رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الزنزانة

جريدة الدستور

بينما كانت تتسكع فى الشوارع تحت مطر ديسمبر الشهى، فوجئت به على حافة المدينة، مبنى مكون من طابقٍ واحد، كان ارتفاعه منخفضًا جدًا لدرجة اضطرارها لانحناء رأسها أثناء الدخول، كان الباب مفتوحًا قليلًا وكان يجلس أحدهم فى أحد الأركان على كرسى خشبى، وأمامه مكتب بسيط، كان منهمكًا فى الكتابة فلم يلحظ وجودها، خطت ببطء نحو المكتبة، أخرجت بعض الكتب وتصفحتها، وعندما أسقطت أحد المراجع كبيرة الحجم من يدها انتبه لوجودها، نظر إليها بملامح وجه لائمة لا مندهشة، فابتسمت بخبث قائلة لقد كنت فى الجوار، ودخلت لأحتمى من المطر، لمعت عيناه كنجمتين متلألئتين فى سماء صافية، لحيته البيضاء الطويلة جعلته يبدو وسيمًا جدًا، رغم سنّه المتقدمة، تحدث بصوت هادئ قائلًا: «يمكنك الجلوس إن أردتِ».
على الكرسى الهزاز جلست، فنظر إليها ثم إلى الكتب المتراصة فوق مكتبه وكأنّه يدعوها لتقرأ ما تشاء، استجابت بسرعة، مضت ساعات، أغلق الباب من تلقاء نفسه، نظر إليها مطمئنًا، ونظرت فى المكان فوجدت فى الحائط المقابل للباب شباكًا به عصيان حديدية متوازية، كما فى الزنزانة، يسمح بدخول الهواء وخروجه من الغرفة، كان الظلام دامسًا لكنّها رأت أشعة متراقصة تلاحق بعضها تخرج من عقله أضاءت المصباح المتدلى من السقف، الذى بدا كما لو كان موجودًا منذ بدء الخليقة، قرأ من الكتاب بصوت مسموع فارتفعت درجة حرارة الغرفة بشكل مفاجئ، لذا أخذت تتمتم هى الأخرى، فسرت موسيقى عذبة فى المكان.
فى صباح اليوم التالى، كانت الزنزانة مضيئة، وكأنّها بلا جدران لتحجب أشعة الشمس، وبدا كأنّها اتسعت بعض الشىء، وظهرت بها أريكة مزركشة، بدا كل شىء مريحًا، عدا عدم وجود الرجل الحكيم، ولكن بعد قليل من الانتظار دخل حاملًا بيديه طبقًا من التوت البرى اللذيذ، وضعه على منضدة لم تكن موجودة، حين دخل أكلا بعض حباته وعادا للقراءة، طوى كل منهما الصفحة التى كان يقرأها فى اللحظة ذاتها، وأخذا يتمتمان بنفس الكلمات، فتكونت عاصفة فى منتصف الزنزانة، وأخذ كل ما فى الغرفة يدور بسرعة فائقة، ضغطت العاصفة على السقف فانفجر، وعلت حتى عانقت السحاب، بقى الحال هكذا لمدة لا أستطيع ذكرها- فقد ارتبك مفهوم الزمن منذ التقيا.
عادت ترتدى فستانًا منفوشًا، مطرزة حوافه بما يشبه اللألئ، وكان على رأسها تاج لم أرَ مثله من قبل، لايمكننى وصفه، كل ما يمكننى قوله أنّه كان رائعًا إلى الحد الذى جعلنى أبكى عندما رأيته، أما هو فكان يرتدى سترة تصل إلى ركبتيه، وتحتها بنطال من نفس قماشها ولونها، وفى إصبعه الأيمن خاتم فضى به حجر كريم فيروزى اللون، وكان شعره أسود كثيفًا، كما كان فى شبابه، وكانت عيناه مكتحلتين ووجهه يشع بهاءً، أما الفتاة التى كانت تتسكع بشكل طفولى فبدت فى أوج نضجها وعقلها، صار كلاهما فى نفس العمر.
صارت الحوائط ملونة.. نبتت الزهور فى أرض الغرفة.. طبق التوت تضخم ليحوى كل أنواع الفاكهة المعروفة وغير المعروفة.. المصباح تحول إلى شمس.. الحبر تحول إلى نهر من المياه الجارية تتقافز منه الأسماك.. صارت الزنزانة جنة، لم يعد أى شىء كما كان عليه من قبل، أعينٌ فضولية كانت تترقب خروجهما. فُتح الباب ولكن أى منهما لم يخرج، ولكنّى لاحظت طائرين أجنحتهما فى منتهى القوة، وريشهما الملون فى منتهى الرقة، يرفرفان فتتحول ذرات الهواء حولهما لنور غمر العالم بأسره، وما زال يفعل.