رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ظل السادات.. أوراق وأسرار فوزى عبدالحافظ

جريدة الدستور

-أنيس منصور: فوزى عبدالحافظ مات مع السادات فى نفس اللحظة رغم أنه توفى عام ٢٠٠٨ أى بعد سنوات طويلة من حادث المنصة

أكتوبر هو شهر السادات، فيه يوم مجده الأكبر «٦ أكتوبر ١٩٧٣»، وفيه يوم استشهاده «٦ أكتوبر ١٩٨١»، وفيه تولى رئاسة مصر رسميًا بعد رحيل عبدالناصر «١٧ أكتوبر ١٩٧٠» وهو بالتأكيد فرصة للاقتراب من سيرة الرجل الذى ملأ الدنيا ولا يزال يشغل الناس.
وندخل إلى سيرة السادات هذه المرة من بوابة رجل لعب أدوارًا مهمة ومؤثرة فى حياة السادات، وتجده حاضرًا دومًا فى مذكرات كل الذين كتبوا عن السادات، من المحبين والخصوم على السواء، ولذلك أستغرب من الذين يخلعون عليه لقب «الرجل الغامض فى حياة السادات» فقد كان الرجل موجودًا بجانب الرئيس بشكل علنى وقوى، ولذلك يستحق فوزى عبدالحافظ لقب ظل الرئيس السادات وليس رجله الغامض.


