رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

صانع الذكريات

جريدة الدستور

- نوم ثم هروب ثم نوم آخر ثم هروب آخر امتلأت الذاكرة بأحزان الماضى وتداخلت أيام الحياة كنهر منساب، ومن حين لآخر تطفو ذكرى وتغطس لتحل محلها أخرى فى دورة زمنية لا تنتهى، وأغلقت كل السدود أمام النهر فما كان منه إلا الرجوع من حيث بدأ والارتطام بين ضفتى الزمن المعاد والمكرر.

أفاق كالمصدوم من حلم الحياة وسنوات عمره ترتفأ الخمسين خريفًا وها هى تستعد لرحلتها الأخيرة إلى الشيخوخة والنهاية.
وإمعانًا فى الهروب اختار العمل ليلًا حيث اللا بشر والهدوء يكتنف جنبات الأماكن ليرسمها ويحييها ويميتها كيف يشاء، والوحدة هى رفيق الدرب الذى رافقه الصبا والحلم والزوجة المفقودة والابن الذى لم يولد إلا فى خياله، يراه يلعب ويلهو أمامه وعمره الآن يبلغ عشرين عامًا من الوهم.
ارتدى ملابس العمل على مهل وتأنق كعادته ونظر إلى نفسه فى المرآة يتأمل رحيل الشباب من جسده، ها هو امتلأ قليلًا فى غير ترهل بفضل اعتداله فى الطعام وممارسة القليل من الرياضة، وغزت التجاعيد وجهه والصراع الدائم بينه وبين الشعر الأبيض ليفوز فى بعض المعارك بالصبغة السوداء ولكن الانتصار دائمًا للشيب.
- أطفأ أنوار شقته الصغيرة التى استأجرها مؤخرًا بعد رحيل من رحل وموت من مات، نزل السلم على مهل وسار فى الشارع الرئيسى متأملًا فى الوجوه السابلة والعربات المسرعة هنا وهناك فى سباق مع الزمن.
- ارتاد مقهاه المفضل وجاء الصبى بالقهوة «الفرنسى المظبوطة» ونظر فى ساعة جواله ليتأكد أن الموعد قد حان ليفتح برنامج «الماسنجر» ويتنفس الحياة الافتراضية.
- وجدها كما هى فى الطريق لم تتغير كثيرًا، على كتفها طفل صغير وتمسك يدها صبيًا لم يتجاوز العاشرة من العمر، وخصلات شعرها المتهدلة الهاربة من تحت حجابها تشى بنعومة لا تزال محتفظة بها، لم يتمالك نفسه وخُيل له أن قدماه تحركت رغمًا عنه فى اتجاهها وتوقف كتمثال مادًا يديه إليها، واشتعلت حمم الأفكار داخله تقذفه وتلعب بمشاعره كما تشاء
هل تتذكرنى؟
هل ستمشى؟
هل ستمد يدها؟
هل ســ... وقطع فيض أفكاره شحنة كهربائية مرت بجسده افتقدها منذ زمن بعيد أحصاه باليوم والشهر والسنة، واحتضنت كفه بهلفة غائب رُد إلى بيته واحتضن كفها بلوعة ابن عاد إلى أمه بعد توهه فى غربة السنين.
- انتهى اللقاء على عجل بتبادل أرقام الهواتف وتم الاتفاق بعد أول مكالمة على استخدام «الماسنجر».
- لم يعلم أكان هو فى انتظارها أم كانت هى فى انتظاره وتطايرت الأفكار حتى شذرت خلايا عقله من الانفعال وقلب بحر الحياة الهادئ المستكين إلى أمواج وتسونامى يهدم الجسور والسدود التى بُنيت داخله على مدار الأيام والزاد الذى يحصل عليه من ذكرياته، كيف سيكون الوضع الآن، الواقع والافتراض، الحقيقة والخيال، مضادات كلها تتخبط معًا.
هو: انتظرتك عمرًا.
هى: انتظرتك دهرًا.
هو: لم تغيبى عنى يومًا.
هى: كنت أنام على صورتك خلف أجفانى.
هو: كنتى حياتى وأنفاسى.
هى: كنت أنا.
هو: أين قضيتى العمر؟
هى: معك.
هو: أنسيتى الوعد أن يكون أول طفل ابنى أنا؟
هى: لم أُنجب سواه فى خيالى.
هو: كم يبلغ الآن؟
هى: العشرون وأربعة أشهر.
شبح ابتسامة مر على شفتيه.
هو: إذن هو ذات الابن !!
هى: لم تكن وحدك تحصى الأيام.
هو: كيف قضيتى العمر؟
هى: فى استحلاب ذكرياتنا.. وأنت؟
هو: لم أسترجع ذكرياتنا.. عشت فيها كل يوم.
هى: كيف؟
هو: لم تنساكى الطرقات وكانت تسأل عنك دائمًا، زرت كل أماكننا مرارًا وتكرارًا وشممت رائحتك تملأها.
هى: أهو ذاك الشارع؟.. لقد تغير كثيرًا.
هو: لم يتغير أبدًا ظل محتفظًا ببيوتنا التى رسمناها، وتلك الشجرة لا تزال محتفظة باسمك منقوشًا على جسدها.
