رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

من عصر الملكية للرصيف.. "عفاف وزبيدة" قصة كفاح أكثر من نصف قرن

جريدة الدستور

هدوء تام يغطي المكان، إضاءة بسيطة، تصطف الخضروات على جميع الجدران، بشكل جمالي، أشبه بلوحات الرسام الشهير، إيفان إيفازوفسكي، ومن بينهم تظهر، عفاف حسن، وأختها زبيدة، مرتديتان زيهن الفلاحي التقليدي، جلباب مزخرف بالورود، وتنسدل خصلات شعرها من أسفل منديلها، كزهرة تنير ذاك الحقل، هكذا كانت تظهر الأسواق، بعهد الملكية.

عفاف وزبيدة، البالغتان من العمر 95 عامًا، ترقدان في أحد الشوارع الجانبية بمنطقة العمرانية، في عباءتين سوداوتين، تملأ التجاعيد تفاصيلهن، إلا أن كل ذلك لم يخفِ جمال عيونهن وما رأينهن خلال السنين الطويلة.

يجلسن معًا إلى جوار أحد المقاهي، بشارع المستشفى، يفترشان الأرض ببعض حبات الليمون، وأوراق النعناع، الفجل، الجرجير، الشبت، البقدونس، الكزبرة، والملوخية، يلقي عليهن أحد رواد المقاهي "يا ست دة أنتي هربانة من الحنوتي"، لترد عليه زبيدة "وانت عمرك ما تشوف العز اللي شفته".

من هنا بدأت زبيدة، في سرد قصتها برفقة أختها، منذ أن ولدتا، حتى لحظتهن الحالية، قبل 80 عامًا، كانت رحلتهن الأولى برفقة والدهن حسن، الفلاح البسيط الذي غذى المدينة الكبيرة من أجل مرض زوجته، إلا أنها لم تستطع الصمود لأكثر من عام بعيدًا عن قريتها، بمدينة أسيوط، فوافتها المنية.

رفض حينها الوالد العودة إلى منزله القديم، بدون زوجته لتعلقه الشديد بها، فعاش بالقاهرة، فارًا من ذكرياته معها، اتفق مع ذويه في القرية إرسال كميات بسيطة إليه من محصول الأرض، ليبيعها في محله الصغير، بحي شبرا، بوسط القاهرة.

عملن مع والدهن في هذا المحل، وكانوا يبيعن البضائع لكبار رجال الدولة، الفنانين، الساسة، القائمين في الحي، حتى جاءت ثورة 1952، والتي قضت على الملكية من جذورها، فهرب كل من كان يحمل لقب "باشا"، "بيه"، "أفندي"، من الحي هاربين بعيدًا إلى حيث لا يعرفهم أحد، خشية أن ينقض عليهم عامة الشعب.

كما حدث مع أحد زبائنهم إبراهيم باشا، الذي اعتدى عليه أبناؤه، وتركوه في منزله الصغير بشبرا، وفر منه كل خادميه، بعد أن أصيب بحالة هستيرية بسبب فقدانه، هذا اللقب، كما أخبرتهم نعمة، خادمة إبراهيم باشا.

"الفلوس كانت قليلة بس البضاعة كانت كتير"، هكذا بدأت عفاف في رواية قصتها مع الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، فقد كانت حينها البلاد تعاني من قلة الأوراق النقدية في الدولة، ولكن الجميع كان يعمل جاهدًا في ظل الدولة الجديدة، معلقة "كان فيه خير".

وفي عهد الرئيس أنور السادات، توفي والدهن، وانتقلن بعدها للعيش في جنوب الجيزة، بعد زواج عفاف من أحد تجار الفاكهة هناك، وبعد بدء حرب أكتوبر راح زوجها شهيدًا في بورسعيد.

الأمر الذي جعل عفاف تنزل من جديد، برفقة أختها زبيدة، إلى السوق لتباشر عملا توقفوا عنه منذ سنوات، تراكمت الديون حتى اضطرتها لبيع كل شيء لتسديدها.

وهكذا ينتهي المطاف بعد أكثر من ثمانين عامًا، كمستأجره لهذه الرقعة البسيطة من رصيق القاهرة، محاولة الحصول على قوت يومها، بجوار زبيدة، أختها، ورفيقة كفاحها.