رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أخبرى الصغيرين


- الملائكة ليسوا صبورين وليس لديهم إرادة أو إصرار.. الملائكة منظمون منضبطون وأبناء مثاليون لكنهم ليسوا أبناءك وتنقصهم الحميمية والحماس والشغف

أخبرى الصغيرين:
بأنى أراهما زهرتين على شاطئ روحى، غزالين فى غابة مشاعرى، عيناى لا تغفلان عنهما، كل شىء أمامى لكنه بعيد.. بعيد.. وذراعى قاصرة.. تعرفين كيف تنظر الأمهات للأولاد وهم نائمون، تعدّين أنفاسهم وتتحسسين جبهاتهم وخدودهم، تصير وجوههم المستكينة شاشة تعرض أحداث يومك المنصرم.. كل المشاحنات والقبلات..
«اسكت يا محمد»، «ذاكرى يا ملك»، كل الصراخ والطبطبة «ادخل الحمام»، «لا تضرب أختك»، «ساعدى أخاك».. طوال الوقت تسيطر عليك رغبة خفية فى أن ينتهى اليوم، عندما تدق الساعة الثامنة، وتبدئين فى تجهيز العشاء، تتجدد رغبتك فى الانعتاق، فى التخلص من الأثقال، من المسئولية، من الخوف، من الحذر، فى هذه الساعة يدب فيك نشاط غريب.. الدفقة الأخيرة للطاقة، أنت الآن على استعداد أن تفعلى أى شىء كى يذهب طفلاك للسرير، أن يغمضا أعينهما، تلجئين للمحايلة، لاختلاق عوالم وحكايات، جن وعفاريت.. تسقط رأسك على مخدتهما، دقائق قليلة ينهض «طائر الفينكس» من رماده، تنتبهين، وتعودين للتساؤل والقلق: هل نومهما منتظم؟، يخيفك الصمت والهدوء ولا تستكينين لهما، تفتقدين الصخب الذى أرهق حواسك، تودين أن توقظيهما لتطمئنى، لتطردى الكوابيس عن أحلامهم.. وأنا هنا، لا أريد أن أوقظهما، فقط أتمنى أن أمر بأحلامهما.
أكدى لهما: إنى أحاول السباحة والطيران كى أطوى المسافات الفاصلة بيننا، الأمهات لديهن خبرة عميقة فى طى المسافات وتقريب الأشياء، من يستطيع أن يفهم طفلًا ويترجم إشاراته وحروفه غير المترابطة سوى أم؟، بين كل أم وطفلها شفرة: كلمة، حركة باليد، تقطيبة فى الوجه، ضبط الساعة لا يحتاج لمهارة، فقط حل الشفرة يمحى الغموض، يزيل اللبس، ينقذ أرواحًا فى الحرب.
اخترعى قصصًا، فأنا أغافل الملائكة وأتعلق بريش أحدهم، لكن الملائكة لم يعودوا يتوجهون كثيرًا للأرض، الأصوات الصاعدة من الكوكب الأزرق تصم آذانهم، وتصيبهم بالضجر.. الملائكة ليسوا صبورين وليس لديهم إرادة أو إصرار، الملائكة منظمون، منضبطون، أبناء مثاليون، لكنهم ليسوا أبناءك، تنقصهم الحميمية، الحماس، الشغف، أبحث عن رسل آخرين، عن موصلات متناهية الحساسية، أبحث عن طريق، عن مسار يصل ملمس أصابعى بفروتى رأسيهما.
قولى لهما: إنى ذهبت لمكان أفضل، لكنى أحنّ لمكانهما، إنى أتدرب كى تستطيع أنفاسى أن تداعب شعرهما، دورات التنمية البشرية لا تكتمل أعداد الدارسين فيها بسهولة، الغالبية لا ينقصهم شىء، ولا يحاولون تطوير مهاراتهم. فقط الأمهات الشابات يشعرن بتأنيب الضمير، ورغم أنها إجازة إجبارية لا خيار لنا فيها، إلا أننى لا أكف عن التفكير، عن التطلع، عن المراقبة، عن توجيه الملاحظات، النصائح.. أنا «سيزيف».. أتمنى أن تثبت صخرتى قليلًا على الجبل، أن يصل صوتى لطفلىّ، لا أطمع فى أكثر من الصوت، ذبذبات هواء، خلخلة الصمت.
اشرحى لهما أنى مرتبكة.. فالزمن هنا بلا فواصل، بلا إشارات، بلا تعاقب، ولا عقارب تربك صباحى، وأنا أجهز «محمد» للحاق بباص المدرسة.
ذكّرى «ملك» بما كنت أذاكر لها: إن الجاذبية تعتمد على كتلة الكوكب، وأنا فى مركز الكون والمدارات كلها منحنية، مقوسة.. فلا استقامة بين نقطتين، فقط تيه أبدى..الفراغ يبتلع الأشياء، الأبدية موت.
أخبريهما بأنى أقاوم موتى، وأنى أحيا بحياتهما.