رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

إشارة إلهية

جريدة الدستور

انتفض جسد حنورة وهبَّ من نومه فزعًا يرتجف، وأخذ يمسح براحة يده عدة حبات من العرق تفصدت على جبينه ورقبته الضخمة كجذع شجرة، ثمَّ أزاح الغطاء الثقيل عن نصفه السُفلى وأخذ يتمتم بآيات من الذكر الحكيم وقد خفق قلبه واضطرب فى قوّة وتقلّص وجهه من الذعرِ، واستيقظت زوجته التى تنام بجواره على وقع انتفاضته القوَّية، فأضاءت «الأباجورة» التى بجانبها فأنارت الغرفة بإضاءة خافتة قابضة للنفس زادت من توحش الغرفة وكآبتها فى تلك الليلة الساكنة كالقبر، ثمَّ ناولت حنورة «قلة» فأخذها منها فى سرعة وصب مياهها فى حلقه فارتفع صوت قرقّرة المياه فى فمه وهى تنهمر داخله كالشلال، ثمَّ وضع «القلة» جانبًا ومسح طرف شاربه بكمه قبل أن تقول زوجته فى قلق انطبعت آياته على وجهها:
■ نفس الحلم؟
زفر حنورة فى حرارة وشت بما يعتمل فى صدره ليقول:
■ كابوس. خليقًا بكِ تسميته بالكابوس.
ثمَّ ساد صمت مفعم بأحاسيس شتى خامرتهما قبلما يستطرد حنورة:
■ أترَّجل فى طريق المقابر فى ليلة ممطرة باردة كئيبة، القبور والشواهد مبعثرة هنا وهناك، تتعثر قدمى فى شىء ما فيختل توازنى فأقع على الأرض المُوحلة كالجوال، وقبل أن أحاول النهوض تسحبنى يد عظمية من ساقى لداخل أحد القبور وهذا الصوت العميق يردد بلا انقطاع «الظلم ظلمات، الظلم ظلمات»، فأصرخ من الهول طالبًا النجدة محاولًا المقاومة دون جدوى، واليد العظمية تسحبنى رويدًا رويدًا لداخل القبر لأغوص فيه أكثر فأكثر.
قالت له زوجته فى اهتمام:
■ قلت لى إنّك ستتحدث مع الشيخ هداية عن هذا الكابوس وتفسيره.
قال حنورة فى لامبالاة:
■ قال لى «لا تقلق»، «خير إن شاء الله» ثُمَّ نصحنى بصلاة العشاء فى جماعة وقراءة الصمّدية والمعوذتين قُبيل النوم.
■ وهل فعلت ما نصحك به؟
■ بحذافيره.
وعاد ليسكت للحظات قبل أن يستطرد:
■ لكن.. ورغم ذلك فالكابوس يتكرر يوميًّا ويأبى ألاّ يفارقنى.
ثمَّ كور قبضة يده قائلًا فى مرارة:
■ ما كان لى أن أشنقها. كان لزامًا علىّ تصديق الإشارة الإلهية كما قالت.
وتراجع حنورة للوراء قليلًا مستندًا بمرفقه على وسادة وأسبل جفنيه يتذكر كل شىء.
الفتاة العشرينية التى صدر حكم بالإعدام بحقها وعندما حانت لحظة الإعدام وقام بإرجاع عصا الطبلية للخلف حدث ما لم يكن فى الحسبان نهائيًّا.
انقطع حبل المشنقة من الأعلى فسقطت الفتاة فى قاع طبلية الإعدام وسط دهشته ودهشة كل من حضر التنفيذ، بمن فيهم سيادة مأمور السجن شخصيًّا والواعظ الدينى.
وتذكر حنورة أنَّه رغم سنوات عمله الطويلة فى الخدمة بسجن القناطر بوظيفة «عشماوى»، والتى قاربت على الثلاثين، ومع العشرات ممن قام بإعدامهم تنفيذًا للأحكام الصادرة بحقهم، لم تحدث أمامه أبدًا حالة مشابهة لذلك الحادث العجيب الذى حدث أمام ناظريه والخاص بتلك الفتاة، التى– أى الفتاة- اعتبرت ما حدث إشارة إلهية للتراجع عن إعدامها لأنَّها- وكما قالت- بريئة ولم تقترف جريمة القتل التى تم إلصاقها بها.
واهتز حنورة- حينذاك- من أعماقه ممَّا حدث وضربه الارتباك وطوقته الحيرة وتبلبل عقله. بدا كطفل صغير يقف متّسمرًا فى مفترق طرق لا يعرف أى سبيل يسلكه. لم يدرِ ماذا يفعل ومأمور السجن يأمره بسرعة إصلاح المشنقة ومعاودة تنفيذ حكم الإعدام مجددًا؟، صحيح أنَّه وداخل نفسه صاح فيه صوت غاضب يأمره بعدم إطاعة مأمور السجن لكنَّه فى النهاية رضخ للأمر، وأعدمت الفتاة بعد إصلاح المشنقة مباشرة وتم التنفيذ بنجاح.
