رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الله لم يمر من هنا.. أسرار المُلحدين في إسرائيل

جريدة الدستور

رغم كونها دولة بُنيت على فكرة دينية، ورغم أن الصهيونية استغلت الدين للترويج لأهدافها، ورغم أن الحاخامات يسيطرون الآن على مفاصل الدولة، والأحزاب المتدينة حلفاء رئيسيون للحكومة، فإن الجمهور الإسرائيلى له وجهة نظر أخرى. إحدى أهم الظواهر التى تؤرق قادة دولة الاحتلال هى انتشار «الإلحاد» بين اليهود، فيما تبذل الحكومة جهودًا كبيرة لملاحقتهم والضغط عليهم. فى السطور التالية نفتح ملف «الإلحاد السرى» فى الدولة العبرية، ونرصد أهم الإحصائيات فى هذا الشأن، وحكايات أشهر الملحدين الإسرائيليين.

أشهر ٥ منهم: أعدادنا تجاوزت مئات الآلاف.. و«الثعبان» سر تحولنا

إلى جانب ارتفاع عدد اليهود الإسرائيليين الذين يقولون إنهم يؤمنون بالله، فإن فى إسرائيل أيضًا مجتمعا ملحدا راسخا، بحسب التحقيق الذى نشرته صحيفة «هآرتس»، وتناولت فيه حكايات خمس شخصيات عامة إسرائيلية تحولت من اليهودية إلى الإلحاد.
الأول هو الكاتب المسرحى جوشوا سوبول، الذى أرجع إلحاده إلى قصة بطلها «الثعبان»، والذى فقد إيمانه بالسلطة العليا التى تجلب النظام للعالم.
تذكر «سوبول»: «فى أحد الأيام، عندما كنت فى الخامسة أو السادسة من عمرى، جاء قريب أرثوذكسى متشدد إلى قريتنا وقال لى إن الله سيرسل ثعبانًا يلدغ الذى يترك الصلاة. كنت قد نشأت فى تل موند، وهى بلدة تعج بالثعابين، لذلك كنت خائفًا، وقررت أن أصلى معه. وفى أحد الأيام لم أصلِ وانتظرت أن يأتى الثعبان، لكن لم يأتِ أى ثعبان. ففهمت أن هناك شيئا زائفا حول القصة التى أخبرنى بها الرجل».
وتابع: «فى وقت لاحق، أثناء دراستى فى باريس وبعد أن قرأت كتب ماركس وسارتر كنت ممزقًا بين مقاربتين، الوجودية العلمانية، والوجودية الدينية لمارتن بوبر. فى النهاية اقتنعت بأن العالم عشوائى، وبرغم معرفتى تمامًا بالتاريخ اليهودى فإنه يصعب علىّ تعريف نفسى كيهودى، فأنا إسرائيلى بهوية عبرية إسرائيلية».
وكتب «سوبول» مسرحيات تحاول أن تحرر اليهود من قيود اليهودية أهمها «التوبة، يأجوج ومأجوج شو، وليلة ويلينجر».
الثانى هو يعقوب مالكين، الأستاذ فى كلية الفنون بجامعة تل أبيب ومؤسس قسم السينما والتليفزيون بها، والذى يعتبر واحدًا من الزعماء الروحيين للمجتمع الملحد، وكثيرًا ما أكد أن عدد الملحدين فى إسرائيل تجاوز مئات الآلاف. كما أنتج العديد من الأعمال عن الأخلاق الإنسانية العلمانية، وفى عام ٢٠٠٩ نشر كتابه المثير للجدل «اليهودية من دون الله»، الذى تُرجم إلى الإنجليزية.
كما أسس «مالكين» مجلة «الحر» اليهودية فى عام ١٩٩٥، وهو أيضا مدير المعهد الدولى للإنسانية اليهودية العلمانية الذى يتولى تدريب قادة المجتمع المحلى للمجتمعات العلمانية وتدريب حاملى درجات الدراسات العليا ليكونوا حاخامات علمانيين.
