رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محمد الباز يكتب: تركة الإعلام المنفلتة

محمد الباز
محمد الباز

◄ هناك إعلاميون خدعوا الرأى العام بأنهم أرباب المهنة وحماتها رغم أنهم سماسرة ربحوا الملايين
◄ الإعلام كان عبئًا على الدولة والرئيس فى أوقات كثيرة وحادث ريجينى أكبر دليل على ذلك
◄ الجميع اشترك فى جريمة تحويل الإعلام إلى سبوبة والإعلاميون بات همهم الأساسى أرصدة البنوك


لماذا نتحدث الآن؟: لعنة المسار.. وحتمية المصير

من السهل على غير المتخصصين فى الإعلام أن يهيلوا عليه التراب.
إذا قلت ما يُرضى الناس أبدوا إعجابهم الشديد بك، علّقوا فى عنقك شهادة بأنك موضوعى وصادق ودقيق، وتراعى مصلحة الوطن.

وإذا زلّت قدمك، وقلت ما لا يرضيهم، وضعوك على المقصلة، لعنوك، وانتقصوا من قدرك، واتهموك بأنك منحاز وغير مهنى وغير موضوعى، ولا تعمل من أجل الوطن.
تجد نفسك وأنت تمارس عملك الإعلامى موضوعًا بين قوسين، كل طرف يريد أن يجذبك إليه، ولو جربت ووقفت فى المنتصف، تجد الاتهامات آتية إليك بلا رحمة من الطرفين.
ربما لهذا ولغيره الكثير، دخل الإعلام المصرى فى حالة من التيه.

فهو لا يُرضى أحدًا، والمفاجأة أنه لا يُرضى العاملين فيه، ولو جربت وجلست ضمن مجموعة من الإعلاميين، ستجدهم يتحدثون بغضب عن الإعلام، ولا بد أن تتحير بالطبع، فإذا كان العاملون فى سوق الميديا يمتلكون كل هذا الغضب، ويحملون على أكتافهم كل هذا الاستياء، فمن هو المسئول عن هذا الخراب المقيم والدائم والمتجدد الذى تسبح على سطحه المهنة، التى هى فى أساسها واحدة من أدوات الأمن القومى المصرى؟.

هنا، لن أكون مدافعًا عن الإعلام باعتبارى واحدًا ممن عاشوا فى رحابه ما يزيد على عشرين عامًا، قضيتها جميعها فى مطابخ المهنة، وأعرف عن قرب التشابكات التى حكمت وتحكمت وصاغت ووجهت المحتوى الإعلامى، وهى تشابكات من الصعب أن يتدخل أحد للفصل بينها، فعلى ما يبدو أن الأقدار نسجتها على هذه الشاكلة، ومن الصعب على من ينظر إلى المهنة من خارجها أن يفهم مسارات هذه التشابكات أو تجلياتها.

وهنا أيضًا لن أكون جلادًا للإعلام المصرى، رغم أننى وبحكم معرفتى بالكثير- أغلبه لا يصلح للنشر- يمكننى أن أفعل ذلك، لكننى لا أهوى حفلات الندب الجماعى والبكاء المتواصل على ما انسكب من أحبار بلا فائدة، وتطاير من أخبار بلا عائد، وتناثر من أموال بلا مكسب حقيقى.

يمكن أن نضع ما سأرويه هنا، وهو كثير جدًا، تحت مظلة فهم ما جرى للإعلام المصرى خلال سنوات توهانه وسيولته، حتى وصلنا إلى مرحلة حرجة، يضع الجميع بين يدى الإعلام فيها مسئولية حالة التردى العام التى نعانى منها.

ستلمحون فيما أكتبه بعضًا من القسوة، وهى مطلوبة.
وستجدون بعضًا من الاعتراف باعوجاج الحال، مع إشارة واضحة لمن أوصلنا إلى هذا النفق.

