رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

من غرائب القاهرة


تعودت أن أرتاد القاهرة كل شهر، ينقلنى قطار الصعيد المكيف فى الصباح الباكر، وأرجع فى المساء المتأخر، وخلال تلك الفترة لاحظت كل التغيرات التى طرأت على القاهرة.
كان أهم ما لاحظته هو الجشع الشديد للمال، والرغبة فى الكسب السريع، خصوصًا من جانب من يقومون بتقديم الخدمات للجمهور بأجر أو بدون أجر.

فلا تستغرب عندما تدخل دورة مياه فى محطة القطار لتطالبك امرأة بأن تدفع لها، دون إيصال أو تذكرة. ولكن الجشع الأكثر كان من جانب التاكسى وسائقيه، ثم شاركتهم الشركات الكبرى التى لها رنين، مثل شركات الاتصالات، التى تنهب دون وعى، وشركات نقل الركاب بالتاكسى، والتى تقول إنها لمسة حضارية مثل باقى الدول الراقية، وما عليك سوى أن تطلب التاكسى من التليفون، وسرعان ما يأتيك السؤال عن الجهة المقصودة، ثم يحدد لك الرقم الذى ينبغى أن تدفعه، كل هذا وأنت واقف فى انتظار سيارة، وسرعان ما تتوقف أمامك سيارة حديثة فاخرة، يقودها رجل عظيم وفخم يرتدى ملابس تنبئ عن نبل وجاه، تستحى أن يقود لك السيارة، وما إن تغلق باب السيارة حتى تنطلق من داخلها نسمات باردة، تجعلك تسترخى، وهو ينظر إليك بكبرياء، ويبدأ معك الحديث ليكتشف أنك صعيدى، لأنك ركبت من أمام محطة السكة الحديد، الباب الشرعى لأبناء الصعيد لدخول القاهرة.

يبدأ معك الحديث بأدب جم ليسألك عن وجهتك، فأخبره أننى متوجه للزمالك، ثم يبدأ بأن يلعن الغلاء ومن جلبوه، وهو يضمر السب واللعن لشخص كبير، دون أن يصرح باسمه، ثم تبدأ سرعة السيارة فى التباطؤ، وهى تنزل من أعلى كوبرى الجيزة فى اتجاه حديقة الحيوان، فيخبرنى أنه سيخطف الطريق بعيدًا عن هذا الزحام، وينحرف يمينًا ليعبر كوبرى الجلاء، ثم ينحرف يسارًا لأجد نفسى فى المنيل. أخبرته أننى أعرف الطريق، وأن هذا ليس طريقى، فيخبرنى أنه يتلقى التوجيه من الخريطة، التى تقوده إلى أخف المناطق زحامًا، ويسير محاذيًا لكورنيش النيل ويعبر من ممر مخصص لأحد الفنادق الراقية، مستعرضًا مهاراته فى النصب على حراسه، ليتركوه يمر إلى جاردن سيتى، ثم أجد نفسى فى شارع قصر العينى، ثم يخترق ميدان التحرير، ليصعد كوبرى أكتوبر، كل هذا وأنا أنعم بلمسات التكييف الباردة، وكنا فى يوم قائظ الحرارة، ولما وصلنا بعون الله أمام مقر اتحاد كُتّاب مصر فى الزمالك، طلبت منه أن يتوقف لأنزل، ونظرت فى تليفونى ليخبرنى بأن الأجرة 47 جنيهًا، مع أننى فى أحلك الأوقات لم أدفع أكثر من ثلاثين جنيهًا، وفى حال توقف العداد تزداد المقاولة خمسة جنيهات، ولأننى زائر مستديم لاتحاد الكُتّاب، أعرف تمامًا قيمة الأجرة سواء بالعداد أو فى حال تعطله المتعمد بمعرفة سائقى المحروسة.

غاظنى موقف الشركة، وبدا لى أن تلك الشركة بإعلاناتها فى الصحف وموقعها الإلكترونى، تتعامل مع المواطن بطريقة أحقر سائق تاكسى فى العاصمة، حيث يستغل جهل الراكب بخريطة شوارع القاهرة ويطوف به أنحاء القاهرة كلها.
إذن فلا فرق بين سائق يستغل الركاب فى غيبة الشرطة ورجال المرور، ويعطل العداد متعمدًا. وبين شركة راقية، كلاهما جشع ويستغل جهل الراكب بخريطة شوارع القاهرة، أو يبيع لك الوقت المكيف الذى تقضيه فى السيارة، ويضاف إليه طبعًا أجر السائق الفخم، مالك السيارة التى يقودها تحت إمرة شركة النصب.