لكنَّه لم ينس أبدًا نظرتها التى تقدح بالشر والتى ألقتها عليه وعلى المأمور قُبيل تغطية وجهها بالجورب الأسود، وكانت تردد بلا انقطاع «الظلم ظلمات، الظلم ظلمات» و..
انتزعته زوجته من اجتراره لذكرياته الأليمة إجباريًا عندما قالت له:
■ الذنب ليس بذنبك. فى النَّهاية هناك قاضٍ حكم بالقضية وهناك مأمور أمرك بالتنفيذ فالمسئولية تقع على عاتقهما أولًا، ما أنت إلاَّ عبد المأمور.
- بل عبد الخوف وعبد لقمة العيش!
- هون على نفسك ولا تُحملها فوق طاقتها.
قال حنورة بصوتٍ تخنقه العبرات وفى أسى تبدى جليًا على قسماته:
- لو كان الأمر بيدى لكنت نسيت الموضوع وألقيته وراء ظهرى وسحقت عواطفى تحت حذائى، لكننى أسير لقوَّة غامضة، للعنة ما مجهولة تحلق حولى فى كل مكان كالنذير.
وشخصَ ببصره لسقف الغرفة وبدا أنَّه يُفكر فى أمر ما عندما استطرد:
- لا بُد من حل، ثمة حلول دومًا حتى لتلك المشكلات التى تقف أمامنا كجدار سامق من المستحيل.
لكن الحل لم يأتِ، ومضت الأيَّام متأججة بالخوف، ملبدة بالقلق، مثقلة بالهم، وزاد من سوء الحال واضمحلال وضعه العام تلك الهمسات التى اقتحمت حياته فجأة دون سابق إنذار. همسات لا مصدر محدد لها كانت تتناهى لمسامعه تردد دومًا «الظلم ظلمات» «إنّها اللعنة» «لا راحة ولا آمان بدون قصاص عادل»، لتجعل حياته جحيمًا حقيقيًا.
وشد ما تأثر حنورة بتلك اللطمات المتتالية التى قوَّضت نفسه، فتدهور حاله وتداعت صحته النفسية، فلزم بيته فى إجازة طويلة من العمل الذى لم يقو على الاستمرار فيه وهو على هذا الحال، وعرف طريقه لبار «عوارة» بباب اللُّوق- وهو بار متواضع وقذر لا يقصده إلا الحثالة والصعاليك- فانكبَّ على معاقرة الخمر ودخّان لفائف السجائر المحشوة عسى أن ينسى، أن يتبدد كل شىء، أن تنقشع ضبابيّة المشهد، أن تخرس الهمسات للأبد، أن ينام فى سلام كما قبل، لكن لم يحدث شىء البتة وبقى الوضع ككرة الثلج يتضخم يومًا وراء يوم ليسحقه عمَّا قريب.
وكان حنورة فى بار «عوارة» فى يوم ما يُوغل فى حضرة السُكر كالمعتاد وفجأة حدث وأن قام من مقعده بخطوات وئيدة من أثر السكر، ووقف فى منتصف البار يترنح قائلًا فى وحشية وقد برقت عينيه:
■ الحل يا أولاد الزنا الحل!
وحدث وأنَّ وقع حادثان غريبان لم يفصل بينهما إلاَّ قرابة الأسبوع، كان الحادث الأوَّل هو العثور على مأمور سجن القناطر مشنوقًا فى غرفته بشقته، والثانى هو العثور على قاضٍ بمحكمة مشنوقًا هو الآخر بنادٍ رياضى كان يذهب له لممارسة رياضة الجرى.
واهتز جهاز الداخلية للحادثين المتتابعين ووقفوا حيارى أمامهما لتشابه طريقة التنفيذ أولًا، ولعظيم شأن وقدر الضحيتين فى جهازهما الوظيفى والمجتمع ثانيًا، ومادت الأرض أكثر من تحت قدمى الداخلية بعدما توالت الأيَّام تباعًا دون الكشف عن أى دليل ولو تافه يقودهم لدرب الحقيقة، وهو الفشل الذى قابلته وسائل الإعلام بالسخرية القارحة والاستهجان.
وبينما كانت التحريات والتحقيقات تتواصل لضبط الجناة، كان حنورة نائمًا فى بيته بهدوء وسلام، لم يطارده- فى أثناء نومه- الكابوس إيَّاه مجددًا، فغط فى نوم عميق لم ينم مثله من قبل حتى أنَّ صوت شخيره ارتفع عاليًا يصدح فى غرفة نومه ليهز زجاج النافذة وكأنَّه أزيز طائرة تطير فى سماء منطقة سكنه!
اختفى الكابوس، اختفى الهمس، اختفى كل شىء وكأنَّه لم يكن.
القصة الفائزة بالمركز الثانى فى مسابقة «ربيع مفتاح الأدبية»