رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

طقوس

جريدة الدستور

جاءنى تليفونها الصباحى الذى يوقظنى دائمًا، عادة لا أحب الاستيقاظ وأنا أحلم
صباح الخير يا حبيبى
«صباح الخير يا حبيبتى.. افتقدتك»
أقولها بصوت به بحة حزينة!
كنت معى طول الليل
حقيقى
أغرقت المرتبة كعادتى وأنا أفكر فيك!
تبتسم ابتسامة شقية وتصمت
ألا تخجل يا حبيبى من هذا الكلام.. ثم كيف تغرق مرتبتك دائمًا هكذا، وأنت نائم!
فأستأذنتها أن أذهب لآخذ حمامى، أغلقت التليفون، لكن قبل أن أقوم من على سريرى، أخذت أنظر لهذه المادة اللزجة المتجلطة فوق الملاءة والتى أغرقتنى تمامًا من أول أذنى وحتى ركبتى، يا لا كل هذا السائل، ألا ينتهى، من أين يأتى كل هذا؟!

تقول فتاتى إن طولى يناسب وسامتى، وإن للون عينى الآخاذ إحساسًا مرعبًا لها أحيانًا، خاصة عندما أضع فاصلًا بين العينين، وأنظر لها فى شر مصطنع؟!
لكننى خجول جدًا رغم جرأة عينى هذه، وحدة طباعى الواضحة.. ترانى بجسدى الجاف كعود ثقاب ربما يكسر إذا حاولت إشعاله بقسوة!
تعتقد أننى فارس من فرسان العصور الوسطى التى كانت تتمنى لو قابلت أحدهم، كلما أخبرتها بأننى أغرقت سريرى وأنا نائم.. تخبرنى..
«ارحم نفسك شوية من التفكير فى الجنس، إنت إيه مبتتعبش»!
لا أعلم هل هى تتعمد أن تهمل إحساسى بلون البلل القانى الكريه هذا، أم أنها تتجاهل مرضى غير مهتمة بنوافير الدماء المتسربة دائمًا من أنفى وأذنى، لديها إصرار على أننى طبيعى ولا أعانى من مرض يفجر نافورات دماء دائمة.. تصر على أننى قوى وفارس عفى.. كيف ترانى هكذا؟!
هذه الحبيبة المجنونة، تخبرنى فى لحظات العشق والغضب بأن الله يحبنى وخصنى بمعجزة خاصة جدًا، ودائمًا ما تخبرنى عن تاريخى العظيم الذى لم أقدره.. كيف ترانى هكذا، وأنا الولد الذى لم يتعامل إلا مع الرمال الصفراء والوجوه الصفراء والعيون الحمراء؟!
لم يصادق أحد حتى النهاية، ولم يحب شيئًا حتى الموت..
قررت منذ طفولتى ألا أقبل نظرة عطف من أى مخلوق، كنت لا أقبل أن أمد يدى لله بالدعاء، لا أعرف لماذا، ربما لأننى لم أكن أدرى أن الآلهة مكانها السماء.. ولم تخبرنى أمى الغريبة عن هذا الساكن فى السماء! فقد أشعرتنى بأن لا طلب لشىء إلا منها ولا ينفعنى أحد إلا هى.. لذلك لم أشعر بطعم الحب والحنان الحقيقيين إلا منها، كنت متعلقًا بها بشدة، أعود لها فى كل كبيرة وصغيرة، وعندما خرجت من بيت العائلة الكبير المؤقت الذى كنت أعيش فيه لسبب لم أعرفه حتى وقتنا هذا، تعلمت فى بيتهم كيف أحافظ على قميصى الأبيض النظيف وبنطلونى الأسود الذى فردته تحت مرتبتى!