ارتمى بجسده على الرئيس فى «حادث المنصة» لإنقاذ حياته

رسميًا كان فوزى عبدالحافظ يشغل منصب السكرتير الخاص للرئيس، لكن فعليًا كان دوره أكبر من ذلك وأخطر، وهو ما يمكن أن تلمسه بسهولة من كتابات وشهادات ومذكرات رجال دولة السادات وخصومه.
فى شهادة السيدة جيهان السادات على العصر سألها مذيع «الجزيرة» أحمد منصور بطريقته السمجة عن تدخلاتها فى شئون الدولة والحكم وسطوتها على الوزراء وتأثيرها فى قرارات الرئيس وحكومته، لم تجد السيدة الأولى فى دولة السادات إجابة سوى الاستشهاد بسكرتير زوجها وكان وقتها حيًا يرزق: «عندك فوزى عبدالحافظ اسأله.. اسأله إن كان هذا قد حدث.. وأتحدى من يأتى لى بتأشيرة واحدة منى لوزير».. ثم قالت فى حقه فى الحلقة نفسها: «فوزى رجل مخلص للسادات وسكرتير مخلص لبيت أنور السادات إلى يومنا هذا.. من الناس اللى دايمًا يسألوا علينا ودايمًا يودنا وييجى لنا».
وفى مذكرات رقية السادات تجد فوزى عبدالحافظ حاضرًا فى وقائع عديدة، وتستشهد به ابنة السادات هى الأخرى فى مواقف كثيرة، فتروى مثلا أن اللواء المتينى- تصفه بأنه من قادة الأركان- عندما قابلها مصادفة فى نادى السيارات حكى لها أن والدها الرئيس السادات أقال نائبه حسنى مبارك قبل العرض العسكرى فى أكتوبر ١٩٨١، وكان القرار فى حقيبة الرئيس التى كانت بحوزة سكرتيره فوزى عبدالحافظ، الذى حاول أن يفدى السادات بروحه وارتمى بجسده على الرئيس أثناء اغتياله، وأصيب برصاصات، لكن قضاء الله كان أسبق، وفى ظل تلك الفوضى والأجواء العصيبة اختفت الحقيبة.. وما فيها.
وفى شهادة شقيقتها كاميليا تجد فوزى عبدالحافظ حاضرًا وهى تروى حكاياتها الإنسانية مع والدها، وبينها مثلًا أنه بعد توليه الرئاسة خصص مصروفًا شهريًا لها لتنفق منه على نفسها وابنتها، لكنها أرادت أن تثبت له أنها ليست الفتاة المدللة الفاشلة، فالتحقت بالعمل فى شركة ألمانية بمرتب ٤٠ جنيهًا، وأرادت أن تبلغ والدها بالخبر فلم تستطع الوصول إليه لانشغاله، فتركت له رسالة مع «أونكل» فوزى.
وفى مذكرات د. بطرس غالى يحكى تلك الحكاية المثيرة عن سكرتير الرئيس تدلل على مدى سطوته بجوار السادات.. ففى واحد من مؤتمرات القمة الإفريقية اقترب فوزى عبدالحافظ من بطرس غالى الذى كان ضمن الوفد المرافق للرئيس وهمس له ليكلفه بمهمة خاصة، بالإضافة إلى مهامه السياسية بجوار الرئيس، كانت المهمة أن يسارع إلى المنصة التى سيلقى من فوقها السادات كلمته ليلتقط البايب وكيس التبغ الخاصين بالرئيس خشية ضياعهما، ولأن بطرس غالى انشغل بقرارات القمة فإنه تقاعس للحظات عن مهمته الخاصة، ولما ذهب ليلتقط البايب وكيس التبغ فوجئ بفوزى عبدالحافظ ينتزعهما من بين يديه بخشونة وكأنه يعبر له عن فشله فى المهمة الحيوية، ثم يعلق د. بطرس بخفة ظله: كان بايب الرئيس أهم عند فوزى من قرارات القمة.
وفى مذكرات عثمان أحمد عثمان أحد أبرز رجال السادات ووزرائه ستجد ذلك الموقف المثير، فقد استدعاه الرئيس فجأة إلى بيته، وبعد ساعة ونصف الساعة من الحوار فوجئ بالسادات يكلفه بوزارة الإسكان، ويقرر أن يحلف عثمان أمامه اليمين فورًا، ولما كان مصور الرئاسة قد غادر إلى بيته، كان على فوزى عبدالحافظ أن يتصرف ويُحضر مصورًَا من تحت الأرض ويرسل صورة الخبر وأداء عثمان لليمين الدستورية فورًا إلى الصحف.
وفى فيض كتابات أنيس منصور عن السادات وزمنه ستجد اسم فوزى عبدالحافظ شاهدًا وشريكًا، وكان أنيس يحتفظ بخطابات فوزى إليه، وأغلبها مرسل على أوراق رئاسة الجمهورية، ومعها كتب أجنبية كانت تصل إلى الرئيس فيؤشر بتوصيلها إلى أنيس منصور، وبينها مثلًا هذا الخطاب: أرسل لسيادتكم هذا الكتاب المهدى للسيد الرئيس من الكاتب ليونيل لافلاتيت المقيم فى هاييتى وقد عرض الموضوع على السيد الرئيس وأشّر سيادته: يرسل الكتاب للأستاذ أنيس منصور.. فوزى عبدالحافظ سكرتير خاص السيد الرئيس فى ١٠ مايو ١٩٨١.. وكانت مهمة أنيس التى لم يشر إليها خطاب فوزى أن يقرأ الكتاب ويلخص محتواه للرئيس.
وفى كتابات خصوم السادات لم يغب فوزى عبدالحافظ فطالته السهام والاتهامات، لعل أسخنها ما كتبه سامى شرف الذى كان يقوم بالمهام نفسها فى زمن الرئيس عبدالناصر «سكرتيره ثم وزير رئاسة الجمهورية»، وأنقل من مذكرات سامى شرف «سنوات وأيام مع عبدالناصر» نصًا: «استغل أشرف مروان منصبه (سكرتير السادات للمعلومات) فى عقد صفقات تجارية وأعمال سمسرة واسعة وإدارة شبكات للقمار وملاهٍ ليلية فى عدد من العواصم الأوروبية وبلغت ثروته ٣٥ مليون جنيه، ثم شارك بعض رءوس السلطة فى عدد من الأعمال والشركات وكذلك شارك فوزى عبدالحافظ سكرتير السادات الخاص فى بعض الأعمال التجارية وحقق له بعض الملايين من عمولات بعض العمليات».
وتزوجت عزة ابنة فوزى عبدالحافظ فيما بعد من عزام الشوبكى أحد أبرز مساعدى أشرف مروان ومدير شركة يوبيكيم للكيماويات التى كان مروان يمتلك ٨٠٪ من أسهمها، كان آخر من اتصل بمروان يطلب منه حضور اجتماع للشركة، وبعد نصف ساعة رآه من نافذة مكتبه المطلة على بيت مروان وهو يطير مستقرًا جثة هامدة فى ساحته بحى سان جيمس بقلب لندن.
فوزى عبدالحافظ كان هدفًا كذلك للدكتور محمود جامع صديق السادات وصاحب كتاب «عرفت السادات»، وفيه يحكى أن السيدة جيهان السادات خططت بمساعدة فوزى وأشرف مروان لتصعيد د. منصور حسن لمنصب نائب الرئيس بديلًا لمبارك، وكانت السيدة الأولى حينها تشعر بقلق من تنامى نفوذ وصلاحيات مبارك ولم ترض على قرار زوجها بمنحه الحق فى عرض البريد اليومى للرئيس عليه، وبصراحة كاملة يقول جامع إن فوزى عبدالحافظ كان سكرتيرًا للسيدة جيهان أكثر منه سكرتيرًا للرئيس، وإنها من خلاله كانت على علم بكل ما يدور فى أروقة الحكم.
لم يكن فوزى عبدالحافظ إذن رجلًا غامضًا يقف وراء السادات، بل كان نفوذه معلنًا وقربه من الرئيس معروفًا للجميع.