وستعثرون على رؤية لمسار مهنة أصبحت بائسة فى انتظار مصير أكثر بؤسًا، ولن أدعك بعيدًا عن رؤية أخرى يمكن أن تعتبرها قلبًا للمائدة على رءوس الجميع.. فلا تلومونى إذا وجدتم ما يرهقكم أو يغضبكم.
وستسمعون بعضًا من النميمة التى ربما تكون محببة إليكم، أعرف جيدًا أنكم تحبون التلصص على سيرة هؤلاء الذين يتلصصون على سيرة الجميع، وعندما تعترض طريقهم، تجدهم يقولون لك إن هذا عملهم الذى يكفله لهم القانون، بل ويحميهم أيضًا.

وربما تجد فى النهاية بعضًا من الضوء الذى يعيننا على الخروج من نفق إعلام ظل طويلًا لا يقوم بدوره، الذى يريده الناس، ويكون سندًا لدولة تريد أن تنهض.

لن أطلب منكم السماح إذا رأيتم فى بعض ما أكتبه هنا إرباكًا للمشهد الإعلامى الآن، فحتى نعيد ترتيب أوراق اللعب، علينا أن نبدأ بتفنيطها من جديد، وإلا سنجد أنفسنا فى دوامة لا تنتهى.

يعرف الجميع أهمية الإعلام وقوته وقدرته على التأثير، ولأننى أعرف، كما يعرف غيرى، أن هذه الأداة معطلة بدرجة كبيرة، فليس علينا إلا إيقاظ من يقومون عليها، لأن تركها على حالتها لن يفيد أحدًا، اللهم إلا هؤلاء الذين يكيدون لهذا الوطن ليل نهار، دون أن يجدوا من يقطع عليهم الطريق.

لا إصلاح دون ضحايا، وأعتقد أن الإعلام المصرى أصبح مطالبًا بتقديم ضحايا اليوم وليس غدًا.


مَنْ ألقى بنا فى هذا الماخور الطافح؟

لن ترفض توصيفى لتركة الإعلام بأنها ثقيلة بالطبع، لكننى انحزت إلى توصيف ربما يكون أكثر دقة وشمولية أيضًا، فالتركة الإعلامية التى تحملها الدولة المصرية على ظهرها ليست ثقيلة فقط، ولكنها منفلتة أيضًا، وأعتقد أن هذا الانفلات كان وراء بذل جهد مضاعف- تبدد كثير منه- فى محاولة إعادة الثور الهائج إلى حدوده المهنية والقانونية أيضًا.

بعد ٢٥ يناير ٢٠١١، كان الوجع الملح على الجميع هو الانفلات الأمنى، لكن دون أن يدرك الجميع أنه كان هناك وجع أكبر وأخطر وأكثر عمقًا، وهو الانفلات الإعلامى.

الانفلات الأمنى كانت تجلياته واضحة جدًا، ظاهرة للعيان لا يمكن أن يجهلها أو يتجاهلها أحد.
لكن الانفلات الإعلامى تسرب بنعومة، وعلى أجنحة أصحاب رءوس أموال دخلوا خفية إلى المشهد، وبتخطيط وتنفيذ من إعلاميين خدعوا الرأى العام بأنهم أرباب المهنة وحُماتها، رغم أنهم لم يكونوا أكثر من سماسرة إعلام ربحوا منه الملايين، ولم يكن مهمًا لهم بعد ذلك ما الذى سيخلفون وراءهم من آثار مدمرة.

الآن وبعد محاولات كثيرة كانت الدولة وراءها أحيانًا بشكل مباشر وأحيانًا أخرى- وهى الأكثر- بشكل غير مباشر، انحسرت موجات الانفلات، لكن تظل أمامنا أزمة عاتية تحيط بساحة الإعلام، الذى من المفروض أن يكون أداة من أدوات الحرب فى معارك مصر الكبرى على الإرهاب ومن أجل التنمية، فإذا به يتحول إلى معول هدم وأداة تعويق.
لا أحد يثق فى الإعلام الآن على الإطلاق.

