رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

صناعة الكذب!


يقول المثل البريطانى القديم إن السياسيين غير مضطرين للكذب، لأنهم نادرًا ما يقولون الحقيقة. وقد تندهش لو عرفت أن ولاية أوهايو الأمريكية كان بها قانون يعاقب السياسيين إذا كذبوا خلال حملاتهم الانتخابية، لكن فى أبريل ٢٠١٤ قضت المحكمة الأمريكية العليا بإلغاء هذا القانون. وجاء فى حيثيات الحكم أن أى محاولة لتقييد أو معاقبة سياسى بسبب كذبة هى انتهاك دستورى ومخالفة لعقيدة مارسها السياسيون لعقود طويلة.
نظلم السياسيين، لو قلنا إن احترافهم للكذب سلوك فردى، أو اختيارى، وليس عملًا مؤسسيًا أو تجبرهم عليه سياسة الدولة. وهناك دراسات وكتب عديدة أكدت أن كل دول العالم تكذب، تكاد تتفق كلها على أن الدول تكون أكثر ميلًا للكذب فى شئونها الخارجية، أى على الدول الأخرى، بدرجة أكبر من كذبها فى السياسات الداخلية‮، أى على شعوبها.‬ وهناك تفاصيل مذهلة ستجدها، مثلًا، فى كتاب لـ«جون ميرشايمر» عن الكذب فى العلاقات السياسية الدولية، الذى شرح فيه باستفاضة، وبالأمثلة، الفرق بين الكذب والخداع‮ ‬والفبركة، ‬وبين حجب الأدلة والمعلومات‮.‬ وهناك أيضًا كتاب «كيف يكذب الليبراليون فى حرب الأفكار» الذى فضح فيه «جونا جولدبيرج» أكاذيب المتاجرين بالشعارات.
الأخطر من كذب الدول، والأهم من كذب السياسيين والقادة أو الزعماء، هو الأدوات التى يتم استخدامها فى ترويج الأكاذيب. وبين الوقائع الشهيرة، قيام الحكومة البريطانية، بعد شهر من بداية الحرب العالمية الثانية، باستدعاء عدد من كبار الكتاب والصحفيين، وتم الاتفاق معهم على أن يضعوا إمكانياتهم فى خدمة الدولة وأن يكتبوا قصصا ومقالات حسب الطلب أو بالأمر. وظل هذا التكليف طى الكتمان حتى كتب الناشر الأمريكى جورج دراون مذكراته التى كشف فيها الخدمات الجليلة التى قدمها لبريطانيا والولايات المتحدة بالتنسيق مع مجموعة كبيرة من الكتاب المشهورين وذوى الثقل، كانت تعمل بتوجيه مباشر من الخارجية البريطانية.
من خبراتهم مع البريطانيين والألمان، خلال مشاركتهم فى الحرب، تعلم الأمريكيون فن صناعة الكذب وطوروه، وصنعوا منظومة متكاملة للسيطرة على الرأى العام، المحلى والدولى، أضافوها إلى ترسانة الأسلحة التى تمتلكها الإمبراطورية الوليدة فى ذلك الوقت. وظلت تلك المنظومة تتطور وتتطور، حتى تفوقت الولايات المتحدة فى صناعة الأكاذيب وفى التلاعب بالعقول، على كل دول العالم، بما فيها دولة المنشأ، أى بريطانيا. وكانت الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتى (السابق)، أو بين الكتلتين الغربية والشرقية، هى الملعب الأبرز لاستعراض منظومة الكذب على مستوى أوسع جغرافيًا وأطول زمنيًا.
على هذا الملعب، الذى كاد يغطى مساحة الكرة الأرضية كلها، نجحت أجهزة مخابرات الدولتين العظميين فى السيطرة شبه التامة على عدد كبير من المثقفين، الشعراء، الروائيين والأدباء، الفنانين والموسيقيين، والصحفيين قبل كل هؤلاء. وهناك بدل الوثيقة، آلاف، بل ملايين، تم تسريبها تضم قوائم بأسماء مشاهير، مشاهير جدًا، اتضح أنهم تلقوا مكافآت منتظمة من المخابرات المركزية الأمريكية، C.I.A، إما عبر واجهات ثقافية (مجلات وجوائز ودور نشر) أو بشكل مباشر.
بظهور المواقع الإلكترونية، ثم شبكات التواصل الاجتماعى، لم تعد الأخبار الكاذبة مجرد شائعات تقوم جهات، كيانات، أو أجهزة بزراعتها فى وسيلة إعلام أو اثنتين أو حتى عشر. بل تحولت إلى صناعة كاملة، وقامت كل الدول، وفقًا لأحجامها وقدراتها، بتجنيد آلاف الخبراء ليقوموا برد الفعل والفعل معًا، أى ليقوموا بمقاومة الأخبار الكاذبة وصناعة أكاذيب مضادة، مستغلةً غياب الضوابط، ولاعبةً أو متلاعبة بعقول متصفّحى المواقع ومستخدمى شبكات التواصل، بمساعدة أشرار هدفهم ترسيخ فكرة معينة بغض النظر عن صحة ما يستندون إليه أو زيفه، أو باستغلال ««طيبين» يلعب خبراء صناعة الأكاذيب على سذاجتهم أو جهلهم.
لو دفعتك تصوراتك الخاطئة عن «النضال» إلى إغماض عينيك عن أذرع الإخوان الإعلامية، ولو منعك زكام «التثاقف» عن شم الروائح القطرية والتركية، ولو كنت ممن اعتادوا السخرية من «نظرية المؤامرة»، فإن ذلك كله لم يعد له محل من الإعراب، فى ظل معلومات مؤكدة تقول إن ما توصف بـ«دولة إسرائيل»، قامت فى الآونة الأخيرة بتكثيف نشاطاتها وتطوير أدواتها التكنولوجية، لكى تلعب فى دماغك، وربما فى... أشياء أخرى. وأحيلك إلى ما ذكرته جريدة «هآرتس» الإسرائيلية، فى ٩ مارس الماضى، عن قيام جيش الاحتلال، بداية العام الجارى، بإنشاء قسم خاص مسئول عن الحرب الإعلامية. وحتى لا تظن أن هذا القسم جديد أو مستحدث، أوضحت الجريدة الإسرائيلية أن القسم مستنسخ من قسم آخر تابع لفرع التخطيط!.
غير مستنقع الأكاذيب الذى عمنا فيه طويلًا، ولا نزال، وغير الطبول الكثيرة التى دقت على رؤوسنا، لم يعد سرًا أن هناك دولا تستخدم وسائل الإعلام التقليدية وغير التقليدية، فى لعب أدوار داخل دول أخرى، كما لم يعد ذلك اتهامًا مرسلًا يطلقه من أكلت «نظرية المؤامرة» أدمغتهم!.