وذكر «مالكين» لـ«هآرتس»: «أنا ملحد من الجيل الثانى، فأنا طوال حياتى كنت أعلن أننى يهودى لكننى فى الحقيقة كنت مُلحدًا وكذلك أبنائى وأحفادى، إنه تقليد عائلى بدأ فى وارسو، إذ كنت عضوًا فى مدرسة إلحادية تديرها منظمة البوند، وعندما جئت إلى تل أبيب والتحقت بنظام التعليم الإسرائيلى الدينى لم يتغير شىء فى معتقداتى».
وعلى النقيض من المفكرين الملحدين الذين يعتبرون الإلحاد «عدم إيمان»، يقول: «لا يوجد شخص اسمه غير مؤمن لكن هناك حياة علمانية دون دين ودون الله».
وبالنسبة لـ«مالكين» فإن اليهودية ليست إلا ثقافة الشعب اليهودى، والتى تشمل- فى رأيه - الثقافتين العلمانية والدينية التى تضم مجموعة واسعة من التعاليم فى الفترة التوراتية، فيما يعتبر الكتاب المقدس «عملًا أدبيًا».
وعن التقارب بين العلمانية والإلحاد فى إسرائيل، يرى «مالكين» أن معظم الإسرائيليين يشعرون بالإلحاد لكنهم لا يعترفون بأنهم كذلك، ويُرجع ذلك إلى حقيقة أنه لا يوجد اعتراف بذلك من قبل القيادة العلمانية رغم أن الغالبية العظمى من قادة الأحزاب السياسية علمانيون.
أما الشخصية الثالثة فهو يارون يدان، أحد أشهر النشطاء المُلحدين فى إسرائيل، مؤسس جماعة «يدان»، التى تدعو إلى فصل الدين عن الدولة، ومؤسس حركة «التحرر من الدين» التى تعمل منذ عام ١٩٩٨.
يحكى «يدان» أن أسرته كانت علمانية وهاجرت من شمال إفريقيا إلى إسرائيل فيما انغمس هو داخل المجتمع اليهودى الحريدى من عمر ١٧ سنة، وبعد سنوات تغيرت نظرته واكتشف على حد قوله أن «الله ليس هنا والدين اليهودى هو خلق بشرى»، بعد أن اكتشف أخطاء علمية فى القصص التوراتية تتعلق بالجسم البشرى.
يقول: «أدركت أن هذا ليس المكان الذى أريد أن أكون فيه، وأن أخلاق اليهودية مبنية على العنصرية وعلى قصة شعب مختار وهمية».
الشخصية الرابعة هى الكاتبة آدا لامبرت، خبيرة علم النفس التطورى ومؤلفة كتاب «تطور الحب»، التى تحكى عن تحولها قائلة: «أن يبدأ كل شخص حياته محاطًا بالكبار المسئولين الذين يعتنون برفاهيته وطعامه وملابسه وصحته ومحبته، فالناس يحبون أن يكونوا فى هذه الحالة، فالاعتقاد فى الله يعكس حاجة قوية للآباء، الشعور بأن هناك قوة عليا تعطينا الأمان».
وأوضحت: «إذا سألت الإسرائيليين إذا كانوا يعتقدون فى نظرية التطور بأن الإنسان أصله قرد فسيجيب ٢٥٪ فقط بأنهم يعتقدون ذلك، فالدين هو الأقوى والأكثر تأثيرًا فى العالم البشرى. مع ذلك أنا لا أؤمن بفكرة الله ولدىّ احترام كبير لنظرية التطور».
وأضافت: «هناك نظرية طرحها عالم أمريكى يدعى دين هامر، تدعى أن الميل إلى التدين يوجد فى جينات معينة. الادعاء هو أن هذه الجينات تعمل بقوة أكبر فى الأشخاص الذين يتحولون إلى الدين أو يتقيدون بالدين، وتكون أقل نشاطًا فى الأشخاص الذين لا يلتزمون بالدين».
الشخصية الخامسة والأخيرة هى الدكتور دان بونيه، عالم الأنثروبولوجيا الذى نشر كتابًا بعنوان «لم يحدث أبدًا» دعا فيه إلى ترك اليهودية وإعلان الإلحاد، محققا مبيعات عالية، وكان قد كتبه يوم سقوط برجى التجارة الأمريكيين باعتبار الحادث عملًا دينيًا، محذرًا من أنه سيأتى يوم وستتحطم تل أبيب بنفس الطريقة بسبب الدين أيضًا.

