رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حذارِ من الشفقة



مع أن اللعبة قديمة، وتم هرسها مئات بل آلاف المرات، إلا أننا انتظرنا أن يختلف اللصوص، حتى نعرف أننا وقعنا فى الفخ مع ملايين تعاطفوا بقلوبهم، بينهم نحو ١٥ ألفًا أخرجوا من جيوبهم نحو ٤٠٠ ألف دولار. والمؤسف، كالعادة، هو أن وسائل إعلام عديدة، دولية وعربية شاركت النصابين فى الجريمة.
فى طريقها إلى مدينة فيلادلفيا، أكبر مدن ولاية بينسلفينيا، نفد وقود سيارة كيت مكلور (٢٧ عامًا)، ووجدت نفسها وحيدة على الطريق السريع فى ساعة متأخرة من الليل. وبعد لحظات من الخوف، وجدت رجلًا مشردًا (بلا مأوى) يتقدم نحوها، وينصحها بأن تنتظر داخل سيارتها وتغلق أبوابها. وقبل أن تمر عشر دقائق، فوجئت بعودة الرجل، وهو يحمل وقودًا، عرفت منه أنه اشتراه بـ٢٠ دولارًا، هى كل ما يمتلكه. ولأنها لم يكن معها نقود، وعدته بأنها ستعود لإعادة المبلغ فى اليوم التالى.
القصة كتبتها «مكلور»، فى حساباتها المختلفة على شبكات التواصل الاجتماعى، وأضافت أنها وصديقها (زوجها لاحقًا) مارك داميكو قاما بزيارة الرجل عدة مرات، وقدما له بعض الهدايا والأموال، ثم أطلقت حملة تبرعات بهدف جمع ١٠ آلاف دولار، إلا أن جونى بوبيت (٣٤ عامًا)، المشرد، حصل من خلالها على أكثر من ٤٠٠ ألف دولار قدمها نحو ١٥ ألف متبرع. وهكذا، أصبح «المشرد الشهم» ينعم بالثراء، وصار رمزًا للإنسانية، ثم درسًا فى العرفان بالفضل ورد الجميل، بعد أن أعلن اعتزامه مساعدة المحتاجين!.
حدث ذلك، منذ سنة بالتمام والكمال، وحققت انتشارًا واسعًا على شبكات التواصل الاجتماعى، وأبرزتها واحتفت بها غالبية، إن لم يكن كل وسائل الإعلام الدولية والعربية. لكن الخميس الماضى أعلن سكوت كوفينا، المدعى العام فى برلنجتون، بولاية ويسكونسن الأمريكية، أن هذه القصة كاذبة ومختلقة بالكامل، وأن السيدة وصديقها سابقًا، زوجها حاليًا، قاما بتأليفها بالاشتراك مع المشرد سابقًا، الثرى حاليًا، للحصول على المال. وبعد أن وجه لهم تهمة النصب والاحتيال، أمر المدعى العام باحتجاز النصابين الثلاثة. والنكتة هى أن القرار (الاتهام) جاء بعد أن أقام المشرد دعوى قضائية، فى أغسطس الماضى، يتهم فيها الزوجين بالاحتيال!.
حدث ذلك هناك. ولأن الشىء بالشىء يُذكر أو لأن الكلام بـ«يجيب بعضه»، طبيعى أن تقودنا تلك القصة أو الحدوتة إلى قصص أو حواديت شبيهة حدثت هنا، أبرزها تلك الطبيبة المزيفة «ماريان ماجد» التى نجحت، بحساب «مضروب» على فيسبوك وصورة لفتاة تونسية، فى «قرطسة» الآلاف لأكثر من عام، جمعت خلاله تبرعات لتقديمها فى صورة مساعدات طبية، وإعانات شهرية للمحتاجين، وفى تدوينة كتبتها يوم ٨ فبراير ٢٠١٧، زعمت أنها ستجرى جراحة اسمها «ربط دوالى المرىء» فى المركز الطبى الدولى.
التدوينة، كما كل تدوينات المذكورة السابقة، ألهبت مشاعر الجماهير العريضة. لكن سرعان ما بردت المشاعر والتهبت الأقفية (جمع قفا)، باكتشاف أنه لا وجود لصاحبة الاسم بالمركز الطبى الدولى، سواء طبيبة أو مريضة. وبالتالى، لم تكن «ملاك رحمة على الأرض» ولا «عانقت بروحها ملائكة السماء»، كما ذكرت جريدة «الوطن» فى عنوان نشرته، الخميس ٩ فبراير ٢٠١٧، قبل أن يتم تغييره، بعد يومين، إلى «القصة الكاملة لصاحبة الحساب التى قلبت السوشيال ميديا فى ٤٨ ساعة».
قبلها، أى قبل تلك الواقعة، قضت الدائرة الأولى جنايات، بمحكمة القاهرة الاقتصادية، بمعاقبة رضوى جلال، «هاربة»، بالسجن ١٠ سنوات غيابيًا وغرامة ٥٠٠ ألف جنيه، ورد مبلغ قدره ٢ مليون و٨٣ ألف جنيه لمن استولت على أموالهم بزعم استثمارها. و«المذكورة» هى أرملة أحمد جبلى، الذى مات متأثرًا بسقوطه فى حمام منزله، وصار «عريس السماء» فى وسائل الإعلام وشبكات التواصل التى امتلأت بالبكائيات عليه، وتم حفر نصف آبار الماء فى أوغندا ومدغشقر، من التبرعات التى تم جمعها على روحه. ومع ملايين التبرعات، جمعت أرملته ملايين أخرى، بزعم توظيفها، وحملتها وركبت الناقة، أقصد الطائرة، وشرخت إلى قطر!.
و... و... وهذا مجرد غيض من فيض، لا نعرضه إلا لنشير إلى وسائل الإعلام، المقروءة المسموعة، المرئية والبديلة، كانت طرفًا رئيسيًا فى تلك الجرائم. ونشير بالمرة إلى أن سياسيين وحقوقيين ومثقفين كثيرين لم يكتفوا بدور الضحية، بل كان منهم من حملوا «عدة شغل» النصابين، بترويجهم للقصص والحواديت والخزعبلات، التى أوقعت غيرهم فى الفخ.
.. وتبقى الإشارة إلى أن العنوان، عنوان المقال، استعرته من عنوان رواية النمساوى ستيفان زفايج، صدرت سنة ١٩٣٩، وتحولت سنة ١٩٤٦ إلى فيلم رائع، أخرجه بالعنوان نفسه، Beware of Pity، أخرجه موريس إلفى وتقاسم بطولته لى لى بالمر وألبيرت ليفين، وما زلت عند وعدى بأن أمنح ابننا، صديقنا وزميلنا «بيجاد سلامة» ألف جنيه عدًا ونقدًا، لو استطاع العثور عليه!.