رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

لن ينام معى العبث فى فراش واحد


عشقت الأدب.. ومن العشق ما قتل. قتلنى عشقى للأدب. أصابنى فى قلمى، وفى قلبى. لم أعترض فهو النوع الوحيد من القتل، الذى يعيد لى الحياة، ويجدد اليأس المعربد فى جيناتى الوراثية. كل قصيدة جديدة تلتف حول أصابعى، تضىء بقعة مظلمة. وكل قصة تأبى إلا أن أكتبها بدمى، تعيد لى الثقة، بأننى لن أنتحر، لن أدمن المخدرات، لن تهزمنى اللاجدوى، لن ينام العبث معى فى فراش واحد.
هل هناك أجمل من أن تقتلنى موسيقى الأشعار، ولذة صناعة الكلمات؟. ولكن أين يذهب عشاق، وعاشقات الأدب، فى مناخ يضع الأدب فى ذيل الأولويات، والضرورات، والمهمات؟. أين يذهب عشاق وعاشقات الأدب، فى مجتمع يرفع شعارات «أهمية الأدب»، «سحر الأدب». لكن الواقع يشهد على أن التعامل مع «الأدب»، هو من باب سد الخانات، وملء الفراغات، وتحسين الصورة، لخير أمة أُنزلت على الأرض. ومن باب التسلية، التى تدخل ضمن الكماليات، والحياة المرفهة.
يؤكد الواقع أن الأديبات والأدباء، هم آخر ناس يتم الاحتفاء بهم. حيث تحظى الممثلات والراقصات والمغنيات ولاعبو الكرة وملكات الجمال، بالاهتمام الإعلامى، ومشاهد الاحتفاء.
من الطبيعى جدًا، من العادى جدًا، من الضرورى جدًا، فى مجتمعنا، أن نجد مساحة كبيرة، وفى الصفحة الأولى، بمانشيت كبير، فى أهم الجرائد، والمجلات، حوارًا كاملًا شاملًا، مع ممثلة، وربما تكون فى بدايتها، عن تفاصيل حياتها، منذ ولدتها أمها، إلى أن اختطفتها السينما، وتعاقد معها التليفزيون، كنجمة فى السباق الرمضانى للدراما. ومع الحوار، صور ملونة، والممثلة فى أوضاع وأماكن وحركات، وضحكات وأزياء، والتواءات غريبة ومريبة، ساخنة مغرية.
بينما الأديبة، الكاتبة، الشاعرة، فى بداية مشوارها، أو فى آخره، لا تحظى بأى اهتمام إعلامى، ولا تنعم بأى احتفاء. حتى لو كان خبرًا فى سطر واحد، عن كتابها الجديد، أو عن أحدث دواوينها الشِعرية.
فى الصحف على اختلافها، نجد أن الصفحات المخصصة للأدب، إما معدومة، أو تقلصت فى صفحة واحدة يتيمة. وتُلغى هذه الصفحة الواحدة اليتيمة، أو يُحذف نصفها، لنشر إعلان طويل عريض ملون، عن غسالة أوتوماتيك تقضى على التعاسة الزوجية، أو إعلان عن أحدث علاج للعجز الجنسى، أو عند افتتاح فندق عشر نجوم، أو عن حفلة لمطرب لا يصلح للغناء، وسعر التذكرة ألفا جنيه، أو عن فتاوى شيوخ، تنوى هدم الأهرامات، وبناء مقابر للنساء الأحياء.
وإذا بقيت صفحة الأدب، فإن المشرف عليها سواء كان صحفيًا أو أديبًا، تم تعيينه بالواسطة، لا ينشر إلا لشلة معينة، تعجب مزاجه الشخصى، وتتوافق مع مقاييسه عن الأدب الذى يستحق الاهتمام.
ثم يعهد فورًا لأحد النقاد، أو أساتذة الأدب، أو محررة أو محرر فى الصفحة «بيعرف يكتب عربى وحافظ شوية مصطلحات نقدية»، بتقديم «مديح»، عن ديوان شِعرى جديد، أو رواية جديدة، على أنه الديوان الأعظم، فى التاريخ الشِعرى، أو الرواية التى تستحق جائزة نوبل فى الأدب. وبالطبع يحرص، على أن يذكر منْ يعتبرهم أدعياء الأدب، وأنصاف المواهب، والمحاطون بشبهات غريبة، تستحق التعتيم، أو التجاهل، أو فضح دوافعهم المريبة للشهرة، والنجومية.
ويؤسفنى القول إن هذا المنطق بالضبط، نسخة كربونية، تعتمدها المجلات التى تزعم أنها «أدبية»، متخصصة. هذه العقلية الأدبية السائدة، تفضل إلقاء الضوء المكثف، لأديب مبتدئ، مثلًا من كازاخستان، أو شاعرة مغمورة من الصومال، عن ذكر أديب مصرى، أو شاعرة مصرية، من خارج الشِلّة، المعتمدة رسميًا. ويخصصون صفحات مطولة، لترجمة أشعار كاتبة من باكستان مثلًا، رحلت منذ مائة عام. لكنهم يتجاهلون شاعرًا مصريًا ما زال حيًا يُرزق. والكاتبة التى لا تعيش فى مصر، فى باريس مثلًا، أو فى لندن، ولا تكتب إلا بالإنجليزية، أو الفرنسية، مفضلة عن كاتبة، أو كاتب، يعيش فى مصر، ولا يكتب إلا بالعربية. وقصة واحدة، الأدب المبدع، الخارج عن الشِلل، والتنميطات النقدية المعلبة الذكورية، المحبوسة، المعتاد عليها، منذ مئات السنوات، هو منْ يأتى على الهوى، على المزاج.
السلفية ليست فقط، فى الفكر الدينى. فهناك «سلفية» أيضًا فى الأدب، والإبداع. وفى نسق الحياة بشكل عام الوجوه هى الوجوه، والأقلام هى الأقلام، فى صفحات الأدب، ومجلات الأدب، ومهرجانات الأدب، وندوات الأدب، وحوارات الأدب، ومعارض الأدب، وترجمات الأدب، وجوائز الأدب.