رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

لماذا يكرهون القضاء؟


حاول الإخوان ومن شايعهم عبر تاريخهم النيل من القضاء المصرى وتشويه أحكامه، وسار وراء الإخوان مجموعة من الإمعات يهللون لكل ناعق، وقد لا ينتبه الكثيرون إلى أن هجوم الإخوان على القضاء المصرى له أسبابه الخاصة، ليس من بينها قضية العدل ولكنها تستند إلى اعتقادهم الفاسد بأن هذا القضاء «جاهلى» وأن القوانين التى يستند إليها جاهلية، لأنها تشريعات وضعية لا إلهية، وهم يحرمون بصفة مطلقة أن يتحاكم الناس إلى قوانين تسنها مجالس تشريعية ويعتبرون أن هذا هو «الحكم الجاهلى».
ورغم أن هذه الاعتقادات هى مجرد سخافات وأباطيل خرجت من عقول ضعيفة ومريضة، إلا أن هذه الأباطيل وجدت هوى فى نفوس مريضة فشاركوا فى محاولات تشويه القضاء، ومن المؤسف أن عددًا من العلمانيين الذين يسيرون بغرابة كالبعير خلف الإخوان قدموا فى الأشهر الماضية شكاوى ضد القضاء المصرى فى المفوضية السامية لحقوق الإنسان فى الأمم المتحدة، وكأنهم يريدون استعداء المنظمات الدولية ضد مصر تمهيدا لتوقيع عقوبات علينا، وأنا بحكم تخصصى أجدنى منحازا للقضاء المصرى، وبعيدًا عن الانحياز فإن القضاء المصرى يعتبر- مقارنة بالأنظمة القضائية العالمية- مدرسة قضائية عريقة لها تراثها ومبادئها، قد أبدع رواد هذه المدرسة فى خلق نوع من الأدب الرفيع هو «الأدب القضائى» ولعل نقاد الأدب يقدمون لنا دراسات عن حيثيات الأحكام القضائية ذات اللون الأدبى الرفيع، ومنها أحكام عبدالعزيز فهمى وصولا إلى أحكام المستشار الراحل عوض المر، أما أنا فَلَو تفرغت لكتابة المجلدات عن أحكام المحكمة الدستورية التى انتصرت فيها للحريات لما وسعنى الجهد.
ورغم ذلك فإن القضاء المصرى تعرض عبر سنوات ماضية، ولا يزال يتعرض، لهجوم جاحد ظلوم غشوم، ولَم ينتبه أحد من مثقفى هذه الأمة ونخبها فى الحقب الماضية إلى أن الإخوان كانوا هم مقدمة هذا الهجوم أو كما يقال: هم «سن الرمح» لأسباب عقائدية فاسدة، وكان بعض أطياف القوى السياسية للأسف يسير كالإمّعات خلف دعايات الإخوان دون أن تمتلك بصيرة أو رؤية، نعم كان يصدر العديد من الأحكام التى لا تلقى هوى من البعض، فيصف القضاء كله بـ«الظالم» وكانت بعض الأحكام تصدر لهوى فى القاضى نفسه الذى أصدرها، فيشتكى صاحب الشأن وتقوم مؤسسة القضاء بتطهير نفسها من القضاة الفاسدين، يحدث هذا فى كل العالم وفى أى نظام قضائى، فى أوروبا وأمريكا وبلاد «تركب الأفيال».
ولكن انتبه يا سيدى، ففارقٌ بين أن تقول إن الحكم الذى صدر كان فاسدًا، وأن تقول إن القضاء فاسد، فهذا غير ذلك، وهذه غير تلك، والقضاء المصرى بتاريخه العريق كان دائمًا فى نصرة المظلوم، وعندما كانت السلطة تتغول على حريات المواطنين لم يكن المواطن يجد سندًا له إلا فى القضاء، بل إن القضاء المصرى كان هو النظام الوحيد الذى انتصر بطريقة تجديدية رشيدة لمبادئ الشريعة الإسلامية، ولكن ماذا تقول فى دعايات الإخوان، وماذا تقول فى جمهرة من السطحيين الذين قدموا أنفسهم للأمة على ظن أنهم يفهمون وهم لا يمتلكون من الأصل أدوات الفهم، وليست لديهم إلا أدوات الأتباع، ولكى يكون كلامى عمليًا وليس نظريًا، فسأكتب لك اليوم ماذا قال الإخوان عن القضاء والقوانين التى ابتكرناها لتدير شئون حياتنا، ثم سأكتب لك جواهر مستقرًا عليها فى القضاء المصرى. قال الإخوان: «أيها الأخ: يجب أن تقاطع المحاكم الأهلية وكل قضاء غير إسلامى، وكذلك الهيئات التى تناهض فكرتك الإسلامية مقاطعة تامة». (حسن البنا، رسالة التعاليم، البند الخامس والعشرون). وقال الإخوان: «قيام مملكة الله فى الأرض، وإزالة مملكة البشر، وانتزاع السلطان من أيدى مغتصبيه من العباد ورده إلى الله وحده.. وسيادة الشريعة الإلهية وحدها وإلغاء القوانين البشرية.. كل أولئك لا يتم بمجرد التبليغ والبيان، ومن ثم لم يكن بد للإسلام أن ينطلق فى الأرض لإزالة الواقع المناهض لمملكة الله». (سيد قطب- معالم فى الطريق).
