رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الكنيسة التى فقدت رسالتها


فى ١٠ مايو ١٩٥٩ انفتحت أعيننا على صورة رائعة للكنيسة فى شخص البابا كيرلس السادس (١٩٠٢- ١٩٧١) البطريرك ١١٦ الذى علّمنا الصلاة والارتباط الحقيقى بالكنيسة، فكنا نحيا فى سلام حقيقى، محبين لكنيستنا ووطننا وأعمالنا، ومجتهدين فى مدارسنا لأن الرسالة الحقيقية للكنيسة كانت واضحة جدًا. وهنا سوف أسجل كيف فقدت الكنيسة رسالتها. وأود أن أقول كل ذلك بسبب ما حدث يوم الأحد ٤ نوفمبر ٢٠١٢ والرب شاهد على كل شىء!.
فى مدينة الإسكندرية كان لدينا شاب تقى، سيم كاهنًا باسم الأب بيشوى كامل إسحق فى ٢ ديسمبر ١٩٥٩ فى عصر البابا كيرلس السادس، وكان هناك تسامح فى الشارع المصرى فى بناء الكنائس، وبالأخص فى الأحياء الفقيرة حُبًا من المصريين للبابا كيرلس السادس. نحو عام ١٩٦٣ فكر هذا الكاهن فى بناء كنيسة صغيرة فى منطقة فقيرة جدًا تُسمى «الحضرة». أخذ يتجول فى المنطقة ليتعرف على أحوال الناس، ثم وُفق إلى مكان يبنى فيه الكنيسة، لكن استرعى انتباهه حالة البؤس التى يحيا فيها سكان المنطقة. وبعد أن أتم بناء الكنيسة بالحب، فكر جديًا فى أن يقيم فى نفس المنطقة فى عشة من الصفيح مثل التى يقيم بها سكان المنطقة، وعرض الموضوع على زوجته لكنها رفضت!، فقال لها: «أليس من واجبنا أن نحيا مثل هؤلاء الناس الفقراء حتى نخدمهم من كل قلوبنا، وحتى نكون أمناء فى خدمتنا لهم»، انتهى الأمر برفض الزوجة لكنه عاش يشفق على هؤلاء الفقراء وكان يرافقهم فى ليالى الأعياد ويأكل معهم.
على النقيض من ذلك توجد مناطق فقيرة بغرب الإسكندرية يشرف عليها أسقف. أرادت إحدى الهيئات الأجنبية أن تساعد هؤلاء الفقراء، فأرسلت مندوبًا لها ليتجول فيها ويتعرف على الحالة المعيشية. وبعد أن أنهى المندوب جولته ذهب إلى أسقف المنطقة المسئول ليقدم له مبلغًا من المال يساعد به هؤلاء الفقراء. لكن ما أن دخل مقر الأسقف حتى فوجئ أنه يحيا فى «قصر»! وكأنه منفصل تمامًا عن شعبه! فما كان من الرجل الأجنبى إلا أن قدم للأسقف التحية وانصرف تمامًا بعد ما شاهد أن الأسقف لا يهتم بأحوال شعبه! فلتكن الخدمة نابعة من القلب لا بالشعارات البراقة.
فى أيامنا هذه قامت أسقفية نيويورك بعمل أيقونات «بالذهب عيار ٢٢»، وذلك لوضعها فى الجناح الرئيسى للإقامة، الذى أقام فيه بطريرك الأقباط لمدة ثلاثة أيام، وبعد ذلك أصبح مقرًا لإقامة أسقف نيويورك، وقد تم وضع عدد من الأيقونات «الذهبية» فى الكنيسة التى يقع فيه الجناح! وفى نفس الوقت تم وضع حجر أساس لمقر بابوى بمدينة نيويورك، كيف يحدث هذا والغلابة فى مصر لا تجد المأكل، كما أن المقرات البابوية تعددت فى أماكن كثيرة فى داخل مصر وأوروبا وأمريكا، وكل أسقف يود أن يتقرب للبطريرك يقيم له مقرًا، حتى إن أحد الأساقفة فى شرق الإسكندرية- وبالتحديد فى منطقة المندرة- قام بشراء ٦ شقق متجاورة تطل على البحر مباشرة بخمسة ملايين جنيه وقام بفتحها على بعض، من أجل إقامة البطريرك- حسب قوله- مع أن الكتاب المقدس يسجل لنا أن «السيد المسيح لم يكن له أين يسند رأسه»، ويوجد هنا فى مصر أطفال يبكون طوال الليل بصراخ شديد بسبب الجوع!.