حاول أن تفرد أمامك خريطة الرأى العام المصرى، فلن تجد أحدًا يهتم بما يقوله الإعلام، اللهم من باب النقد وتوجيه الاتهامات إليه.
الدولة التى تباشر معركتها من أجل البقاء والبناء، لا ترى من الإعلام مساندة، بل على العكس تعتبره إحدى الأدوات التى تعطلها، فهو لا يقوم بواجبه كما ينبغى فى نشر الوعى بخطورة هذه المعارك، ولا يستطيع الرد على حملات التشكيك فى كل ما تقوم به الدولة صغيرًا كان أو كبيرًا.

الجمهور العام الذى يتابع الإعلام، من باب رغبته الملحة فى معرفة ما يحدث، وجد نفسه أمام أدوات صماء بكماء، غير قادرة على رى ظمأه للمعرفة، أو إقناعه بما يحدث على الأرض، فقط دعاية فجة إنشائية تفتقد إلى العمق، أو المعرفة بفلسفة نظام الحكم وما يقوم به من مشروعات.

جماعات المصالح فى مصر لا ترى فى الإعلام إلا أداة ابتزاز، بالنسبة لها هى أمام من يرفع شعار «ادفع لتحصل على البركة، وإن لم تفعل فأنت مستهدف حتى النهاية، وليس أمامك إلا أن تتجاوب إلى أبعد مدى، وإلا فلن تجد دعمًا».

المثقفون يعيبون على الإعلام تحوله إلى أداة تغييب متعمد عن الوعى، فهو بالنسبة لهم يعمد إلى إشغال الناس عن قضاياهم الكبرى، ثم إنه لا يلعب أى دور، صغيرًا كان أو كبيرًا، فى معركة الوعى الكبرى، التى لا تقل أهمية عن معركة الحرب على الإرهاب أو معركة البناء والتنمية، ولذلك طبيعيًا أن يتصدر المشهد عديمو الموهبة ومنحطو الثقافة.

أساتذة الإعلام يتعاملون مع ما يحدث أمامهم، سواء على مستوى الصحافة المكتوبة ورقيًا وإلكترونيًا أو الإعلام المرئى والمسموع، على أنه مجرد عبث، لا مهنية فيه، ولا أثر لأى قواعد يمكن من خلالها أن يحقق الإعلام هدفه فى تنوير المجتمع وتبصيره، ووضعه الناس على الطريق الصحيح، للمساهمة فى بناء بلدهم وحمايته.

رجال القانون يتعاملون مع الإعلام على أنه «مسجل خطر» يقترف كل الخطايا والآثام التى تعرفها كتب القانون وتنص عليها، وتلك التى لا تعرفها أو لم تتطرق إليها فى أدبياتها، بالنسبة لهم تجاوز الإعلام كل الخطوط والحدود، وارتكب من الموبقات ما يجعله متهمًا، ولا يفيده أن يترافع عنه كل محامى الأرض مجتمعين.

فئات المجتمع المهنية من أطباء ومحامين ومهندسين ومعلمين وغيرهم لا يرون فى الإعلام خيرًا مطلقًا، فهو بالنسبة لهم منحاز طوال الوقت، يحاول أن يسترضى الجمهور على حسابهم، فلا يتصدى لقضاياهم بجدية، بل يناقش ما يعانون منه من على السطح، دون الدخول فى صلب القضايا وبؤرتها.

الحقوقيون وأصحاب منظمات حقوق الإنسان لا يرون فى الإعلام إلا أداة من أدوات انتهاك حقوق الإنسان، فهو لا يدافع عن المظلومين، بل يعين عليهم، ويهدر حقوقهم، وليته يفعل ذلك عن فهم، بل يمارسه ممارسة الدبة التى تقتل صاحبها دون أن تعانى من أى تأنيب ضمير يمكن فى لحظة أن يعيدها مرة أخرى إلى جادة الطريق.

