رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

"دى مصر يا عبلة".. كيف عالجت السينما المصرية قصص الجاسوسية؟

جريدة الدستور

- بدأت بـ«الصعود إلى الهاوية» وانتهت بـ«ميدو مشاكل»

بتعدد أطراف أى واقعة أو حادثة، تتعدد الروايات وزوايا النظر، فما بالك بقصص أجهزة مخابرات تعتمد على السرية والغموض، هنا لا مجال لمعرفة الحقيقة كما حدثت بالضبط، فكل طرف يتفنن ويبذل أقصى ما يمكنه لنسج الأساطير حول الواقعة ليقنعك بوجهة نظره وحده لا شريك له، وتكذيب رواية الطرف الآخر. ومن البديهى أن تعمل هذه الأجهزة على استخدام السينما والفنون بشكل عام، بما لها من شعبية جارفة لترويج روايتها وترسيخها فى عقل المتلقى، فتتكرر عمليات التجسس والمبارزات الخفية بين مخابرات الدول المختلفة. وأخذت قصص المخابرات وعمليات التجنيد والجاسوسية حيزًا كبيرًا من خيال البشر، وأثارت فيهم الفضول لمعرفة خباياها والتوغل فى أسرارها المشوقة والمثيرة، فى الوقت الذى يوجد فيه من يتعامل معها بشىء من الهزل والسخرية تحت تأثير حالة من عدم التصديق فى جدية هذه الحكايات والمغامرات، على اعتبار أنها من خيال المؤلف. وأيًّا كانت حقيقة الأمر، تبقى قصص الجاسوسية ملهمة لخيال كتاب السينما، وتفتح أفقًا من الخيال لتقديم أعمال جادة وناجحة ومبنية على وقائع حقيقية وموثقة، ومن هذه الأعمال ما استند إلى قصص واقعية من ملفات المخابرات، ومنها أعمال هزلية قدمت عمليات الجاسوسية بشكل كوميدى ساخر.


جابر «بئر الخيانة» عاش خاين ومات كافر.. و«إعدام ميت» شبه اقتباس من ترابين

ربما من أكثر أفلام الجاسوسية جدية من حيث القصة الواقعية وبراعة الجانب الفنى من تصوير وإخراج، كان فيلم «الصعود إلى الهاوية» ١٩٧٨ الذى تناول واحدة من قصص الإحباط والخذلان التى أصابت الشعب المصرى بعد هزيمة ١٩٦٧، واستعداده لفعل أى شىء للتخلص من هذه المشاعر السلبية.
يحكى الفيلم عن المصرية «هبة عبدالرحمن سليم»، الطالبة فى جامعة «السوربون» الفرنسية، التى تعرفت على زميلتها اليهودية وأقنعتها الأخيرة بخطأ الصورة المشوهة التى تعرفها عن إسرائيل، لتبدأ رحلة «سلام» وليس «تجسس»- كما تدعى- حتى إلقاء القبض عليها وإعدامها، وقد شهد الشارع المصرى تفاصيل التحقيقات بشكل مفصل، ما أضفى الواقعية الشديدة على قصة الفيلم، تلك الواقعية التى افتقدها المواطن فى العصر الحديث.
قامت بدور الجاسوسة الفنانة مديحة كامل، وجسدته باسم «عبلة»، ومنها انطلقت الجملة الشهيرة «دى مصر يا عبلة»، وبالمناسبة، تلك الجملة فى الواقع لم يقلها الضابط المصاحب لها فى رحلة العودة إلى مصر، لكنها كانت إضافة من الكاتب صالح مرسى. الفيلم من بطولة جميل راتب ومحمود ياسين وإيمان سركيس وإخراج كمال الشيخ. ثم توقفت السينما المصرية عن إنتاج أفلام الجاسوسية طوال فترة السبعينيات، حتى عادت بفيلم مقتبس من ملفات المخابرات المصرية بعنوان «بئر الخيانة» إنتاج عام ١٩٨٧، للكاتب إبراهيم مسعود، وإخراج على عبدالخالق. يدور الفيلم فى فترة ما بعد هزيمة ٦٧، حول «جابر»، العامل فى ميناء الإسكندرية الذى اعتاد سرقة بعض الأغراض من الشحنات الموجودة فى الميناء، حتى تم القبض عليه وترحيله إلى الجيش، فهرب منه إلى إيطاليا، وبالمصادفة يخرج «جابر» باحثًا عن عمل فيكتشف أنه فى مكتب السفارة الإسرائيلية دون قصد، لكنها كانت بداية تجنيده لصالح المخابرات الإسرائيلية.
على عكس القصة الحقيقية، لم يكن هناك عامل مشترك بين «رجب عبدالمعطى»، الجاسوس الحقيقى، و«جابر عبدالمعطى» الذى قام بدوره نور الشريف سوى تفصيلة «ميناء الإسكندرية» ونهاية حياته بالانتحار، وأضاف الكاتب لمشهد النهاية جملة «عاش خاين ومات كافر»، فقد عاش «رجب» حياة الرفاهية والمستوى المادى المرتفع، لكنه كان فاشلًا دراسيًا، فسافر إلى أثينا رغمًا عن والده التاجر الثرى، حيث عرف من زميل مصرى له أن «الموساد» يصطاد الشباب المصرى ويغويهم بالأموال، فما كان منه سوى أن كتب رجاء للسفارة الإسرائيلية بأثينا بأنه يحتاج يد المعاونة والوظيفة بالطبع.
ما بين الاقتباسات من ملفات المخابرات والتأليف السينمائى، قدم ثنائى «بئر الخيانة» إبراهيم مسعود وعلى عبدالخالق أشهر هذه النوعية من الأفلام فى فترة الثمانينيات فى فيلم «إعدام ميت» الذى لا يستند إلى حقائق موثقة سوى بعض التشابه الدرامى بين قصة الجاسوس «عودة ترابين» الذى ينسب له أنه ابن الجاسوس الحقيقى فى الفيلم «منصور الطوبى» الذى جسد شخصيته الفنان محمود عبدالعزيز فى عام ١٩٨٥.

