رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أحمد زكى


منذ استقبلته الحياة أو استقبلها فى ١٨ نوفمبر ١٩٤٦، وحتى غادرها صباح الأحد ٢٧ مارس ٢٠٠٥، ظل يراقب العالم من ركنه المنزوى، وتختزن ذاكرته كل ما يراه وما يشعر به، ولم تمر عليه شخصية إلا وحاول أن يفهمها. ولمّا لم يجد لذلك كله مخرجًا إلا التمثيل، صار ممثلًا. وبموهبته الاستثنائية تجاوز أعلى سقف لامسه غيره.
بالألم والمراوغة، بالإصرار والاستكانة، بالضعف والقوة، وبلا كلمة أو إيماءة من يديه أو جسده، كان قادرًا على تجسيد من سكنوا عقله وقلبه: الجندى، الميكانيكى، الحلاق، الضابط، السجين، اللص، الهارب، تاجر المخدرات، المحامى، الطبيب، المريض، المدمن، الصعلوك، الوزير، البواب، الرئيس، رجل الأعمال، العامل، الصحفى، المصور، المهندس، التاجر، الدجال، المثقف، الجاهل و..... و...... وكل هؤلاء كانوا أحمد زكى فى ٥٨ فيلمًا و٥ مسرحيات و٤ مسلسلات.
صاحب الموهبة الاستثنائية، عرف كيف يترك ذاته على عتبة الشخصية، كيف تتراجع شخصيته تمامًا قبل الدخول فى الشخصية وأثنائها وربما بعدها، وكيف يخرج من جلده لتحل محله الشخصية الدرامية بكل مواصفاتها وأبعادها. نوع غريب من الممثلين، كلما سيطرت عليه الشخصية سيطر عليها، وكلما أخذت منه أضافت إلى نجوميته، وكلما ازدادت نجوميته تعامل مع أعماله بصيغة المسئول عن عهدة، فأعاد فى كل فترة التفتيش فيما قدمه، وما يجب أن يقدمه، ولم يدع لضميره أو لذاكرته فرصة الحصول على إجازة.
مع كل تلك الرحلة الشاقة كان الإحساس بالخوف والاغتراب يلازمه، لدرجة جعلته مقتنعًا تمامًا بأن الفنان بلا خوف أو توتر، يسير فى طريق غير آمن. كان يخاف حين لا يجد حلمًا جديدًا يتقاسم بكارته مع الجمهور، وكان يرعبه أن تمر الأيام بسرعة دون أن ينجز مشروعًا يولد أمامه فى سنوات تكون الحياة خلالها تلملم أوراقها وهو لا يدرى. وحين كانت أحلامه تتجاوز التوقعات، كانت تفوق المتوقع حين يحققها، وليس بعيدًا عن الأذهان حالة الدهشة التى استقبل بها كثيرون حلمه بتجسيد شخصيتى جمال عبدالناصر وأنور السادات، وحالة الانبهار التى استقبل بها النقاد، قبل المشاهدين، فيلمى «ناصر ٥٦»، و«أيام السادات»، وقبلهما كان حلمه بتجسيد شخصية طه حسين، الذى حققه بشكل أعاد شخصية وصورة عميد الأدب العربى إلى الحياة. كما لم يستسلم لمرضه وأصر على تصوير مشاهده فى فيلم «حليم»، ذلك الحلم الذى أرهقه التفكير فى تحقيقه.
هكذا، ظل أحمد زكى يبحث عن الأدوار المتناقضة، وما إن يجدها حتى يمسك بجوهر الشخصية ويجسدها بجسده وصوته لتراها على الشاشة من لحم ودم، قد تحبها أو تكرهها، لكنك تفهم دوافعها. وفى كل الأحوال تنسى تمامًا أن هناك ما يربطها بأحمد زكى غير مجرد تشابهات طفيفة فى الملامح الخارجية. يمكننا إذن أن نفسر عدم تسرب أى ذرة كراهية لقلوب المشاهدين تجاه صاحب الموهبة الاستثنائية، حتى وهم يشاهدونه يؤدى شخصية يكرهونها إلى حد الاختناق. وفى الإطار نفسه يمكن أيضًا تفسير هذا الاهتمام غير العادى بحالة نجم مصر الكبير فور الإعلان عن تعرضه لأزمة صحية استدعت سفره إلى فرنسا، وحالة الحزن التى استقبل بها ملايين العرب خبر إصابته بالمرض اللعين، ثم خبر رحيله.
فى الأيام العشرة الأولى من شهر رمضان السابق على رحيله، وصلت إلى غرفته فى الفندق الذى كان يقيم فيه ١٥ ألف رسالة تهنئة، و٢٥٠ سبحة، و٨٠ سجادة صلاة، و٤٠٠ مصحف شريف، و٢٠٠ لتر ماء زمزم، و٥٤ علبة بخور عود، و٦٠٠ عود سواك. وطبقًا للتقرير الصادر عن منظومة FCS الإلكترونية التى تدير كافة أعمال نزلاء الفندق، كان أكثر من نصف تلك الرسائل من خارج مصر. من دول عربية ومن جاليات عربية فى نيجيريا واليونان وجنوب إفريقيا وتايلاند وأوزبكستان وطاجيكستان والهند وهونج كونج وماليزيا والبرازيل والأرجنتين. كما تلقى عشرات الآلاف من باقات الزهور وملايين الرسائل التى حملت خليطًا من الدعوات بالشفاء، ووصفات علاج بالطب التقليدى والشعبى، وقصائد شعر، واطمئنان على صحته.
النجم الاستثنائى كان بعيدًا عن كل ذلك. كان جسده النحيل يرقد منتظرًا رحمة ربه، على سرير صغير، محاطًا برائحة المستشفى، وأجواء التعقيم، لا يسمع غير دقات كعوب أحذية الممرضات وهمهمات الأطباء. وإذا كان يمكننا القطع بأن هذا الاهتمام لم ينله أى ممثل مصرى (أو عربى) من قبل، فلا شك أنه كان تجسيدًا أو ترجمة لمشاعر يستحقها مَن آمن بأن الفنان حين يفكر فى رصيده وما يملك، تتراجع موهبته، فكان رصيده فى البنوك يقترب من الصفر، ورصيده فى قلوب من أحبوه لا تساويه كل كنوز الأرض.