رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محسن عيد يكتب: مشهد ليلي من جنازة شيخ الصناع إبراهيم سالم محمدين

جريدة الدستور

كثيرون هم الراحلون عن عالمنا،وقليلون هم الذين يبقون بعد رحيلهم داخلنا يؤثرون فينا ويحركون أفكارنا ويوجهون رؤانا.. والراحل المهندس إبراهيم سالم محمدين شيخ الصناع رئيس مجلس إدارة شركة الغزل والنسيج بالمحلة الكبري ثم رئيس مجلس إدارة الشركة الوطنية للحديد والصلب "الدخيلة" وزير الصناعة الاسبق هو واحد من هؤلاء الذين يبقي تأثيرهم ويستمر.. بذل كل حياته جهدا فوق الضمير،فتنقل من منصب إلي آخر،وفي كل منصب كان الرجل يحتوي المنصب وليس العكس فتحكم بعلمه وخلقه وشخصيته المتفردة في المنصب،فارتبط بروابط متينة وقوية بمرؤسيه الذين بادلوه حبا بحب حتي آخر لحظات حياته في مشهد تاريخي عندما هب موظفي غزل المحلة وحديد الدخيلة للتباري في حضور جنازته بعد ما يزيد علي30 عاما تاركا آخر مناصبه وبعد أن قضي في الحياة نحو 97 عاما لم يستسلم فيها جسده، ولم تعطب ذاكرته،ولم يفقد هدوء نفسه أو إعتدال فكره،ولم يبتعد عن القرآن لحظة..

كانت تجمعني جلسة قصيرة مع السفير ناجي هيكل أحد أهم قواعد آليات وأدوات وسهام محاربة الفساد في مصر،والذي نذر حياته للدفاع عن المظلومين والفقراء.. حاولت الاتصال بصديقي الدكتور إبراهيم مجدي حسين إستشاري الطب النفسي بجامعة عين شمس عدة مرات،ولكن في كل مرة خاب رجائي،فواصلت جلستي مع أيقونة محاربة الفساد ودحره..وفجأة قطع حوارنا رنين هاتفي ليرد الطرف الاخر "المهندس إبراهيم سالم محمدين صديقك وحبيبك في ذمة الله"..تلعثمت الكلمات علي شفاهي وتناثرت أشلاء،واختلطت الحروف وتبعثرت،واقشعر بدني.. فقد كان مخططا أن ألتقيه كعادتنا لولا سفري إلي المنصورة لمجاورة صديق قي محنة كبيرة.. حاولت الهدوء والتماسك مستسلما لارادة الله فينا،وبدون تخطيط هرولت ألي شارع جامعة الدول العربية بالمهندسين حيث يقيم الراحل العزيز...

وأنا في الطريق تحركت خيالاتي وذاكرتي يمنة ويسرة.. قطع هذه الهجمة الكبري من الذكريات إتصالا هاتفيا من حفيده وصديقي الدكتور إبراهيم مجدي وقال بصوت مبحوح،وأنفاس مهزومة وقلب مكلوم وحروف متطايرة "جدي الله يرحمه.. بيسلم عليك.. قال لي سلملي علي الاستاذ محسن وخلي بالك منه.. لأني جايز ما أعرفش أشوفه".. كانت هذه الكلمات بمثابة الثقل الاكبر الذي وقع علي رأسي،فلم تضيف إلي شجوني وأحزاني غير هموم أكبر وتشتت أكثر،وأدركت أن قلبي يتساقط من بين ضلوعي وأنا أقول له "أنا في الطريق إليكم يادكتور"