الخريطة الآن مهترئة إذن، ولا يمكن لأحد أن يدافع عن مهنة تخلت هى عن التمسك بحقها فى الحياة، فالجميع يضعها فى خانة الاتهام، وهى لا تكلف نفسها بإصلاح ما فسد، بل تتماهى مع الجميع حتى يرضَى الجميع، وهو ما أفسد الحالة الإعلامية فى مصر تمامًا.

العدل يقول إنه كى نحاسب الإعلام على ما تقترفه يداه، لا بد أن نضع بين قوسين المهمة المطلوبة منه، وهى بالمناسبة مهمة ليست مطلقة، بل نسبية، فدور الإعلام فى أى مجتمع، يتغير بتغير الظروف والأحوال والسياق الذى يعيش فيه أى مجتمع.

وهنا يكون من حقك أن تسأل: وهل حدد أحد للإعلام مهمته التى يجب أن يقوم بها فى مصر بعد ٣٠ يونيو تحديدًا؟، ثم على أساس هذه المهمة يمكن أن نحاسبه، ونضعه أمام نفسه فى المرآة، ونقول له: انظر.. هذا وجهك القبيح الذى أورثته لنفسك، وعملت باجتهاد على تشكيله، وعليه فلا تلومن إلا نفسك.
هنا لا بد أن أعود إلى أول اجتماع عقده الرئيس عبدالفتاح السيسى مع الإعلاميين فى قصر الاتحادية، وكان ذلك الاجتماع فى الأيام الأولى من ولايته الأولى فى الحكم.

قبل أن يدخل الإعلاميون إلى الاجتماع مع الرئيس، وفى الصالة المجاورة لقاعة الاجتماعات الرئاسية، تبادل بعضهم النقاش حول القضية التى كانت المناقشة حولها حادة جدًا، تجذب لها مؤيدين وتصنف لها معارضين، وهى قضية هل يوجد عذاب قبر أم لا؟

كان الكاتب إبراهيم عيسى هو من أثار هذه القضية وتحمس لها فى أحد برامجه.
رأى بعض الإعلاميين أن هذه القضية ما كان يجب أن تثار الآن، لكن إبراهيم بعنجهيته رأى أن وقتها مناسب تمامًا، لأن محاربة الفكر المتطرف يجب أن تبدأ بنسف كل الأساطير التى تحملها كتب التراث، ورفض أى محاولات لإثنائه عن حملته أو لنقل عن غيه.

الغريب أن الرئيس عندما اجتمع مع الإعلاميين بعد دقائق من هذا الحوار الجانبى أشار إلى هذه القضية، وقال إنه ليس وقتها لا هى ولا مثلها من القضايا، لأنها فى الأساس خلافية، ولا يملك أحد قولًا فصلًا فيها، والغريب أن إبراهيم عيسى الذى كان متحمسًا جدًا لوجهة نظره، أخذ يهز رأسه علامة على الموافقة على ما يقوله الرئيس، وكأنه لم يكن رافضًا منذ قليل لأى نقاش حول مسلكه الإعلامى.

قبل أن يتحدث الرئيس حدث موقف كان محرجًا للجميع، لقد أراد بعض الإعلاميين الذين لا يلاقون قبولًا كبيرًا لدى الرأى العام أن يجلسوا إلى جوار المقعد الذى سيجلس عليه الرئيس، أو على الأقل قريبًا منه، وكانت غايتهم من ذلك أن يقولوا للناس إنهم مقربون من الرئيس، وإلا لما سمح لهم بالجلوس إلى جواره أو على مقربة منه.

تصرف مساعدو الرئيس بحكمة، وتحدثوا مع هؤلاء الإعلاميين- يعرفون أنفسهم جيدًا- وأقنعوهم بأن الجلوس فى القاعة مرتب مسبقًا، ولا داعى للخروج على هذا الترتيب.

استمع الرئيس إلى الإعلاميين الذين حاول بعضهم أن يبدو متحمسًا وهو يتحدث، للدرجة التى اعتبر معها البعض أن هناك من كان يزايد على موقف الرئيس فى قضية الحرب على الإرهاب وحق الشهداء، وكانت هذه مفارقة أعتقد أنها لم تمر مرور الكرام.