نادية الجندى تَخصُص بـ3 أفلام.. وختامها «جحيم فى الهند»

ما بين قصص جاسوسية موثقة ترجع إلى الواقع، وأخرى تُنسب إلى مؤلفها، انطلقت نادية الجندى فى فترة التسعينيات، بمعاونة زوجها حينهاالمنتج محمد مختار، لتكرس حياتها الفنية فى خدمة قضايا المخابرات، فى دور المرأة القوية التى لا تنكسر أمام المخابرات الإسرائيلية، بل تفوز عليهم جميعًا لتشعرهم بحماقتهم أمام ذكائها، ومن أفلامها «مهمة فى تل أبيب» عام ١٩٩٢ للكاتب بشير الديك وإخراج نادر جلال، الذى يدور حول الجاسوسة التائبة «آمال» التى تعمل لصالح إسرائيل ويصيبها الندم فتلجأ إلى السفارة المصرية فيتم الاتفاق معها على العمل كجاسوسة مزدوجة بين الدولتين.
وبعدها بعامين، قدمت الجندى فيلم «حكمت فهمى» عام ١٩٩٤، بمعالجة سينمائية للكاتب بشير الديك عن قصة الجاسوسة الأشهر فى فترة الحرب العالمية التى تحمل نفس الاسم، وإخراج حسام الدين مصطفى، ومن بعدها فيلم «٤٨ ساعة فى إسرائيل» ١٩٩٨ تأليف بسيونى عثمان، وإخراج نادر جلال أيضًا.
ومن الواضح أن السينما المصرية لم تُقدم على تقديم أعمال الجاسوسية فيما بعد فترة الحروب، إذ لم تعد تلك الفكرة جاذبة للمنتجين، نظرًا للتكلفة المرتفعة التى تتطلب السفر والتنقل عبر عدة دول لأغراض التصوير والاستعانة أحيانًا بممثلين من تلك الدول، بالإضافة إلى أن فترة التسعينيات شهدت ميلاد جيل جديد من المخرجين الذين صنعوا مدارس جديدة، تركيزها الأساسى على إحداث تغيير اجتماعى من خلال أفلامهم، أمثال عاطف الطيب ومحمد خان وخيرى بشارة وداود عبدالسيد، حيث اهتم رواد هذه الموجة السينمائية بالشأن الاجتماعى الداخلى، بعيدًا عن السياسة الخارجية إلا فيما ندر، وسميت بالمدرسة الواقعية. أما مع بداية الألفية الجديدة، فاستندت مجموعة من الأفلام الكوميدية إلى السخرية من أفلام الجاسوسية وتحويلها إلى مادة لانتزاع الضحكات، وربما كان أولها فيلم «ميدو مشاكل» بطولة أحمد حلمى الذى حول مبدأ تجنيد العناصر الاستخباراتية إلى مشاهد ساخرة من خلال الخدعة التى أوهمه بها خالد صالح، وفيلم «جحيم فى الهند» الذى حول كتيبة العمليات الخاصة إلى مجموعة أشخاص ساخرة لا تصلح حتى للعمل على الآلات الموسيقية التى يمتهنون العزف عليها.