وقفت أمام منزله وقدماي ترتعشان، ويتملكني الخوف والرهبة،فهذه هي المرة الاولي التي آتي فيها إلي بيته دون أن يكون بيننا حوارا مطولا نتبادل فيه الرؤي للدرجة التي كان يقول فيها للدكتور إبراهيم كثيرا "إتصل لي بالاستاذ محسن عاوز أتكلم معاه شوية،وكنت دائما ألبي من فوري وأهرول إليه،فيقابلني ببشاشته وابتسامته العريضة التي تملأ وجهه..وإذا بالباب ينفتح لأجد من خلفه صديقي الدكتور إبراهيم واقفا خلفه.. أدرك الرجل تلعثمي الذي يشير إلي حالة من التوتر وبصفته طبيبا نفسيا وصديقا أعز أدرك أبعاد أزمتي النفسية في تلك اللحظة،ولا يزيد عنها غير أزمته التي يحاول أن يسيطر عليها دون جدوي،فتساقطت دموعه دون إرادة منه لتصلني الرسالة الكبيرة أنه في محنة هائلة بعد أن فقد جده السند،وقبله فقد والده السند الاكبر.

دلفت إلي منزله حيث تعرفني الحوائط وتصادقني المقاعد،وعلي مقعدي الذي كنت أجلس عليه بجواره جاءت جلستي،ولمحت بجوار المقعد الخالي بجانبي عصاه،فمددت يدي إليها حملتها وظللت أرمقها ولو كان الامر بيدي لحملتها معي،واحتفظت بها،ولم يستمتع بها سواي.. ووجدت في الغرفة إبنه المهندس أسماعيل الذي راح يحكي في تقطع مغمض العينين وأنفاسه تتقاطع مع الحروف ليحكي معاناته في محنته، عندما وقف متهما مع أحمد عز في استحواذه علي شركة حديد الدخيلة قبل أن تبرئه المحكمة، وهنا أدركت محنته وألمه وهمومه وأتراحه..

وفجأة سمعت صوتا هادئا تقيا كنت أعتاده في كل زيارة لصديقي الراحل هو صوت والدة الدكتور إبراهيم وإبنة الراحل العزيز تقول في ألم يغلف حروفها "خلوه يدخل يسلم عليه" واستكملت العبارة ومعها الدكتور إبراهيم قائلين في وقت واحد "كان بيحبك".. حاولت الوقوف بهدوء خشية أن تعصياني قدماي وترفض التفاعل معي،وتحركت متثاقلا مترددا صوب غرفته يرافقني صديقي حفيده الدكتور إبراهيم الذي كشف الغطاء عن وجهه،وكان الجثمان مسجيا علي سريره،وجدته وكأنه يبتسم لي ويخاطبني ويحاكيني ويقول لي "إتاخرت المرة دي !!!

قوة تتملكني وأنا أنحني لأقبل جبهته،ووجهه يشع نورا،ورائحته الطيبة تملأ المكان والقرآن في غرفته وبصحبته حتي بعد أن فاضت روحه.. كانت اللحظات كبيرة وقلبي قد زادت ضرباته وارتفع صوت نبضاته فخرت دموعي دون قدرة مني علي التحكم فيها،حاولت الخروج من الغرفة وعبيره يسكن أنفاسي وإرتعاشة تسري في أطرافي.. وعدت لمقعدي حيث واصل المهندس اسماعيل والدكتور إبراهيم حكاياتهما مع وعن الراحل العزيز..

هنا تذكرت صديقي المناضل الراحل طلعت السادات عندما إندلعت أزمته الشهيرة مع تاجر الحديد وسمسار النظام أحمد عز الذي كان يمثل في هذا الوقت عمودا مهما من أعمدة النظام السابق،وكان السادات في حلقة مع الاعلامي عمرو أديب علي قناة أوربيت في برنامج "القاهرة اليوم" وكان السادات قد أتهم النظام بأنه وراء الاجهاز علي شركة حديد الدخيلة وتسليمها لأحمد عز في عملية فساد كبري،وقال قولته المشهورة علي الهواء "كنت فين.. لما بناها محمدين".. وفي اليوم التالي تلقيت إتصالا من شخص عرفني بنفسه قائلا "أنا إبراهيم مجدي حفيد المهندس إبراهيم سالم محمدين – وكان في حينها طالبا بكلية الطب – وقال لي أن الاستاذ طلعت السادات هو الذي أعطاني تليفونك للتواصل معك.. قلت له "عاوز أقابل جدك وأتكلم معاه ".. فلم يتوان في اعطائي عنوان مكتبه في الزمالك،وكنت قد رتبت الامور مع الراحل طلعت السادات أن يستثمر المعلومات الموجودة لديه في حربه الشرسة مع النظام،وأيضا كنت قد تحدثت مع الصديق العزيز وائل الابراشي للنشر في صوت الامة حيث كنت أعمل بها،وكان يرأس تحريرها.

