رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المتوهج.. يوسف إدريس فى حوار غير منشور: أنا رسول الكتابة.. وروايات نجيب محفوظ لا تعجبنى

جريدة الدستور

فى أحدث ظهور صحفى لها جدّدت السيدة رجاء الرفاعى، أرملة كاتبنا الكبير يوسف إدريس أزمة كنا نظن أن ملفها قد اُغلق وطواها النسيان ، فإذا بها- الأزمة- تخرج من تحت الرماد حية وقابلة للاشتعال، ونقصد بها الضجة التى أثارها يوسف إدريس احتجاجًا على فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل فى الآداب (أكتوبر 1988)، حيث كان «الغاضب الوحيد» كما وصفه ناقدنا الكبير رجاء النقاش، ففى نشوة الفرح ضرب يوسف إدريس يومها كرسيا فى الكلوب وخرج ليعلن سخطه، ويقول إنه الأحق بها والمرشح الأول لها، ولكنها ذهبت إلى نجيب لموقفه المؤيد للتطبيع مع إسرائيل، أى لأسباب سياسية وليست أدبية.

فى حوارها الأخير الذى يجىء فى الذكرى الثلاثين لحصول نجيب محفوظ على الجائزة الأدبية الأشهر فى العالم، حكت السيدة رجاء أن مندوبا من جريدة «التايمز» زار زوجها قبل أيام من إعلان الجائزة وأخبره أنه المرشح الأول ليكون أول عربى يحصل على نوبل فى «الآداب»، وأنه جاء ليجرى معه حوارا يستبق به إعلان النتيجة ، وهو- مع أسباب ووقائع أخرى- ما جعل يوسف إدريس مهيئا نفسيا للخبر، فلما أُعلنت النتيجة بفوز نجيب محفوظ لم يصدق، وأصيب بحالة نفسية عصيبة، وكان على يقين أن هناك مؤامرة واعتبارات سياسية وراء ما حدث، وأنه حُرم منها لمواقفه المعادية للصهيونية ولإسرائيل.

وبثقة كاملة قالت أرملة «تشيكوف مصر»: «مفيش حد مبدع فى العالم العربى زى يوسف وكان يستحق (نوبل) بجدارة».

والذين يعرفون يوسف إدريس بحق سيدركون، بلا جهد يُذكر، أن أرملته تكرر آراء زوجها ولكن بكثير من الدبلوماسية، وهو مصطلح لم يكن فى قاموس يوسف إدريس ولا يعترف به، فقد خلقه الله مشتعلا، يقول ويفعل وينفذ ما يؤمن به ولو بدا لآخرين ضربا من الجنون والنزق والتهور والحماقة.

كان يوسف إدريس مستعدا في كل وقت لأن يضرب في الثوابت ويكسر التابوهات ويفجر نفسه في المجتمع البليد ويشعل الدنيا بأفكاره الجريئة، وهو ما يتجلى مثلا في رأيه في الجنس، وهو رأي نحمد الله أنه أعلنه قبل المد السلفي وموجة التشدد الديني، ولو تأخر لزمانننا لرجموه أوأقاموا عليه حد الحرابة.. ففي حوار مدهش أجرته معه مجلة (الموقف) اللبنانية الشهرية في عدد يونيو 1970 ، وكان موضوعه عن (الكتابة والثورة والجنس) قال يوسف إدريس بثقة كاملة: "أستطيع أن أقول أنني من كتّاب الجنس بمعنى الحياة ، الجنس عندي يساوي الحياة (..) الجنس هو شهوة الحياة، وعلى هذا الأساس تكون الحياة فترة تواجد هذه الشهوة.. وفي رأيي أن علاقة الرجل بالمرأة تحتاج إلي ثورة، على اعتبار أن المرأة والرجل ليسا كائنين مختلفين ومنفصلين أو متباعدين ، إنهما متقاربين جدا، وعندما اخترع الانسان كلمة النساء وكلمة الرجال وجد هذا الصراع الذي أدى إلي خلق هذه الهوة السحيقة بين الرجل والمرأة، في حين أن العالم الحيواني أكثر انسجاما في عدم فصله الذكر عن الأنثى وفي إلغائه الأسماء، الإنسان شوه العلاقة بهذه التسميات والتقسيمات التي أدت نتائجها إلي سيل آخر من التسميات كالرذيلة والفضيلة والأخلاق والشذوذ .ألخ.. والحق أن الأديان هي السبب في هذا الجمود الذي أصاب علاقة الرجل بالمرأة وجعلها علاقة سرية ومرتبكة.. لأن العقائد في وقت من الأوقات قصرت كل همها على تنظيم العلاقة بين الرجل والمرأة ووضع العقبات بينهما ، وعندما كان العمل بديلا للجنس ظهرت الأديان لتحرم أو لتغلق الباب بين الرجل والمرأة كي يتفرغ الرجل للعمل ، وحركة الهيبز اليوم تؤكد افتراضي هذا ، فهم لأنهم لا يعملون عادوا إلي العمل الأساسي وهو مزاولة متعة الحياة ..إن قمة الحياة ليست أن تعمل بل أن تنام مع امرأة "!

