أثناسيوس وجهاده الذى كلله المجمع بالنجاح، إلا أننا فى نفس الوقت لا نجد أثرًا لمندوبى أسقف روما.

ونرى نفس الموقف فى المجمع المسكونى الثانى (مجمع القسطنطينية الذى حضره 150 أسقفًا) ثم الثالث (مجمع أفسس الذى حضره 200 أسقفًا) الذى ظهر فى نهايته بوادر الخلاف ولعبت الرئاسة والأغراض والمؤامرات دورها لعقد مجمع خلقيدونية المشئوم، ثم تطور الخلاف واتسعت شقة النزاع ووضع البابا الرومانى الحجر الأول فى تاريخ الانشقاق الدينى فى الكنيسة المسيحية!! وفى غياب الوعى الحقيقى والإيمان الآبائى الذى وصل لنا بالدماء هرولت الكنيسة القبطية وراء دعاوى بابا روما!! من الذى يحرك الكنيسة القبطية العريقة؟ المحرك معروف للأسف الشديد.