رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عبور مؤقت

جريدة الدستور

.. وبمجرد أن وطأت قدماى أرض قريتنا لم أشعر بحنين الأمس!
فعند سفرى إلى اليونان كنت محملًا بأحلام كثيرة ومتطلبات أكثر لزوجتى والأولاد والمستقبل.
كان الأمر يتطلب إشعال سيجارة أخرى، ربما مع طعمها المرّ المتسرب إلى لسانى مع النفس الأول ومن بعده إلى رئتى يمكننى اكتشاف سر اختباء البحر من أمامى!!
على الطريق المرصوف بالقار وقف سائق الميكروباص وهو يبتسم: «حمد الله على السلامة يا باشا».
لا شىء يشغل تفكيرى سوى صوته الذى لم أسمعه حتى الآن، بادر بحل وثاق الحقائب، ربما الظلام هو الذى حجبه عنى أو تحريك الرياح جعلنى لا أستطيع تمييز صوته.
فى اليونان، البحر قاسٍ وصوته كأنه صراخ، وأمواجه جبال من حجارة ترجمنا!
هبطتُ الأسفلت، وعبر طريق ترابى صغير يفضى إلى البيت طرقتُ الباب، فخرجت إلىّ زوجتى ومن خلفها الأولاد يهللون ويسلمون، ومنهم من ارتمى فى حضنى، ولكن السائق قد اعتلى السيارة وراح يناولنى الحقائب واحدة تلو الأخرى، وما أن أمُسك بحقيبة حتى أرميها داخل البيت، وبعد أن أنزلت الدراجة الصغيرة ودفعت بها إلى داخل البيت أشار بيده، فمددت له بعلبتين من السجائر «المارلبورو»، فضحك وانصرف عائدًا من حيث جاء.. القرية وكأن بها ميت، لا صوت لأحد ولا حركة!
فى صدر البيت جلستُ ومن حولى الأولاد يُقبّلون بشرتى السمراء، بينما كانت زوجتى تجهز كوبًا من الشاى بعد أن أخبرتها بأننا أكلنا فى الطريق، قلت لها: أيام وندخل الغاز، ونبلّط الحمام بالسراميك، فأشارت إلى السقف المتشقق، وضعت كوب الشاى وهى تلومنى على قلة أكلى وعودى الممصوص.
حمد الله على سلامتك نورت بيتك.
أشرت إلى الحقائب والدراجة التى اعتلاها عمر، أما أمل فنامت فوق بطنى كما كانت تفعل قبل سفرى.
سمعتُ صوتًا غريبًا وكأنه حفار، أنزلتُ البنت وتركت كوب الشاى وفتحت الشباك المطل على طريق الأسفلت، رأيتُ أضواء كثيرة وآلات حفر تعمل بعيدًا، ومع حركة الرياح يدنو صوتها ويبتعد!
كان الحاجز الفاصل بطول الطريق قد بدا منه جزء أمام عينىّ عندما أُشعل المصباح المثبت أعلى العمود المواجه للبيت، عدتُ إليها فأجابت قبل سؤالى بأن مستثمرًا كبيرًا اشترى القرية، وأمهلنا أيامًا حتى نخلى الأرض!
وقبل أن أسألها عن موقف أهل قريتنا، أجابت بأن هناك مجموعة منهم اعترضوا، فكان جزاؤهم الحبس!
ابتلعتُ ريقى وأشعلت سيجارة أخرى وخرجت صوب البحر عبر الطريق المرصوف، وعند نهاية الطريق وجدت متاريس، ومن خلفها حراسة، أشاروا لى بأن أبتعد عن هنا، فمكانى هذا هو آخر حدودى المسموح بها، طلبت منهم أن أودّعه، فلى معه ذكريات كثيرة وأسرار أكثر!
قال أحدهم وهو يقرّب يديه من النار: «هو لا يريد وداعك»، فضحك الجميع وهم يلتفون حول راكية النار، كان صوت موجه الهائج وكأنه يستعطفنى، فكرتُ أن أقفز من فوق الحواجز، فالرمال الآن باردة والهواء فى صالحى، وما أقصى ما يفعلونه معى؟.. الضرب.. الحبس!
قال آخر: «الصباح رباح».. ففهمت أنه من الممكن أن يُسمح لى بالعبور، فلم أعد أفكر فى شىء سوى أن أرى البحر وأستمع إلى صوته.
فى نبرة حادة، بعدما سرى الدفء فى جسده قال: «الأولى أن تبحثوا عن مأوى لكم»، فسألته عن الشارى، فقالوا فى صوت واحد: «معالى الباشا اشترى كل شىء؛ البحر والبيوت والرمال، الشىء الوحيد الذى رفض شراءه هو أنتم»!
عدتُ من نفس الطريق، وضحكاتهم تعلو فوق صوته الغاضب، أجرجر أقدامى صوب البيت عبر الطريق الترابى.