بعد التواصل معه وتحديد ميعاد لمقابلته ذهبت إليه ودخلت مكتبه المفتوح دوما،ووجدت خلف المكتب رجلا ذو هيبة،وإنسانا ذو هدوء وعيناوان متقدان،سلمت عليه ودعاني للجلوس،ولكنه أصر علي عدم الحديث في هذا الامر بالكلية..وقال" التاريخ هو الذي سيأتي يوما ويفتح خزائنه ليعرف الناس أي منقلب ينقلبون وأي وهم وكذب كانوا يعرفون !!!

حاولت جاهدا إثنائه عن موقفه،وعندما أدرك صدقي معه قال لي "سأحكي لك بشرط عدم النشر وتحت ضغط رغبته وعدته.. وراح يحكي عن زيارة جمال مبارك لشركة حديد الدخيلة قبل أن يستحوذ عليها أحمد عز،وقص كيفية استحواذه علي الشركة الوطنية،وقص الراحل عن معاناته للتحويل الشركة إلي شركة عملاقة،وكيف أضاف خطوطا جديدة للانتاج بالاتفاق مع اليابان،ومن ثم تحولت الشركة إلي أهم شركات الحديد في الشرق الاوسط.. والاهم أنه استنجد بالدكتور الجنزوري لينقذ الشركة من أحمد عز،وقص دور الدكتور عاطف عبيد رئيس الوزراء حينها في تسليم الدخيلة لعز.. وعندما طلب الراحل العزيز الدكتور كمال الجنزوري للشهادة أمام المحكمة تردد ولم يلبي إلا أنه تحدث في الاعلام مبرئا ساحة الرجل الذي حاول عز وجمال مبارك ومن ورائهما إغتياله نفسيا.."

ووقفت صامتا مشدوها من هول ما أسمع،حيث أدركت أن مصر مستباحة لكل آثم..وقلت له "مش مهم أنشر أنا.. المهم أن الكلام ده الناس لازم تعرفه" ولكنه أصر علي موقفه ووعدته وانصرفت متألما في عام 2006.. حتي كان يناير 2011 التي حركت المياه الراكدة فتحركت أمام محكمة الجنايات قضية استحواذ أحمد عز علي شركة الدخيلة وأصبح الرجل الوطني متهما.. وظلت الدعوي تتداول في محكمة الجنايات حتي برأته المحكمة.. ولكنه قال لي "ليتني سمعت كلامك.. ولكنها مشيئة الله"

كان الوقت يشير إلي ما بعد انتصاف الليل،استجمعت شجاعة العالم حتي استطعت النزول إلي شارع جامعة الدول العربية..خطواتي متثاقلة،وأنفاسي متسارعة،وعقلي في واديه شريد وحيد..الناس والسيارات والحركة سريعة متوالية وأحيانا عكسية متصادمة،إلا أنا أدرك أن حركتي ثقيلة بطيئة،وظللت أسير بهذه الحالة حتي وصلت إلي مكتب الصديق والاستاذ المستشار الدكتور أنور الرفاعي المحامي بالنققض الذي يوصف ب "صنايعي قانون" يتقدم علي الاخرين بفكره،وعلمه،وفلسفة قانونه،حتي نال من منصة القضاء ثقتها وشارك الناس همومها وأتراحها وقضاياها،وضجت قاعات المحاكم في كل ربوع مصر وجنباتها بمرافعاته.. فاندهش من وجودي وعندما علم برحيل شيخ الصناع شاركني ذكرياتي وشاطرني أحزاني، فعادت لي قوتي الضائعة،وعدت إلي بيتي متهالكا داعيا لشيخ الصناع صديقي الراحل،وداعيا كل الناس إعلاء دعواتهم له أن يسبغ عليه الله من رحماته..
وللحديث بقية...