بعد أن استمع الرئيس إلى كلام الإعلاميين، أدرك أنه أمام مأساة كاملة، فهؤلاء لا يعرفون ما يجب عليهم القيام به، لا يرتبون أولوياتهم، ولا يضعون فى اعتبارهم أن المهمة بعد ثورة ٣٠ يونيو كبيرة.

دون أن يضيع الرئيس وقته، أو وقت هؤلاء الذين اجتمع بهم، قال لهم كلمة فاصلة أعتقد أنها وزعت المهام بشكل دقيق وصحيح أيضًا، شرح الرئيس التحديات التى تواجهها مصر على المستوى الدولى وعلى المستوى الداخلى، وقبل أن يلتقط أنفاسه، قال للجميع: «اتركوا مهمة تحديات الخارج علىّ أنا.. كل ما أريده منكم أن تتصدوا أنتم لتحديات الداخل»، وكان يقصد أن يهتم الإعلام بالجبهة الداخلية، يشرح للناس حقائق ما يجرى على الأرض حتى يصبحوا يدًا واحدة فى مواجهة الخطر الآتى.

على مدار ما يقرب من خمس سنوات، نفذ الرئيس عبدالفتاح السيسى ما قسمه لنفسه من مهام، تعامل مع الخارج باحترافية شديدة، ونظرة منصفة واحدة ستقودنا إلى أن كثيرًا من تحديات الخارج تحطمت على صخرة الإرادة المصرية، التى عملت من اللحظة الأولى على تذويب الجلطات التى اعترضت طريق تدفق الدماء فى الشرايين التى تربط مصر بالعالم لخارجى.

تحمل الرئيس ما لا يتحمله بشر، أحاطوه بعقبات وأزمات ومشكلات متعاقبة وحادة، لكنه كان يتعامل مع كل ذلك باحترافية شديدة، وعندما كان ينظر إلى المهمة التى قسمها للإعلام فى اجتماعه الأول برموزه، كان لا يجد سندًا ولا معينًا، بل كان الإعلام عبئًا على الرئيس، ولن أذكّر بما جرى فى قضية مقتل الباحث الإيطالى جوليو ريجينى.

لقد استبق الإعلام المصرى الأحداث، وألصق التهمة بالأجهزة الأمنية المصرية، اعتمادًا على مصادر ساقت ما تريده عبر شبكات التواصل الاجتماعى، وهو ما استعانت به وسائل الإعلام الإيطالية، وأعادت تصديره إلينا مرة أخرى، وكانت الحجة الجاهزة عندهم أن الإعلام المصرى هو الذى يقول، وأعتقد أن معالجتنا هذه القضية نموذج لتهافت الإعلام وعدم وعيه وإدراكه، وهذا اعتراف لا أجد فى نفسى حرجًا من إثباته وتوثيقه، على الأقل من باب التطهير الذى هو بداية الطريق للإنقاذ.

واقعة أخرى لا تقل خطورة ولا أهمية، فعندما جرت معركة الشيخ زويد فى أول يوليو ٢٠١٥، تسابقت المواقع الإلكترونية والصحف إلى نقل ما جرى عن مصادر تتحدث بلسان داعش، وكانت كل المعلومات تشير إلى انتصار التنظيم الإرهابى، وكان هذا طبيعيًا، فداعش كان ينتصر بالإعلام.

أذكر أننى كنت أباشر عملى فى صالة تحرير الجريدة التى كنت أصدرها، وجاءنى رئيس قسم الإسلام السياسى فى الجريدة، حاملًا بيانًا أصدره تنظيم داعش، ويريد أن نعتمد عليه فى إعداد تقريرنا عما جرى، فصرخت فيه، وقلت له: «عندما يكون الجيش المصرى فى حرب، يجب ألا نعتمد فى معالجاتنا على مصادر لأعدائه، وعلينا أن ننتظر ما سيقوله الجيش».