اعتدنا منذ صغرنا أنه فى أوقات الضيقات نلجأ إلى الله، وفى أوقات الفرح نشكر أيضًا الله. وعلمتنا الكنيسة فى صلواتنا اليومية أن نردد بعضًا من مزامير داود النبى ومنها: «عِنْدَ كَثْرَةِ هُمُومِى فِى دَاخِلِى، تَعْزِيَاتُكَ تُلَذِّذُ نَفْسِى». حتى إن البابا كيرلس السادس اعتاد أن يقول لأولاده: «كن مطمئنًا جدًا جدًا، ولا تفكر فى الأمر كثيرًا، بل دع الأمر لمن بيده الأمر». لكن أعتقد أن بعض رجال الدين- الذين تحول الدين لديهم إلى مهنة بدلًا من رسالة روحية صادقة- لا يدركون تلك المبادئ البسيطة، حتى إن أحدهم فى إحدى الندوات قال: «فى وقت الضيق كنت ألجأ لكاريكاتير صلاح جاهين»، اقشعرى أيتها السموات وابهتى أيتها الأرض، فقد صار صلاح جاهين مُعزيًا لنا فى همومنا!، بلا شك أن هناك خلطًا غير مقبول، وتضليلًا للشعب، بل أكثر من ذلك إنه نفاق رخيص!.
هل لم يتتلمذ هذا المسئول على الكتاب المقدس، وأقوال آباء الرهبنة، وأقوال آباء الكنيسة الأولين، وكتاب بستان الرهبان؟. أقول لا لأن الله لم يعد موجودًا فى محور حياته، وأسوأ شىء هو عدم صدق رجل الدين فى قوله، حدث عند رحيل مطران القدس منذ نحو ٤ سنوات أن قام البطريرك بتبرير سفره إلى القدس بقوله «إن المطران يجب أن يصلى عليه البطريرك»، وعند رحيل مطران دمياط فى ٣ أكتوبر ٢٠١٨ والبطريرك موجود فى أمريكا، قام بإيفاد مندوبين للصلاة ولم يعود خصيصًا، أين الصدق فى القول؟.
كان المرشحون المناسبون لأسقفية الإسكندرية «لأن البابا هو أصلًا أسقف الإسكندرية» لا يريدون أن تكون لهم علاقة بالرتب الكنسية، فلم يكن يوجد من بين رهبان الأديرة من كان يتمنى قبول المناصب الكنسية، ومن هنا كانت الكنيسة تحيا فى سلام حقيقى بلا نزاعات. اختفت تلك التقاليد الرائعة واشتد الصراع بين الساعين لتلك المناصب الكنسية من بين المطارنة والأساقفة، ربما فى جيلنا رأينا صورة الزهد مرة واحدة فى عام ١٩٥٩ عند إقامة الراهب الناسك والفقير «مينا البراموسى المتوحد» دون إرادته وصار أسقفًا للإسكندرية فى عام ١٩٥٩ باسم البابا كيرلس السادس.
عندما احتفلت الكنيسة القبطية بإيبارشية المعادى بحضور البطريرك وبعض الأساقفة والكهنة بمرور ١٠٠ عام على تأسيس خدمة مدارس الأحد، أقامت الاحتفال بمقر «نادى وادى دجلة»! هل يُعقل هذا؟، أما ما حدث فى نيويورك- أثناء زيارة الرئيس السيسى مقر الأمم المتحدة- من شحن للأقباط بالمهجر للخروج والهتاف حاملين رايات الصليب وصورتى الرئيس والبطريرك، يقودهم أسقف أسيوط الذى سافر خصيصًا من أجل هذا العمل، فشىء مؤسف، استنكره الأقباط والمسلمون معًا، وكتبت عنه بكل أمانة الإعلامية القديرة د. دينا عبدالكريم بجريدة «المصرى اليوم» بعدد ٢٣ سبتمبر ٢٠١٨، وختمت كلمتها- موجهة رسالتها لرجال الدين المسيحى- بقولها: «..احترموا عقولنا وصورتنا أرجوكم». هذا خلط بين الدين والسياسة. حالنا صار يُبكى، للأسف ضاعت الرسالة الحقيقية للكنيسة، وهذا هو سبب فقدان الثقة فى رجال الدين، بل هو سبب الإلحاد الذى انتشر فى أيامنا هذه.