يخشون الإعلان عن أنفسهم خوفًا من نظرة المجتمع

تحت عنوان «الملحدون فى إسرائيل.. أين هم؟»، تناولت صحيفة «جيروزاليم بوست» قضية الإلحاد داخل المجتمع اليهودى، مشيرة إلى أنه برغم سهولة استعراض القضايا الدينية فى الولايات المتحدة أو أوروبا يصعب فعل هذا فى إسرائيل التى تحاول أن تكون دولة غربية.
وأضافت الصحيفة، وبرغم أن اليهود معروفون برغبتهم فى المناقشة والتقصى والتحقيق فإن ظاهرة الإلحاد تلقى صمتًا تامًا، متسائلة: لماذا لا نشعر بالملحدين فى إسرائيل؟.. وأين هى الديمقراطية الغربية التى تمنح رعاياها حرية التعبير كجزء من الخطاب الوطنى؟.
وقال إيلان شاهار، نائب رئيس منظمة «هيدوش» من أجل الحرية الدينية والمساواة، غير الحكومية: «يُنظر إلى الإلحاد على أنه شىء غير يهودى، فعندما تقول إنك علمانى فإنك ما زلت لم تقل بعد إنك تستبعد اليهودية أو الثقافة اليهودية، فى حين أنه عندما تقول إنك ملحد فإن هناك استنتاجًا بأنك شىء بعيد عن اليهودية»، لافتًا إلى أن هذا ما يخيف كثيرين من الإعلان عن إلحادهم.
وأضاف نائب رئيس المنظمة التى تسعى لدمج اليهود الأرثوذكس المتطرفين فى القوى العاملة، وإلى فصل أكبر بين الدين والدولة، أنه «ينظر إلى الإلحاد فى إسرائيل على أنه معادٍ لليهود بطبيعته، ولا ينظر إليه كانفصال عن اليهودية بشكل إيجابى»، رغم أن أكثر شخصيات إسرائيل التاريخية الأكثر شهرة مثل تيودور هرتزل إلى أول رئيس وزراء لها دافيد بن جوريون أعلنوا أنهم مُلحدون.
وأرجع «شاهار» إخفاء المُلحدين لهويتهم الجديدة لسببين: الأول أن الإسرائيلى لا يريد أن يعلن أنه قطع علاقته مع جذوره إذ إن اليهودية هى تاريخه، والآخر أن اليهودية هى الطريقة الوحيدة للتنافس فى سوق القيم فى المجتمع الإسرائيلى، فـ«جميعنا تعلمنا أن ما يجب أن أقدمه أن يكون أمرا جيدا لليهود وجيدا لليهودية»، بحسب قوله. وحذر من أن الخطر الأكبر اليوم هو أن الصهاينة المتدينين هم من فى مواقع النفوذ، فى حين أن الجيل المؤسس للإسرائيليين ونسلهم من العلمانيين تضاءلوا فى أماكن النفوذ، مؤكدا أن الحل الوحيد لإنقاذ إسرائيل هو الاندماج بين الإلحاد والقومية، وهو الأمر الذى تعتبر فرص نجاحه ضئيلة. من جانبه، رأى البروفيسور جفرى وولف، من جامعة بار إيلان، أن الإلحاد ليس كلمة قذرة فى إسرائيل، ولكن غير مُرحب بها، وفى ظنه أن «الدولة أصبحت اليوم يهودية أكثر مما كانت عليه فى العشرين سنة الماضية».
حسب دراسة عام ١٩٩٥ فإن ٣١٪ من الإسرائيليين لا يؤمنون بالله، و٦٪ أجابوا بـ«لا أعرف» ردًا على سؤال: «هل تعتقد فى وجود إله»، و٣٧٪ من مجموعهم هم الملحدون.

الظاهرة امتدت إلى الحاخامات دون إفصاح رسمى

متسائلًا: «لماذا أصبح الكثير من اليهود ملحدين؟».. نشر الحاخام براكمان ليفى مقالًا فى صحيفة «هآرتس»، قال فيه إن طائفة من اليهود العلمانيين تعرف نفسها بأنها ملحدة.
وأشار إلى أن الملحن المشهور كريستوفر هيتشنز افترض أن اليهود يحملون جينات ملحدة بزعم أنهم يميلون إلى التقصى والتساؤلات الفكرية، وهو ما دفع الكثير منهم إلى الإلحاد بعدما فشلوا فى الحصول على إجابات عن تساؤلاتهم.
أهم هذه التساؤلات التى حيرت الكثير من المتصوفين اليهود- بحسب «ليفى»- هى: لماذا يهتم الله بما يفعله البشر أو لا يفعلونه؟، موضحًا أن العديد من اليهود العلمانيين أصبحوا ملحدين بسبب نقص المعرفة اليهودية وليس بسبب الجين الملحد.
وشرح: «معظم اليهود المعاصرين يتوقفون عن التعليم اليهودى الرسمى فى حوالى سن الثالثة عشرة»، لافتًا إلى أنه من خلال تجربته فإن الملحدين يفتقرون إلى المعرفة الكاملة باليهودية ولم يدرسوا المؤلفات الواسعة حول الميتافيزيقا اليهودية.
ولكن يبدو أن هناك ما يدحض أفكار الحاخام، فوفقًا لدراسة فإن ظاهرة الإلحاد فى إسرائيل لم تتوقف فقط عند الشباب العلمانيين، ولكنها امتدت إلى الحاخامات، إذ نشرت «هآرتس» تحقيقًا حول اتجاه هؤلاء إلى الإلحاد.
الدراسة أجراها الدكتور بول شريل فوكس، وهو طبيب نفسانى سريرى، على سبعة حاخامات، ثلاثة منهم من حزب المحافظين فى الولايات المتحدة، وأربعة أرثوذكس صارمين يعيشون فى إسرائيل ولديهم هوية مزدوجة: «ملحدين سرًا، وحاخامات مؤمنين بشكل علنى».
وأثبت «فوكس»، خلال دراسته، أن حاخامات كثيرين اكتشفوا أنهم لم يعودوا مؤمنين بعد لكنهم استمروا لأن «الدين بالنسبة لهم مهنة». وذكر أحد الحاخامات فى الدراسة أنه ألحد ولكنه استمر فى عمله، موضحا: «الصعوبة فقط فى ارتداء ملابس الحاخام والصلاة مع الطلاب». بينما ذكر حاخام آخر أنه لم يستطع الاستمرار فى هذه الازدواجية فاضطر للتقاعد بعد عام واحد من إلحاده، فيما قال ثالث مستمر فى عمله إنه لن يجد عملًا بديلًا لو أعلن إلحاده. وكشف الباحث عن اعتراف الحاخامات الملحدين لبعضهم البعض ولزوجاتهم بالأمر، وأنهم بدأوا فى تنظيم لقاءات سرية بينهم.