كانت المعالجة منفلتة تمامًا، لا وعى فيها لحدود المعركة ولا إدراك لخطورتها، وكان طبيعيًا أن تتدخل الدولة، ويصدر القانون الذى نص على أن تعتمد الصحف والمواقع والقنوات على البيانات الصادرة من الجهات الرسمية عن المعارك مع الجهات الإرهابية، ومن يخالف ذلك يتعرض لعقوبة قاسية.
كان هذا القانون أول بوادر محاولة لم الإعلام والوقوف أمام انفلاته وعدم مهنيته، وأقصد بالمهنية هنا الاحتراف الذى يفتقده الإعلام المصرى بدرجة كبيرة.

السؤال الآن هو: مَنْ المسئول عن كل هذه الفوضى؟ أو بتعبير الشاعر الكبير «صلاح عبدالصبور» مَنْ ألقى بنا فى هذا الماخور الطافح؟، مَنْ الذى أدى بالإعلام المصرى إلى كل هذا التهافت والانحطاط المهنى الذى تحول من مجرد أداة إلى سلاح خطر على الدولة والشعب؟.

الإجابة تستدعى محاولة الاقتحام الكامل لكل من يتعلق الإعلام فى رقبتهم، ليس من الآن ولكن من سنوات مضت، أدت بنا إلى أن نكون فى مواجهة هذا الوضع الكارثى.
الاقتحام العادل يقتضى أن نضع الجميع فى مساحة الاتهام، واسمحوا لى أن يكون حديثنا مطولًا، نضع فيه كل جهة أمام مسئوليتها وبالأسماء، فدون ذلك لن نصل إلى شىء.. أى شىء.

أمامنا مساحة نحاكم فيها الدولة فى عقود سابقة ساقت الإعلام أمامها ليحقق لها ما تريد، فتحول إلى أداة داجنة تنفذ ما يُطلب منها، دون محاولة لتقديم شىء له قيمة، لقد حولت الصحف إلى صحف لقارئ واحد، والمواقع لمتصفح واحد، والقنوات لمشاهد واحد.

أصحاب الصحف والقنوات أنفقوا عليها المليارات دون انتظار عائد، لأن العائد كانوا يحققونه مصالح ومكاسب من خلال استخدام وسائلهم للضغط فى كل اتجاه، ولدينا فى هذا الملف مشاهدات ووقائع كثيرة، أعتقد أن أحدًا لا يمكن أن ينكرها أو يتنكر لها.

الإعلاميون أنفسهم، هؤلاء الذين تحول الإعلام على أيديهم إلى بقرة حلوب، فليس مهمًا ما يقدمونه، بقدر ما هو مهم ما يجنونه، أصبحت أرصدة هؤلاء فى البنوك هى قِبلتهم الأولى التى يولون وجوههم شطرها، ولن أستثنى أحدًا، فقد كان الجميع مشتركين فى جريمة تحويل الإعلام إلى سبوبة، قيمته وأهميته بالنسبة لهم تحدد بقدر ما يحصدونه من أرباح.

القراء والمشاهدون الذين تحولوا من متلقٍ سلبى تمامًا إلى متلقٍ إيجابى أجبروا الإعلام على معالجات بعينها حتى يرضوا، وإذا كان الإعلام مارس دورًا كبيرًا فى ابتزاز الدولة والأجهزة وجماعات المصالح، فقد خضع الإعلام نفسه إلى ابتزاز من المتلقين، وما بين الابتزازين ضاعت الحقيقة تمامًا.

هل بقى شىء؟
بقيت أشياء بالطبع، فكل من تحالف مع الإعلام أفسده، وحوله إلى أداة مرذولة يفر منها الجميع.
هنا نبحث عمن أفسد، ونبحث أكثر عن محاولة للحل، فبقاء الإعلام المصرى على ما هو عليه ليس فى صالح أحد.. فالإنقاذ الآن أو لا إنقاذ على الإطلاق.