رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«سر النجاح».. كتاب قديم أعجبنى


يظل النجاح ضالةَ الإنسان فى كل زمانٍ ومكان؛ فيسعى جاهدًا لتحقيق ذاته، ولصُنْع مكانةٍ مميَّزة لنفسه فى مجتمعه؛ لذلك اهتم المفكرون دومًا بالوقوف على ما يمكن تسميته بسر أو وصفة» لتحقيق النجاح فى الحياة، وكان سبيل هؤلاء المفكرين هو تتبُّع قصص الناجحين والمتميزين فى مجالات العلم والسياسة والمال والثقافة، عن طريق الاقتراب من تفاصيل حياتهم؛ ماذا تعلَّموا؟ وما ظروف تربيتهم؟ وكيف شقُّوا طريقهم للقمة؟.
فى حدود عام ١٨٧٧، قام يعقوب صروف، بالترجمة الحرة لكتاب (سر النجاح)، لمؤلفه الأسكتلندى، صموئيل مايلز، الذى يطرح فى كتابه، فكرة الاعتماد على النفس، باعتبارها سر التقدم والرخاء فى الحياة، ويُفْرِد فصولًا متعددة تحتوى على نماذج شهيرة لأشخاصٍ ناجحين اتَّبعوا مبادئ سامية، آمنوا بها، فصنعتْ نجاحَهم العصامى فى الحياة.. ويَلفت الكاتب النظر إلى أهمية تهذيب الإنسان لنفسه وترويضها بعيدا عما يثنيها عن أهدافها، كما يُبيِّن أهمية اتخاذ قدوة ناجحة نتمثَّل بها.
وقد نُشر العمل، فى نسخته العربية، لأول مرة فى بيروت، عام ١٨٨٠، قبل أن تقوم مطبعة «المقتطف» بطباعته ثانية فى القاهرة عام ١٨٨٦، وفيه يؤكد المؤلف أن «حكومة الشعب صورة من أفراده.. فإذا فاقت الشعب، لم تلبث أن تنحط إليه، وإذا انحطت عنه، لم تلبث أن ترتقى إليه مع الزمن.. ومهما تكن أخلاق الشعب، فإنها تظهر فى حكومته.. فإذا كان مستقيمًا، حُكم بالاستقامة، وإذا كان معوجًا حُكم بالاعوجاج».. كما يرى المؤلف أن قوة الشعوب ودرجة رقيها لا تتوقفان على حكوماتها، بقدر ما تتحدد بأخلاق أفرادها، إذ «ليس الشعب سوى مجموع أفراده، وليس تمدنه سوى تمدن أفراده، كبارًا وصغارًا، ذكورًا وإناثًا، فتقدم الشعب هو مجموع علم أفراده واجتهادهم واستقامتهم، وتأخره هو جهل أفراده وكسلهم والتواؤهم».. وإذا دققنا النظر، وجدنا أن أكثر الشرور التى اعتدنا نسبتها إلى الشعب إجمالًا، هى شوائب نمت فى حياة آحاد هذا الشعب، وإذا استؤصلت بواسطة شرائع سماوية أو تشريعات قانونية، عادت فنمت من ناحية أخرى، بهيئة أخرى، ما لم تتغير طباع الناس وأخلاقهم جميعًا.. ويترتب على ما تقدم «أن الغيرة الوطنية لإصلاح الوطن يجب ألا تُبذل فى إصلاح سياسته وشرائعه، بل فى إنهاض أهله، لكى يُصلحوا شأنهم بأيديهم».
والفرد، فى نظر صموئيل، وأنا معه، هو ركيزة النجاح فى مجتمعه، وعليه تتوقف مسيرة البلاد.. فإن جميع الشعوب ما وصلت إلى ما بلغته من التقدم إلا باجتهاد آلاف الرجال زمنًا طويلًا.. فـ«الفَعَلة وحارثو الأرض ومستخرجو المعادن وأرباب الصنائع والمخترعون والمستكشفون والمصنفون والشعراء والفلاسفة ورجال السياسة، جميع هؤلاء سعوا فى طلب تلك الغاية المجيدة، وهى ترقية شأن بلادهم وازدياد عمرانها.. هؤلاء هم الذين أوجدوا العمران ورفعوا شأن النوع الإنسانى، بمثابرتهم على العلم والعمل، وكل جيل بنى على أتعاب سلفه فى هذا البناء العظيم، ونحن ورثنا العمران كما تركه لنا أسلافنا، وعلينا ألا نتركه لخلفائنا كما تُرِك لنا، بل أن نجد ونسعى فى توطيده وتهذيبه، كما فعل من تقدمنا».