وقال الإخوان: «أى قضاء يحكم بغير ما أنزل الله هو قضاء فاسد من حيث التصور». (مصطفى مشهور- من التيار الإسلامى إلى الشعب المصرى). وقال الإخوان: «إن القضاة فاسدون ومفسدون، وقد قاموا بحل مجلس الشعب السابق، ولذلك سنقوم باستصدار قانون للسلطة القضائية يتم بمقتضاه الإطاحة بعدد ٣٥٠٠ قاضٍ من مناصبهم وإقصاؤهم، ومن أدلة فساد القضاء والقضاة إصدارهم حكما ببطلان تعيين المستشار طلعت عبدالله كنائب عام». (مهدى عاكف، المرشد السابق للإخوان فى تصريح له لجريدة الجريدة الكويتية). هذا بعض مما قاله الإخوان، فما كلمة القضاء للشعب المصرى؟.. اسمع يا سيدى واعرف ولا تكن من الجاهلين: «إن أسمى القيم الإنسانية، وأهمها هى العدل الذى يتحقق به السلام الاجتماعى، وهو الذى يتحقق به استقرار المجتمع وسلامته، ولا يتحقق العدل إلا بقضاء عادل يمثل ضمير الأمة من خلال سلطة قضائية محايدة مستقلة تُنْزل حكم القانون على الكافة دون تمييز» (المستشار حسام عبدالرحيم).
‏وفى حكم رائع للمحكمة الدستورية يصلح كمعيار فى تجديد الخطاب الدينى قالت: «شريعة الله جوهرها الحق والعدل، والتقيد بها خير من فساد عريض، وانغلاقها على نفسها ليس مقبولًا ولا مطلوبًا، ذلك أنها لا تمنح أقوال أحد من الفقهاء فى شأن من شئونها، قدسية تحول دون مراجعتها وإعادة النظر فيها، بل وإبدالها بغيرها، فالآراء الاجتهادية فى المسائل المختلف عليها ليس لها فى ذاتها قوة متعدية لغير القائلين بها، ولا يجوز بالتالى اعتبارها شرعًا ثابتًا متقررًا لا يجوز أن ينقض، وإلا كان ذلك نهيًا عن التأمل والتبصر فى دين الله تعالى، وإنكارًا لحقيقة أن الخطأ محتمل فى كل اجتهاد.
بل إن من الصحابة من تردد فى الفتيا تهيبًا، ومن ثم صح القول بأن اجتهاد أحد من الفقهاء ليس أحق بالاتباع من اجتهاد غيره، وربما كان أضعف الآراء سندًا، أكثرها ملاءمة للأوضاع المتغيرة، ولو كان مخالفًا لآراء استقر عليها العمل زمنًا تلك هى الشريعة الإسلامية فى أصولها ومنابتها، متطورة بالضرورة، نابذة الجمود، لا يتقيد الاجتهاد فيها- وفيما لا نص عليه- بغير ضوابطها-الكلية، وبما لا يعطل مقاصدها التى ينافيها أن يتقيد ولى الأمر فى شأن الأحكام الفرعية والعملية المستجيبة بطبيعتها للتطور، لآراء بذاتها لا يريم عنها، أو أن يقعد باجتهاده عند لحظة زمنية معينة تكون المصالح المعتبرة شرعًا قد جاوزتها». (الدعوى رقم ٨ لسنة ١٧ قضائية المحكمة الدستورية العليا).
وفى حكم رائع لمحكمة النقض عن خضوع كل سلطات الدولة للقانون بما فيها سلطة رئيس الدولة، حكمت المحكمة بأنه: «مؤدى نصوص المواد ٦٤ و٦٥ و٦٨ و٥٧ و٦٢ من الدستور، أن الدولة بجميع سلطاتها تخضع للقانون، شأنها شأن الأفراد، فلا سيادة لأحد فوق القانون، وأن لكل مواطن الحق فى التقاضى، وفى أن يلجأ إلى قاضيه الطبيعى مطالبًا بحقه، فيصدر القاضى حكمه وفقًا للقانون، وإلا اعتبر منكرًا للعدالة ومرتكبًا لجريمة يعاقب عليها القانون، ولا تسقط الدعوى الجنائية ولا المدنية عنها بالتقادم». (محكمة النقض، الطعن رقم ٥٣٨ لسنة ٤٦ ق جلسة ١٩٨٣٢٢٧ س ٣٤ ص ٥٦٣).
ولو تفرغت لشهور طويلة لكتابة الأحكام القضائية التى صدرت من محكمة النقض وأصبحت مبادئ مستقرًا عليها لما كفتنى الأشهر، ولو تفرغت لكتابة المجلدات عن أحكام المحكمة الدستورية التى انتصرت فيها للحريات لما وسعنى الجهد، ولكننى بقدر المساحة المتاحة نقلت للأمة ماذا قال الإخوان عن القضاء والقانون، وماذا قال القضاء للأمة، وكل ما أطلبه هو أن يسكت الجهلاء إلى الأبد عن الخوض فى سيرة القضاء، خاصة وقد تأكد لنا جميعًا أن طائفة الجهلاء ما هم إلا مجرد إمعات، ويقينى أن الانتصار للقضاء يتطلب أولا القضاء على الإخوان.