هى: لقد أوجعت الشجرة كثيرًا حين نقشته.
هو: الذكرى لا تنحت إلا بالألم لتعيش.
هى: صدقت.
هو: حان الآن موعد الرحيل المؤقت.. أليس كذلك؟
هى: نعم.
هو: وداعًا إلى لقاء.
هى: وداعًا إلى لقاء.
- أغلق الهاتف وأخذ نفسًا عميقًا من الهواء الذى افتقد لذته وطعمه وملأ صدره وانتشى بسكره الذكريات العائدة من الموت، لقد أضفت الصدفة غير المتوقعة الحياة على الماضى البعيد وبدأ فى استعادة ألوانه وذهوته بل وسطوته التى خبت مع الزمن ولم تبق منها إلا منازل الحيرة والتساؤل والشجر اليابس المعروق.
- استقل الباص المتجه إلى العمل ولكنه لم ينزل فى محطته المعتادة وأكمل حتى آخر الخط، ونزل واستقل الباص المتجه إلى الماضى والشوارع والشجرة المحبوبة.
- لم يبخل عليه القدر فى تلك اللحظة بسعادة وبهجة، فشعر بأن الكل يشاركه الفرح وقفز قلبه بوجيب يضخ الدماء من جديد إلى جسده ويدب فيه الحياة ويزيل ركام الحزن وأتربة الألم التى ارتسمت على ملامحه، والطرق خلت من البشر والسيارات أجمعين، ولم يرَ أحدًا أمامه ولم يعِ كم مر من الوقت حتى وصل إلى أول الشارع ولم ينتظر توقف الباص فقفز منه على عجل على قدمين ثابتتين.
- ملأ عينيه بكل تفاصيل الشارع حتى آخر مدى لعينيه، وسار على مهل يسترجع للمرة الثلاثمائة بعد الألف السابعة، ذكرياته التى صنعها بشبابه وسنين عمره تملأ الطريق، وشعر بدبيب الحياة يسرى فى جنبات الشارع ونتوءات الأرصفة على الجانبين وكل سم٢، واعتدل ليستقبله فى جنة ذكرياته وانطلق إلى الأمام فى خطوات ملأها الشباب والقوة ولهفة الانتظار والقلق والبشرى المنتظرة بقدوم حبيبته مرتديه ملابسها التى يحبها، وظهرت من بعيد خجولة فى مشيتها وظلها الرقيق يداعب الطريق وينكسر ويستقيم ويتحور حتى يعود سيرته الأولى.
- استقبلها ببشاشة ورقة لم يعهدها فى نفسه وتمشيا معًا والعمر يسير إلى جوارهما كصديق يعطيهما سعادة ويأخذ وقتًا، يهبهما فرحة ويأخذ ثمنًا، حتى ظهرت خيانته فأخذ أكثر مما أعطى، وحانت تلك اللحظة المشئومة التى طالما دفنها فى أعماقه وأهال عليها عمره، ولكنها كانت ولا تزال تصحو من آن لآخر.
- افترقا فى شبه فراق، واقتربا فى شبه اقتراب، وابتعدا فى شبه ابتعاد، ونسيا فى شبه نسيان، وأنكرا فى شبه نكران، وتحولت الحياة إلى أشباه فى كل شىء ولم تكتمل أبدًا، وجاء آخرون فى أماكنهما ولكنهم لم يملأوا الفراغ المتسع إلى ما لا نهاية.
- وخاف هو العمر (الصديق) وفهم وأدرك خذلان الأصدقاء لأول مرة فى حياته، ووعى درسًا قاسيًا من عقارب الساعة، وأدرك حينها لماذا سُميت عقارب من لدغها الذى لا مفر منه، وتسرب الزمن الذى لا مفر منه إلا الموت، وسارع فى اتخاذ عروس لئلا يضيع المتبقى فى محاولة للهروب من الواقع الافتراضى، فحياته كلها ليست معه ولكن معها.
- وتمت مراسم الزواج ولم تتحمل العروس حياته وانغماسه فيما لا تعلم، وحاولت وحاولت حتى تعبت وذهبت، هكذا اختفت فجأة من حياته، وفى الواقع لم تكن فى حياته من الأصل وانتهى كل شىء سريعًا.
- لم يبقَ له إلا الشارع والذكريات المنقوشة على هوائه.
- أنهى المسير فى الشارع على وعد المجىء غدًا.
- مر النهار سريعًا وعاد إلى قهوته وجاء الصبى بالقهوة «الفرنسى المظبوطة»، ونظر فى ساعة جواله ليتأكد أن الموعد قد حان ليفتح برنامج «الماسنجر»، ويتنفس الحياة ووجد (بلوك على الأكونت)، وتوقع شيئًا،واتصل بالرقم ليجده غير موجود بالخدمة، لم يُصدم أو يجزع أو يشغل باله حتى بالدوافع أو الأسباب، ووصلت الرسالة واضحة جلية، فها قد أضيفت للذكريات ذكرى جديدة، احتسى القهوة على مهل، ووضع يديه على قلبه ليطمئن على خزين ذكرياته التى صنعها، وذهب إلى العمل.