عمل مع «قائد العبور» منذ أن كان عضوًا فى مجلس قيادة الثورة.. وسبقه إلى تل أبيب لترتيب الزيارة التاريخية

إذا أردت وصفًا دقيقًا فهو الرجل الصامت، فرغم أنه كان يعرف الكثير وبمثابة صندوق أسرار السادات فإنه لم يتكلم أبدًا، ولما خرج للتقاعد طواعية عام ١٩٨٢ بعد حادث المنصة واغتيال السادات فإنه اعتزل الدنيا والناس إلا من أصدقاء معدودين، ورفض كل محاولات وإغواءات كتابة مذكراته عن سنواته بجوار السادات، وكان جوابه الدائم: هذه أمانة ولن أخون أبدًا الرجل الذى عشت فى بيته وبجواره أكثر من ٢٨ سنة.
الأقدار هى التى وضعته بجوار السادات، فبعد تخرجه فى كلية الشرطة ١٩٤٢، وبعد تنقلات من قلب الصعيد فى قنا إلى قلب الدلتا فى بنها استقر به المقام فى فرقة حرس الوزارات، ووجد نفسه مكلفًا بحراسة عضو مجلس قيادة الثورة وعضو محكمة الثورة السيد أنور السادات، والراجح أن ذلك جرى بوساطة وترشيح من صهره «شقيق زوجته» الشيخ حسنين مخلوف الذى تولى منصب مفتى الديار المصرية.
ومنذ أن عمل مع السادات فى عام ١٩٥٤ لم يفارقه فى كل منصب ذهب إليه، فعندما تولى السادات رئاسة المؤتمر الإسلامى عينه مديرًا لمكتبه، ولما ذهب لإدارة جريدة الجمهورية كان مسئولًا عن مكتبه، وهكذا الحال فى رحلة صعود السادات، من مجلس الأمة ثم نائبًا لعبدالناصر ثم رئيسًا للجمهورية، فى كل منصب لم يستأمن السادات أحدًا غيره.
بل لم يجد السادات سواه ليرسله إلى إسرائيل ليرتب لزيارته التاريخية التى غيرت تاريخ الشرق الأوسط.
كان فوزى عبدالحافظ هو الوحيد المسموح له بدخول غرفة نوم السادات، يوقظه فى التاسعة والنصف صباحًا، ويشغل له القرآن بصوت قارئه المفضل الشيخ رفعت، ويشرف على إفطار الرئيس: كوب شاى سادة وقطعتا بسكويت وملعقة عسل نحل برحيق الملكات، يتناول إفطاره وهو يطالع عناوين الصحف، وبعدها يُخرج فوزى مفكرة صغيرة لا تفارق جيبه ويتلو على الرئيس جدول مواعيده اليومية.. ويرافقه خلالها، ولا يتركه إلا فى منتصف الليل بعد أن يطمئن على دخوله إلى سريره.