ومثلما بُحت أصواتنا، بضرورة أن يجد الجيل الحالى حوله من القدوات التى يمتثل بها ويحذو حذوها، يذهب صموئيل سمايلز إلى أن «الحياة شاهد على أن قدوة المجتهدين تؤثر فى غيرهم تأثيرا كبيرا يفوق تأثير العلوم، بل ما من علم يؤثر فى حياة الإنسان، مثل العلم الذى يراه يوميًا فى البيوت والشوارع والحقول والمعامل، هذه هى العلوم الانتهائية التى يجب على كل أحد أن يتقنها، لكى يحق له الدخول فى الهيئة الاجتماعية، هذه هى العلوم التى سماها (شِلر) علوم الجنس البشرى، وهى تقوم بالعمل والسلوك والتهذيب والطاعة».. ولذا كانت كُتب سير الفضلاء من المشاهير من أكثر الكتب فائدة، حتى إن بعضهم وضعها فى المنزلة الأولى بعد الكتب المُنزلة، لأنها تحوى من المحامد، ما يُمكّن الإنسان من الارتقاء فى ذُرى المجد، وتُبين ببلاغة أن الذى يكرم نفسه ويعتمد عليها، ينال اسما حسنا وشهرة لا تُنسى.. يقول إن «كل الناس مائلون طبعا إلى أن يتعلموا بعيونهم أكثر مما يتعلمون بآذانهم، والمرئى يؤثر أكثر من المقروء والمسموع، فالعيون هى الباب الأوسع للمعرفة، فما يراه الناس يقتدون به، وإن عن غير قصد».
ولا ينحصر رجال العلوم والفنون والآداب وأرباب الأفكار وأهل الحصافة فى فئة من البشر، ولم يختصوا بأهل المراتب العليا، بل نبغوا من المدارس والمعامل، ومن الدساكر والمزارع، من أكواخ الفقراء الحقيرة وقصور الأغنياء الرفيعة، وكم من أناس ارتقوا من أدنى الدركات إلى أعلى المراتب، ولم تصدهم المصاعب عن نيل ما شمروا له السواعد، بل كثيرا ما كانت تستحيل إلى أكبر مساعد لهم، بإثارتها قوتهم ونشاطهم وإيقاظها ما ربما كان يخمل من قواهم، لو لم تكن الحال كذلك.. والأمثلة على ذلك كثيرة جدا، وجميعها تثبت صحة المثل القائل «من جد وجد». كما لا يُعول سمايلز على الصدفة كثيرا، لأن «فعل الصدفة فى الأعمال العظيمة طفيف جدا، والسبيل الأكيد للنجاح، إنما هو الاجتهاد والثبات، وأكثر ما يُنسب للصدف، أو ما يقال إنه رمية من غير رامٍ، إنما هو نتيجة مزاولة طويلة».
كان مصطفى صادق الرافعى أول من قرأ هذا الكتاب وأشاد به.. يقول: «أما أنا فأشهد.. لقد عرفت منذ زمن طالبا فى الأزهر، فلما تعرف إلىّ جعل يشكو ويتبرم وينفض لى نفسه»، ويقول: الأزهر وعلومه وفنونه ومسائله ومشاكله، والمتون وما فيها، والشروح وما إليها، والحواشى وما يرد ويعترض ويجاب به ويقال فيه، وكل كلمة بساعة من العمر، وكل سطر بيوم، وكل جزء بسنة، وتركت ورائى كذا وكذا فدانًا، وأقبلت على كذا وكذا علمًا، فلا حصدت من هذه ولا من تلك!.. قلت: وما يمسكك والباب مفتوح، ولا يسألك الأزهر إلى أين ولا تسألك الدنيا إذا خرجت إليها من أين؟.. قال: والله ما ربطنى إلى هذه الأعمدة خمس عشرة سنة كاملة، على يأس ومضض، إلا كتاب «سر النجاح» وما أمضيت نيتى مرة على وجه من وجوه العيش إلا رأيت هذا الكتاب قد ضرب وجه هذه النية فردها إلى هذا المكان وألقاها فى هذا المستقر، وما هممت بترك الأزهر إلا انتصب فى وجهى كل الأبطال الذين قرأت أخبارهم فيه وأمسكونى، لا من يدى ولا من رجلى، ولكن من اعتقادى وإيمانى وأملى!».. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.