رجل بهذا التحرر والتهور ماذا كنت تنتظر منه عندما يضيع منه حلمه الأكبر الذي انتظره طويلا وكان قاب قوسين أو أدنى منه بل وتهيأ نفسيا لتحقيقه ؟!

ويمكنني أن أذيع سرا عندما أقول أن إحسان عبد القدوس منع يوسف إدريس من ارتكاب (حماقة) كانت من الوارد جدا أن تتحول إلي (فضيحة) دولية ! ..ففي أول ظهور لنجيب محفوظ في جريدة (الأهرام) بعد ساعات من إعلان فوزه بجائزة نوبل كان يوسف إدريس موجودا بمكتبه ، ولم يستطع أن يسيطر على أعصابه ، وقرر أن (يعتدي) على الرجل الذي خطف منه الجائزة أو هكذا يعتقد ، وجرت السيدة نرمين القويسني سكرتيرة الأستاذ إحسان لتنبهه إلي ما يمكن أن يرتكبه يوسف إدريس بعد دقائق عندما يدخل نجيب محفوظ إلي مكتبه بالدور السادس ، وجرى إحسان بسرعة ليلحق يوسف وهو يصرخ (ده مجنون ويعملها)، ونجح إحسان في تهدئته وتهيئته لاستقبال نجيب ، وعندما سكت عن يوسف الغضب رفع سماعة التليفون واتصل بنجيب لتهنئته بالجائزة في اليوم التالي!

ورغم ما قاله وما فعله يوسف إدريس في يوم فرح نجيب محفوظ ومجده الأكبر فإنه بسماحة نادرة غفر له (زلته) ، بل وذهب ليسير في جنازة يوسف إدريس عندما فارق الدنيا في أول أغطسطس 1991، ويحكي لي صديقنا الأديب والكاتب محمد الشاذلي أنه (وكان يومها المحرر الأدبي لمجلة المصور) اقترب من نجيب محفوظ في الجنازة أمام مسجد عمر مكرم وهمس له طالبا موعدا عاجلا ليجري معه حوارا عن يوسف إدريس يُنشر في ملف خاص عنه في الأسبوع نفسه ، وببساطة همس نجيب بلا تردد : قوي ..عدي عليّ بكرة في الأهرام ، لكن الشاذلي استغل صداقته القوية بالرجل ورجاه أن يكون الحوار على عجل في اليوم نفسه ليلحق بالملف ، وبنفس البساطة همس : اسبقني على فندق (شهرزاد) ، وما يذكره الشاذلي جيدا أن نجيب محفوظ لم يسيء بكلمة ليوسف إدريس بل قال عنه أنه كاتب القصة العربية الأكثر إبداعا !

ولا نتجاوز عندما نقول أن يوسف إدريس لم يكن يمتلك تلك الكياسة ولا هذه السماحة المحفوظية ، شخصيته الحادة كانت تغلب عليه ، وتهوره كان يسبق رد فعله 

أمامى الآن وثيقة مدهشة تدلل على ما نقوله وتجليه بقوة، وهى حوار مطول مع يوسف إدريس لم ينشر فى مصر، والواضح أن الرجل فى حواراته مع الصحافة العربية خارج مصر كانت ردوده وآراؤه تتضاعف فى جرأتها.. ونزقها.

هذا الحوار الوثيقة أعتبره من أخطر حوارات يوسف إدريس وأهمها وأكثرها كشفا عن شخصيته ورؤيته لنفسه وللآخرين، وهو حوار طويل أجرته معه الكاتبة والشاعرة السورية سلوى النعيمى ونشرته فى مجلة «الكرمل» الفلسطينية فى عددها رقم 13 الصادر فى يوليو 1984، و«الكرمل» مجلة ثقافية أسسها الشاعر الفلسطينى الأشهر محمود درويش فى بيروت عام 1981، ثم انتقل مقرها إلى رام الله، ورأس درويش تحريرها حتى وفاته فى أغسطس 2008.