ريجان أرسل إليه خطاب شكر لمحاولته فداء الرئيس بنفسه.. السادات حضر زفاف أبنائه الثلاثة.. واعتزل بعد الاغتيال

ظل فوزى عبدالحافظ يعمل بهذا الإخلاص والتفانى إلى اليوم الأخير فى حياة السادات.. وكان شاهدًا على كل الأحداث الكبرى والقرارات المصيرية فى سنوات حكم السادات، ولعب دورًا فى إطاحة السادات بمراكز القوى، وكان بجواره فى أصعب أيام حياته وأخلدها فترة حرب أكتوبر، وفى زيارته التاريخية لإسرائيل، وفى توقيع معاهدة السلام، وفى قرارات واعتقالات سبتمبر، وصولا إلى يوم المنصة الدامى.. كان يجلس خلف الرئيس عندما اقتحم خالد الإسلامبولى وعصابته منصة العرض العسكرى وبدأوا يطلقون الرصاص على الرئيس، وبلا تفكير اندفع فوزى عبدالحافظ ليرتمى على السادات ويتلقى عنه الطلقات، ولكن قضاء الله كان قد نفذ واستشهد السادات، وأصيب جسد فوزى بإصابات بالغة ونقل إلى مستشفى المعادى العسكرى، لكن حالته الصحية استدعت سفره لتلقى العلاج فى مستشفى البحرية الأمريكية، وعاد ليطلب تسوية معاشه ويقبع فى بيته بضاحية مصر الجديدة يجتر الذكريات والدموع.. ويتوكأ على عصاه، وكان أنيس منصور يقول إن فوزى مات مع السادات فى نفس اللحظة.
لم يخرج مرة للإعلام ولم يتاجر بقربه من السادات، وساءت حالته النفسية بعد رحيل أعز صديقين له: اللواء حسن أبوباشا والفريق الماحى.
وفى ٢٨ سبتمبر ٢٠٠٨ مات فوزى عبدالحافظ.. رحل ظل الرئيس السادات.
فى ٢٠٠٧ أى قبل رحيله بعام ذهب إليه عمرو شلبى المسئول عن متحف وموقع السادات بمكتبة الإسكندرية يستأذنه فى أن يقدم ما لديه من صور وأوراق ووثائق لتوضع فى المتحف.. وبلا تردد استجاب الرجل تقديرًا لمشروع يخلد ذكرى الرئيس الذى حاول أن يفتديه بروحه.. فقد عاش ظلًا للرئيس ٢٨ سنة.. الرئيس الذى جاء لحضور أفراح أنجاله الثلاثة: حسام، أنور، عزة.. الرئيس الذى كرمه وقدر سنوات خدمته ورقاه إلى درجة وزير برئاسة الجمهورية قبل أقل من عام على اغتياله.. ففى أول ديسمبر ١٩٨٠ أصدر السادات قرارًا برقم ٦١٥ لسنة ١٩٨٠ بـ«تعيين السيد فوزى عبدالحافظ أحمد منصور سكرتيرًا خاصًا لرئيس الجمهورية بدرجة وزير برئاسة الجمهورية».
قدم فوزى عبدالحافظ كل ما يمكن تقديمه، شهاداته وأوراقه الشخصية: ميلاده ودراسته وترقيته كضابط شرطة.. وما تيسر من أوراق وقرارات بحوزته من فترة عمله سكرتيرًا للسادات، بينها خطاب كان يعتز به كثيرًا أرسله له الرئيس الأمريكى ريجان يشكره على إخلاصه للسادات ومحاولته أن يفديه بحياته.
ويتضمن الكنز الذى حصلت عليه مكتبة الإسكندرية آلافًا من الصور وأفلام الفيديو التى تخص فترة رئاسة السادات، وكان فوزى عبدالحافظ لديه هواية التصويرالفوتوغرافى والفيديو، ويحرص على أن يوثق كل الأحداث بدقة كاملة.
ما حصلت عليه مكتبة الإسكندرية هى كل ما تبقى من هذا الرجل التى أتاحت له المقادير أن يقترب بشدة من السادات ويشهد معه رحلة صعوده لحظة بلحظة، من رئاسة منظمة المؤتمر الإسلامى.. إلى رئاسة مصر.