عدت إلى بلدتى، والتى أخبرتنى عنها كثيرًا كحواديت شعبية أمى الغريبة.. لم أكن أتوقع أن أرى كل هؤلاء البشر.. من أين أتوا؟.. وكيف يرعون الغنم هنا وكيف يميزون غنماتهم عن بعضها إذا كانوا بهذه الكثرة.. ما هذه المبانى الكبيرة التى تبدو كسراب فى صحرائى التى تلهمنى أحيانًا بأحلام جميلة أو كوابيس مفزعة، تخيلت أن بإمكانى حفر رمال الصحراء وعمل مقبرة لصديقى الجمل عندما مات، وكنت كلما حفرت فى الصحراء زاد تعبى، فأن تحفر فى الصحراء تمامًا كأنك تحفر فى الماء..! ورغم علمى بذلك فإننى عندما استيقظت من الحلم ذهبت جريًا للاطمئنان على جملى عند خيمة أمى الغريبة، فوجدته مهيضًا وهنًا.. لم أكتئب فقد دأبت فى الفترة الأخيرة على مضايقته، وقد تحملنى أكثر من اللازم.. ولمن لا يعرف.. الجمل لا يغضب.. الجمل يموت..!
ومع أننى أعلم جيدًا أنه لا مجال لدفنه فى رمال الصحراء، إلا أننى حاولت عمل حفرة بالفعل كما فى الكابوس.. لم أنجح فى حفر الحفرة.. رجعت للخيمة، لم أجده.. سألت عنه أمى الغريبة فقالت إنه جرى فى اتجاه لم تتبينه جيدًا، واختفى فورًا كأنه سراب!
أما هنا فى هذا البلد، الذى جئت إليه بحثًا عن جمل جديد بنفسى، فتجار الجمال فى السوق أصبحوا خادعين ولصوصًا.. رأيت ما لا أستطيع فهمه.. سوق كبيرة، كما أن هنا «ناس كتير غلابة» يبيعون.. يشترون.. فقراء.. لكن لا أعرف من أين حصلوا على أموالهم!
للعز ناس.. لا..
العز لقيط إذا قررت أن يتم تعزيزك.. والبيع والشراء فى السوق.. البضاعة موجودة بكل الأسعار، كما لاحظت أن هناك بضائع لا ثمن لها..
قمر.. زرع.. قلعة منورة جدًا.. تخبرنى حبيبتى عن تاريخ الأماكن التى نمر عليها، حتى إنها بجرأتها تؤكد أن القلعة تخص جدها!
ترى من يكون جدى أنا؟
القلوب التعبة تقوى على الإحساس بالحب والكره مثل القلوب غير التعبة؟.
وهؤلاء الناس المفتوحة قلوبها «على البحرى».. تحب كل الناس، تستقبل كل الضيوف المؤقتين لفترة ثم يبتعدون خوفًا من صوت الدقات العالى أن يصم آذانهم.. هل حقيقة هناك قلوب مفتوحة؟!
دائمًا يأخذنى الحماس لتحقيق أمانينا، وأشعر فجأة بأن أجنحتى تستطيع أن تطير فأسابق كل طيور السماء الوضيعة التى تلعب لعبة السباق المستمر، وما إن أبدأ بالرفرفة ينفك غراء الجناحين فيتساقط الريش الكبير فى الهواء كالمطر.. ولا يتجمع أبدًا من جديد إلا عندما يتملكنى إحساس بالحماس الزائف، كلما شعر باقتراب تحقيق أمنياته.
يئس.. إحباط.. انتحار.
لماذا يكسرون الناى، يخنقوننى بهوائه الساخن، يقطعون شرايين رقبتى، لكن لا أموت فى أى مرة، فى كل مرة يدفعوننى للانتحار.. لا أفعل.. لكننى أفعل؟!
ليس للحلم مكان هنا
«حرام
عيب
ميصحش
إلى متى تعتمد الأمنيات على الفتاوى وإلى متى أخنق لحنى حتى يسمح له بالدندنة..
لا..
لن أتنازل
أعزف
أسمع
أنزل تحت.. أطلع فوق
محدش له دعوة غير ربنا
لو مش راضى عنى.. ما كنتش هابقى بنى آدم.. بالتأكيد كنت هابقى طوبة..؟!»
دوم.. دوم.. دوم دوم دوم.. دوم.. دوم.. يااااااه كمان دوم دوم.. دوم دوم دوم.. دم. دم. دم..
هل تعلمون أن هذه دقات قلب مفتوح للحياة عن آخره.. يدق تلك الدقات المتلاحقة وكأنها تنذر بهجوم مدمر من قوات الأعداء.. وأن هذه الدقات تنتهى بنافورة دماء تخرج من الشرايين المتأهبة للانفجار فى أى لحظة.