وفى هذا الحوار المطول تطرق الحديث إلى جائزة نوبل ونجيب محفوظ، وقال يوسف إدريس كلاما عنيفا وصاخبا، وكان ذلك قبل فوز نجيب محفوظ بها وأزمته معه بأربع سنوات، ما يدل على أن موضوع «نوبل» كان يشغل يوسف إدريس قبل الأزمة بسنوات ولم يأت فجأة!

وننقل هذا الجانب المثير من هذا الحوار /الوثيقة بنصه وبلا تزويق:

> هل أنت راضٍ عن كتابتك أم أنك تستنكرها أيضا؟

- تصورى أنى لا أقرأ أبدًا ما أكتبه

> ولكنك تقرأه وأنت تكتبه؟

- نعم ، لأول وآخر مرة، لا أعيد القراءة بعدها أبدا، ولا أريد أن أفعل.

> لماذا؟

- لأنى أعتبرها خطأ ارتكبته، هذا بجد ولا أتواضع.

> فى الوقت نفسه أنت معجب كثيرًا بما تكتب؟

- نعم، فأنا أعرف قيمته وأن لا أحد يستطيع أن يكتب هكذا أبدا، وفى العالم كله، ولا تناقض بين التواضع والغرور هنا، الاثنان متكاملان ولولا إحساسى بأن أحدا غيرى لا يستطيع كتابة هذا لراجعته مائة بالمائة ، هذا صحيح ، فأنا أحس أنه لو تنطح الإنس والجن والملائكة كى يكتبوا كلمة واحدة مما أكتبه لما استطاعوا، ولذلك فأنا مقتنع بما أكتب ولا أغار من أحد ولا أحسد أحدًا، ولست طامعا فى جائزة نوبل برغم أنى رُشحت لها أربع مرات ، أنا شيخ الطريقة الإدريسية فى الكتابة.

> تُذكّر الناس دائما ، وبخاصة عندما تحتد، بأنك المرشح العربى الوحيد لجائزة نوبل؟

- لا، لا أتحدث عن هذا، ولكن الحقيقة هى أن هناك من كتب مقالات مثل الدكتور صبرى حافظ، أستاذ الأدب العربى بجامعة استوكهولم ليقول إننى رُشحت هذا العام وللمرة الرابعة للحصول على جائزة نوبل، كان اسمى فى القائمة القصيرة التى تضم أربعة أو خمسة كتّاب، وكنت الثالث، حتى ليوبولد سنجور لم يكن فى القائمة.

> ماذا يعنى لك فوزك أو عدم فوزك بالجائزة؟

- لا يعنى لى إلا شيئا واحدا، هو أن أقول للكتاب العرب الذين يتهجمون علىّ إننى إنسان صاحب قيمة أدبية.

> تحتاج للجائزة كى تثبتك فقط قيمتك أمام هؤلاء؟

- نعم، لأسباب محلية محضة لا علاقة لها بالعالمية ، وأن أصير نجما عالميا أيضا .

> هل تتصور أن قيمتك ليست مثبتة إلى حد كاف عند الكتّاب العرب؟

- هى ليست كذلك عند صغار الكتّاب العرب.

> وماذا يهمك من صغارهم؟

- يهموننى، فهم الذين يكتبون فى الصحف، ويثيرون الدوىّ الأدبى، وعملهم أن يهاجمونى، وكانت هذه هى وسيلتهم للوصول إلى النجاح والخلود الأدبى ، ولا يستطيعون غيرها.

> أنا لا أذكر أنى قرأت هجوما عليك فى الصحافة العربية؟

- ليس تهجما مكتوبا دائما، قد يكون بشكل شخصى، إنه تعبير عن الغيظ لا أدرى سببه ، فأنا لا أضمر لأحد فى العالم العربى إلا كل إجلال وإكبار، لسبب واحد هو أنى لا أعرف كيف أكتب مثلهم ولا يعرفون كيف يكتبون مثلى ، لهم دينهم ولى دينى، لا أعبد ما يعبدون ولا هم عابدون ما أعبد، قال النبى هذا من ألف وأربعمائة سنة ، وأنا أقوله الآن.

> صار واضحا للدنيا كلها أن جائزة نوبل لعبة سياسية، ولاتُعطى إلا لغايات سياسية، وفقدت كثيرًا من لمعانها القديم ، لماذا هذا الإلحاح العربى عليها ؟

- أنا المرشح العربى الوحيد لهذه الجائزة، ليس هناك غيرى، وإذا قيل لك إن محمود درويش مرشح لها فهذا ليس حقيقيا، ولا نجيب محفوظ ولا توفيق الحكيم، أنا فقط، فهم يعتبرون أن لى ميزتين أساسيتين، كما كتب صبرى حافظ، الأولى أننى أكتب أدبا محليا تماما، عربيا تماما، ولكنه ينفذ إلى النفس العالمية، والثانية أننى كاتب قصة قصيرة فذ، كما يقولون، أنا أعتبر نفسى ما زلت تلميذا، ولكنهم يتصورون أن القصة القصيرة لم يفز أحد من كتابها بجائزة نوبل منذ أن أنشئت ، وآخر من رًشح لها كان أنطون تشيكوف، أهم من كان معروفا فى تلك الفترة ولم يفز ومات قبل أن ينالها.. هم يعتبرون أننى خلقت تطويرا نظريا فى القصة القصيرة، فى نظريتها ومفهومها ،أستحق عليه الجائزة ، أنا شخصيا أقول: لم أصل بعد إلى نهاية هذا الطريق، سأطور أكثر فأكثر، وإنى لم أبدأ بعد الكتابة، وأرجو ألا تكون الجائزة والحديث عنها ، وحتى نوالها، أشياء تحول بينى وبين العمل الدائب الذى أقوم به، لأنشىء فن قصة قصيرة عربيا يبقى أبد الدهر، أريد أن أبنى هرما عربيا للقصة القصيرة والمسرح العربى ، وأرجو ألا يتدخل أى عامل خارجى، ابتداء من نيل جائزة مجلة (حوار) عام 1966، عندما رشحنى لها أكبر النقاد العرب: محمد مندور ولويس عوض وجبرا إبراهيم جبرا ، وعندما أحسست أن هناك شكوكا حول مصدر تمويل هذه الجائزة (10 آلاف دولار) اعتذرت عنها ولم يحصل عليها أحد، وأُغلقت مجلة (حوار) وانتحر توفيق صايغ بسبب تلك الشكوك عن تمويل المجلة وارتباطاتها.

> هل كانت تلك الشكوك صحيحة؟

- لا أعرف، الله أعلم، أنا لم أر عضوًا فى المخابرات المركزية الأمريكية يكتب شيكا للمجلة، هكذا قيل، وأنا رفضت الجائزة ببساطة، وعام 1980 رُشحت كى أكون محكما من بين أربعة محكمين لتحديد أحسن كاتب قصة فى العالم من قبل جامعة كولورادو فى أمريكا، واخترت أنا نجيب محفوظ للفوز، ولكن واحدًا آخر هو الذى فاز، لا أذكر من كان.

> لماذا رشحت نجيب محفوظ؟ أتحب أدبه؟

- لا، لا أحب أدبه، ولكنى أحب شخصه، وهو يستحقها.

> كيف يستحقها وأنت لا تحب ما يكتب؟

- لا أحب ما يكتب، لأننى من مدرسة فنية مختلفة تماما.

> هل عليه أن يكتب بطريقتك نفسها كى تُعجب به؟

- لو وجدت الكاتب العربى الذى يكتب بالطريقة التى أحبها فعلا أو أتمناها لكففت عن الكتابة، هل هذا عيب؟، لو وجدته لقلت له: أنت ملك الكتابة، اذهب فأنت كاتب فاكتب إلى أبد الدهر، ولانسحبت، ولكننى أكتب لعدم وجود هذا الكاتب.

> هذا الكاتب غير موجود، وأنت تحاول أن تكونه؟

- أنا بدل رسول الكتابة، مادام هذا الرسول غير موجود فأنا أكتب.

> أنت تفعل ما كان يمكن لهذا الرسول أن يفعله فى الكتابة؟

- بالضبط، لذلك فأنا مستمر فى الكتابة، وليغفر لى القراء هذا الذنب.

> أنت (الأوحد) إذًا ؟

- لم أقل أنا الأوحد، ولكنى قلت: لا أحد يكتب بالطريقة التى تعجبنى، بما أتصوره أنا عن الكتابة، ولذلك أكتب محاولا أن أكون البديل.

هذا بالنص ما قاله يوسف إدريس فى حوار كان عنوانه: أنا.. أنا..أنا فقط!